الغنيمة

 نادين غورديمير حاصلة على جائزة نوبل 1991




في يوم من أيام عصرنا الحالي ، حدث زلزال قوي: ولكنه في هذه المرة كان أكبر ما تم تسجيله قوة منذ إختراع مقياس ريختر والذي أتاح لنا قياس التحذيرات الغامضة. ولقد أدى هذا الزلزال إلى تغييرات واسعة النطاق، فهذه الهزات تتسبب غالباً في إحداث فيضانات، بينما هذا الزلزال الضخم أحدث فعلا عكسياً، فقد تراجع المحيط. وانزاح الستار عن الطبقة الأكثر غموضاً من عالمنا وهو قاع البحر بما يحتويه من حطام السفن الغارقة وواجهات المنازل وأوعية دورات المياه وشاشات التلفاز وعربات البريد وأجسام طائرات وتماثيل من الرخام ومدافع كلاشينكوف والأجزاء المعدنية من حافلات السائحين وغسالات أطباق أتوماتيكية وحاسب آلي وعملات تحولت إلي أحجار. أما النظرات المذهولة فقد وضحت بين كل هذه الأشياء، وكانت للسكان الذين هربوا من منازلهم المهدمة إلى التلال. وعلى الرغم من الصرخات والإنهيارات الأرضية التي تسببت في رعبهم ، فقد كان يسيطر على المكان الصمت العاري. وتلألأ زبد البحر فوق كل هذه الأشياء، ومن المفترض أن الوقت لا ولم يتواجد هناك على الإطلاق حيث أن مادية الماضي والحاضر لم يكن لها ترتيب زمني، حيث أن الجميع كانوا شخص واحد وكانوا لاشيء. وقد هرع الجميع لأخذ كل ما يستطيعون وضع أيديهم عليه وخاصة الأشياء التي كانت تعتبر ذات قيمة في وقت ما، ولكن ماهذا؟ حسناً، شخصاً ما يعلم، هذا لابد أنه يخص أحد الأغنياء، ولكنه ملكي الآن. وإذا لم تقم بسلب كل شىء هناك، فشخص أخر سيقوم بذلك، وزلت الأقدام وانزلقت على العشب البحري وغرقت داخل الرمال المشبعة بالماء وفغرت نباتات البحر فمها في دهشة نتيجة لأفعالهم، ولم يلحظ أحد عدم وجود أي أسماك، فقد أزيلت الكائنات الحية لهذه الأرض التي تم إكتشافها مع المياه. أما الفرصة العادية التي أتيحت للمواطنين لنهب المتاجر أثناء الإنتفاضات السياسية لا يمكن مقارنتها بما حدث. ومنحت البهجة المتسمة بالعربدة كل من الرجال والسيدات وأطفالهم القوة للتخلص من كل شىء لم يرغبوا به داخل الوحل والرمال ، بالإضافة إلى الإسراع من مشيتهم المذهلة أثناء تجولهم، وهذا كان يمثل أكثر من مجرد ربح نتيجة لظروف طارئة، حيث كان سلب لقوة الطبيعة والتي كانوا يهربون أمامها عاجزين. خذ، خذ؛ واستطاعوا تناسي حطام منازلهم وفقد ممتلكاتهم هناك أثناء عمليات السلب. وقد خرقت صيحاتهم لأحدهم الأخر الصمت الذي كان يلف المكان وأثناء هذه الصيحات التي كانت تشبه صيحات طائر النورس الغائب، لم يلتفتوا إلى قرب صوت بعيد يماثل الرياح الشديدة. وعندئذ عاد البحر مرة أخرى وابتلعهم لينضموا إلي كنوزه.







نادين غورديمير:
كاتبة من جنوب أفريقيا، ولدت  في نوفمبر 1923 في مدينة صغيرة بإقليم ترانسفال بجنوب أفريقيا وتوفيت سنة 2014. عائلتها برجوازية، وقد كبرت في بيئة التفرقة العنصرية التي كانت ترى تفوق العرق الأبيض على نظيره الأسود ولكنها لم تكن تحمل التفرقة العنصرية والمشاكل العرقية في بلدها. وبدأت الكتابة عندما كان عمرها تسع سنوات ونشرت قصتها الأولى عندما بلغت من العمر 14 عاما ولكنها لم تجتذب الكثير من الإهتمام حتى نشرت الرواية الأولى "أيام الكذب" عام 1953. وفازت بجائزة نوبل في الأداب عام 1991 وكانت المرة الأولى التي تمنح فيها الجائزة لسيدة خلال 25 عاما.


دون كيشوت


 ملخص رواية "دون كيشوت"
للكاتب الاسباني ميغيل دي سرفانتس






دون كيشوت هو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين، بورجوازي متوسط الحال يعيش في احدى قرى اسبانيا ابان القرن السادس عشر لم يتزوج من كثرة قراءاته في كتب الفروسية كاد يفقد عقله وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية ثم يبلغ به الهوس حدا يجعله يفكر في ان يعيد دور الفرسان الجوالين وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الارض ويخرجون لكي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين.

فأعد عدته للخروج بان استخرج من ركن خفى بمنزله سلاحا قديما متآكلا خلفه له آباؤه فأصلح من امره ما استطاع، واضفى على نفسه درعاً، ولبس خوذة وحمل رمحا وسيفا وركب حصاناً اعجف هزيلاً.
وانطلق على هذه الهيئة شأن الفرسان السابقين الذين انقرضوا منذ أجيال.

ثم تذكر وهو سائر في طريقه فرحاً مزهواً ان الفارس الجوال لا بد له من تابع مخلص أمين، فعمد الى فلاح ساذج من ابناء بلدته وهو سانشو بانزا فيفاوضه على ان يكون تابعاً له وحاملاً لشعاره، ويعده بان يجعله حاكماً على احدى الجزر حين يفتح الله عليه، ويصدقه سانشو ويضع خرجه على حماره ويسير خلف سيده الجديد.



كان سانشو بانزا ضخم الجثة بعكس صاحبه دون كيخوتي الطويل الهزيل، وتنشأ المفارقات المضحكة ابتداءً بمنظر الرجلين ثم تستمر على طوال هذه الرواية الكوميدية ذات الأسلوب الجميل والخفيف.

شخصية دون كيخوته من النماذج الانسانية العليا وهي شخصية
مغامرة حالمة تصدر عنها قرارات لاعقلانية، اما رفيقه سانشو فيمثل بدن الانسان، هذا الرفيق الاصيل للروح.

 
معركة طواحين الهواء:

واول المعارك التي سعى هذا الفارس الوهمي الى خوضها كانت ضد طواحين الهواء اذ توهم ( ولم يكن شاهد مثلها من قبل!) انها شياطين ذات اذرع هائلة واعتقد انها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها غير مصغ الى صراخ تابعه وتحذيره ورشق فيها رمحه فرفعته اذرعها في الفضاء ودارت به ورمته ارضا فرضّت عظامه.

معركة الأغنام:

ثم تجيء بعد ذلك معركة الاغنام الشهيرة فلا يكاد دون كيشوت يبصر غبار قطيع من الاغنام يملأ الجو حتى يخيل اليه انه زحف جيش جرار فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي اتاحها له القدر ليثبت فيها شجاعته ويخلد اسمه وتنجلي المعركة عن قتل عدد من الاغنام وعن سقوط دون كيشوت نفسه تحت وابل من احجار الرعاه يفقد فيها بعض ضروسه.


سانشو التابع المظلوم:
 

ولا يسلم سانشو المسكين خلال مغامرات سيده المزعوم من الأذى، فالبرغم من انه يحب السلم ويؤثر السكينة على القتال فإن المشكلة تجىء من ان دون كيشوت بوصفه فارساً لا يباح له الا قتال الفرسان فاذا جاء العدوان او الاستفزاز من مدنيين، فقد وجب ان يتكفل بهم سانشو، والنتيجة الحتمية لذلك ان يتحمل سانشو الكلمات والصفقات والضرب بالعصى والرجم بالحصى والتقاذف في الملاءات! تماما كما حدث مع فريق من التجار الذين احتك (بدون قصد) فرس دون كيشوت بافراسهم اثناء مسيرته، وكما حدث مرة اخرى عندما رفض دون كيشوت ان يدفع اجر مبيتهما في فندق على الطريق اذ توهم انه بات ليلته في قلعة من قلاع الفرسان.

وتتوالى مغامرات دون كيشوت الذي يجرجر وراءه تابعه المغلوب على امره وتتوالي هزائمه في كل المعارك التي خاضها وهو في كل مرة يدرك انه قد هزم بالفعل، ولكنه لا يفسر الأمر على الوجه الصحيح فيرجعه الى جنونه هو، وانما يفسره على ان خصومه من السحرة قد ارادوا حرمانه من نصر مؤكد فمسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء ومسخوا الفرسان المحاربين الى اغنام.
 

الصراع بين المثالية والواقعية:

ثم نجد كيخوتى، الذي جلد سانشو قبل قليل لاعتقاده أن معلمه  يعرف أن دولوسينيا ليست فائقة الجمال. إنه يعرف أنها مجرّد فتاة قروية سوقية، لكنها أنبل من أن تبقى كذلك، ينادي على سانشو: " تعال، يكفي أن أراها أنا جميلة وشريفة... لقد رسمتها في مخيلتي كما أريدها أن تكون." إننا لا نعرف هنا من يسخر من من، ومن نحن لنشرّع الفرق بين الحلم والحقيقة؟ إننا الممثلون والجمهور معاً في تمثيلية تحذيرية.

هنا ينقض دون كيخوتى على عرض دمى متحركة ويقطع رأس الجنود-الدمى، ليمنعهم من اعتقال عاشق وأميرته وهما هاربان معاً إلى أحضان الحرية. ثم يعوّض بعدئذٍ صاحب الدمى بسخاء لقاء "دين الشرف" هذا.


 في الفصل الأخير نرى التركيب النهائي:

يتبرأ دون كيخوتة المحتضر من " أشباح الجهل السوداء" التي جاءته من القراءة " من كتبي البغيضة عن الفروسية". ويندم على شيء واحد فقط وهو عدم امتلاكه الوقت الكافي لقراءة " كتب أخرى يمكن أن تنير الروح".

القصة قدمت الصراع الدائم بين الخير والشر- الحياه والموت -الواقعية والمثاليه وبينت واقع عملي نفعي يفرض وجوده على البشر. فدون كيشوت كان قصده الاصلي ان ينشر الحق والعدل والقيم النبيلة.
لكن صار فى طريق غلط وهو طريق الاوهام وانتهى عمله الى لا شيء وتحولت الامور الى اسوأ، بينما تابعه سانشو بانزا يمثل الواقعية التي تطلب الفائدة الملموسة والنفع القريب.
 

الروايه تبين كيف ان الانسان ممكن ان يتصارع مع اوهام وخرافات هو مؤمن بها وفي النهايه لا يكسب شيء بل يخسر اشياء كثيرة منها حياته.



 
 ميغيل دي سرفانتس:
ولد سرفانتس عام 1547 في قرطبة وهو روائي وكاتب مسرحي وشاعر اسباني نشر عام 1605 الجزء الاول من رواية (دون كيشوت دي لامانتشا) وتلفظ احياناً (دون كيخوتة) اما الجزء الثاني فلم يظهر سوى عام 1615 وهي اروع الكتب في الادب العالمي. قضى معظم حياته في العصر الذهبي في اسبانيا عندما كانت سفنها غنية ويتكلم المثقفون لغتها وادبها معروف في انحاء اوروبا لكنه لم يذق طعم الازدهار والرخاء وتوفي في سنة 1616. مات فقيراً معدماً ولم يتذوق طعم الشهرة التي نالها بعدئذٍ. 
 كانت حياته حافلة بالأحداث والمغامرات، فقد شارك في معركة "ليبِنْتي" البحرية ضد العثمانيين، وفقد على أثرها إحدى ذراعيه، فلقِب بـ"أكتع ليبنتي". إلا أن ذلك لم يكن ليثني عزمه عن المغامرة من جديد، غير أن حظه العاثر قاده إلى الأسر في إحدى تحرشات الأسطول الإسباني على مدينة الجزائر بعد أن تم القبض عليه في ضواحي المدينة من طرف جنود سلطان الجزائر، أمضى خمسة أعوام في سجون مدينة الجزائر، لم يخرج منها إلا بعد أن تم دفع فديته.
 كانت حياته شاقة وصعبة بحيث أن الديون أثقلت كاهله مما اضطره إلى الاستدانة طيلة الوقت وسجن أكثر من مرة لعجزه عن تسديد ديونه.



حذاء...وطبقية

أخيرا رضخ والدي لرغبة أمي في أن ترى قدميه في حذاء جديد، مر وقت طويل وهي تحاول اقناعه أن حذاءه أصبح بالياً جداً ولم يعد يصلح للاستعمال، وبالفعل كان حذاء أبي مشققاً ممزقاً بدرجة كبيرة، ويبدو أن خبر موافقة ابي على التوجه للمدينة لشراء حذاء جديد قد شاع في الحي، وها هم الجيران يدلون بدلوهم في الموضوع ويقدمون اقتراحاتهم، جارنا حارس الغابة السيد كارلسون اقترح على أبي أن يشتري نوعية اسمها بوكسكالف، من الجلد القوي وتدوم طويلا كما قال، وسعرها مناسب باعتقاده.
سألني أبي ان كنت أرغب في مرافقته للمدينة لشراء الحذاء الجديد، وافقت طبعاً، وكنت أعلم أن أبي يسعد بصحبتي، ويأنس بوجودي الى جواره، أبي كان رجلاً بسيطاً وخجولاً.
في الحي القديم من المدينة بحثنا طويلا عن عنوان محل الأحذية الذي وصفه جارنا السيد كارلسون.
سرنا طويلاً، وبعد تيه وجدنا أنفسنا أمام محل كبير للاحذية، لم نصدق ما رأت أعيننا لحظة دخولنا المحل ذو الواجهات الزجاجية الجميلة اللامعة، كانت المرايا الصقيلة المذهبة الأطر تنتشر في كل ركن من اركان المحل، وعمال المحل من الجنسين بملابسهم الأنيقة يتنقلون بين الزبائن ويساعدونهم على اختيار الأحذية المناسبة، الزبائن ومعظمهم من النساء كانوا على درجة عالية من الأناقة، وتضوع منهم روائح العطور الثمينة.
تقدمت احدى البائعات منا وسألت أبي
- تريد حذاء لك سيدي ام لابنك؟
- لي انا، ابني حذاؤه ما زال جديداً كما ترين.- ما هو القياس سيدي؟
- لا أعرف، ولكني أريده حذاء بوكسكالف
- عفواً، هذه النوعية لا نبيعها هنا، ثمة ماركة مما هو معروض هنا ترغب في تجربته سيدي؟
- نعم، ماركة غير بوكسكالف التي ليست عندكم
كنت اعرف أن أبي لا يعرف أي اسم لأي ماركة أحذية.
خلع أبي حذاءه، وأخذت البائعة فردة منه لتعرف قياس قدمه.
ولاحظت أنا الفرق بين قدمي أبي الكبيرتين الخشنتين، وأقدام الزبائن الاخرين.
تأملت احدى السيدات وهي تدخل قدمين جميلتين ناعمتين بجواربها الحريرية الشفافة في حذاء بديع الصنع، ثم رأيتها تسد أنفها وتمضي مبتعدة في اللحظة التي خلع بها أبي حذاءه.
انا احببت دائماً رائحة ابي، دائماً ظننت ان كل رائحة من جسم ابي طيبة وطبيعية، رائحة أنفاسه.. رائحة اقدامه .. رائحة عرقه. صدمت ان ثمة من ينفرون من رائحة ابي ولا يخجلون من اظهار نفورهم.
احضرت البائعة لابي حذاء ليجربه، وضع ابي قدميه في الحذاء الجميل، وبدت ملامح السرور على محياه وهو يخطو بضع خطوات فوق السجاد الاحمر الثمين. وبدا واضحاً جداً ان الحذاء اعجبه.- كم ثمنه؟ سأل البائعة
- هذا الحذاء سيدي من ماركة معروفة، ولزبون خاص مثلك نبيعه بثمان وعشرين كروناً. كنت اعرف أن ابي لا يملك سوى عشرة كرونات، وان امكاناته المالية تسمح بشراء حذاء لا يزيد سعره عن ثمانية الى ثمانية كرونات ونصف.
ورايت ابي يخلع الحذاء الجديد ويرتدي مسرعاً حذاءه القديم.
وسمعت ونحن نغادر المكان احد الزبائن المتغطرسين يسأل البائعة متأففاً. 
- كيف دخل هذا الى هنا؟
ولأول مرة وجدت في ضعف سمع أبي ميزة حسنة، اذ جنبته المزيد من الهوان بما جاء من تعليقات ساخرة من اولئك المتغطرسين. وفهمت يومها أن الاختلاف بين الفقير والغني ياخذ شكلاً هرمياً، يبدأ من القاعدة التي هي القدمين ونوع الحذاء....ويتنتهي بالقمة.... الراس ونوع القبعة التي نرتديها.
خرجنا من المحل، ورأيت على وجه أبي خيبة أمل واضحة لعدم حصوله على ذاك الحذاء الذي أعجبه، سرنا غير بعيد في سوق المدينة، فاذا نحن وجها لوجه أمام المحل الذي وصفه لنا السيد كارلسون، وهناك جرب أبي على عجل حذاء من نوع بوكسكالف الذي اقترحه جارنا، خلعه أبي وقال للبائع.
 - انه صلب ويضغط على الأصابع بشكل مؤلم، ابتسم البائع وعلق قائلاً
- أنت تعرف يا سيدي أن كل الأحذية الجديدة تكون كذلك قبل أن تعتادها القدم.
أبي الذي كان قد جرب منذ قليل حذاءً جديداً رائعاً مريحاً لم يصدق ما قاله البائع، ومع ذلك فقد نقد البائع ثمانية كرونات ونصف ثمن الحذاء، وحمل حذاءه الجديد تحت ابطه بعد أن لفه البائع بأوراق صحف قديمة ومضى.
وفهم أبي وفهمت أنا أن أحذية الفقراء فقط هي التي تؤلم الأقدام حين تكون جديدة.
وما زالت ذكرى ذلك اليوم الذي اشترى فيه أبي حذاءً جديداً تحرك في نفسي كل مشاعر الكره لطبقية بغيضة تشمل حتى ما يرتدي الانسان في قدمه.
  ايفار لو جوهانسن (1901 - 1990):

كاتب وصحافي وناقد اجتماعي سويدي ولد في أفقر طبقات المجتمع السويدي، طبقة منظفي مداخن الفحم، تمرد على الطبقية وتعلم ذاتياً، واحترف الكتابة، ومعظم كتاباته تنتقد الفوارق الطبقية.
كتب عن العمال والمزارعين، وكان ناشطاً سياسياً في شبابه. له العديد من الروايات والقصص القصيرة.





رسالة الى ايلين قصة ل الطيب صالح


بقلم الأديب السوداني الطيب صالح



عزيزتي إيلين، الآن انتهيتُ من فضّ حقائبي. أنت عظيمة ولست أدري ماذا أفعل بدونك. كل شيء يلزمني وضعتِهِ في الحقائب. تسعة قمصان "فان هوسن" ثلاثة منها لا تحتاج للكيّ. "أغسلها وأنشفها وألبسها". وأنت تعلمين أنني لن أفعل شيئاً من هذا القبيل. ربطة العنق التي اشتريتها لي في العام الماضي في بوند ستريت، وجدتها مع خمس كرافتات أخرى.
 "خمس كرافتات تكفيك... أنت لن تخرج كثيراً ولن يدعوك أحد لحفلة... وإذا دُعيت فلا تذهب". 
كم أحببتكِ لأنكِ تذكرتِ أن تضعي في حقائبي هذه الربطة... ربطة عنق قرمزية اللون، واحدة من ملايين الأشياء الصغيرة التي تشد قلبي إليك... في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بعد ثمانية أشهر من معرفتي إياكِ، في القطار الذي يسير تحت الأرض، الساعة السادسة والناس مزدحمون، ونحن واقفان وأنتِ متكئة عليّ، فجأة قلت لك "إنني أحبك... أريد أن أتزوجك". 
إحمرّ خداكِ والتفتَ الناس إلينا. طيلة ثمانية أشهر عرفتك فيها لم أقل لك أنني أحبك. كنت أتهرب وأداري وأزوغ. ثم فجأة وسط الزحام، في الساعة السادسة مساء، حين يعود الناس التعبين مرهقين إلى بيوتهم بعد عملٍ شاق طيلة اليوم، فجأة خرجت الكلمة المحرَّمة من فمي وكأنني محموم يهذي. لا أعلم أي شيطان حرّك لساني، أي ثائر أثارني، ولكنني شعرتُ بسعادة عظيمة، في تلك الساعة، في ذلك الجو الخانق، بين تلك الوجوه الكالحة المكدودة التي اختفت وراء صُحف المساء. ولما خرجنا ضغطتِ على يدي بشدة، ورأيتُ في عينيك طيفاً من دموع، وقلت لي "إنك مهووس. أنت أهوس رجل على وجه البسيطة. ولكنني أحبك. إذا رأيت أن تتزوجني فأنت وشأنك".  
ثمانية أشهر وأنا أتهرب وأحاور وأحاضر. أحاضرك في الفوارق التي تفرقنا. الدين والبلد والجنس. أنت من ابردين في سكتلندا وأنا من الخرطوم. أنت مسيحية وأنا مسلم. أنت صغيرة مرحة متفائلة، وأنا قلبي فيه جروح بعدُ لم تندمل. أي شيء حببني فيكِ؟ أنت شقراء زرقاء العينين ممشوقة الجسم، تحبين السباحة ولعب التنس، وأنا طول عمري أحنُّ إلى فتاة سمراء، واسعة العينين، سوداء الشعر، شرقية السمات، هادئة الحركة. أي شيء حبَّبكِ فيَّ، أنا الضائع الغريب، أحمل في قلبي هموم جيل بأسره؟ أنا المغرور القلق المتقلب المزاج؟ "لا تتعب عقلك في تفسير كل شيء. أنت حصان هرم من بلد متأخر، وقد أراد القدر أن يصيبني بحبك. هذا كل ما في الأمر. تذكر قول شيكسبير. كيوبيد طفل عفريت. ومن عفرتته أنه أصاب قلبي بحب طامة كبيرة... مثلك". 
وتضحكين، ويقع شعرك الذهبي على وجهك فتردِّينه بيدك، ثم تضحكين ضحكتك التي تحاكي رنين الفضة. وذهبنا إلى مطعم صيني واحتفلنا، وكنتُ نسيتُ أن اليوم هو يوم ميلادي. أنا لا أحفل بأمسي ولا بيومي وأنت تحفلين بكل شيء. أنت تذكرتِ، فأحضرتِ ربطة العنق القرمزية هذه. كم أحبكِ لأنك وضعتها بين متاعي.  
عزيزتي إيلين، هذه هي الليلة الأولى بدونك... منذ عام. منذ عام كامل. ثلاثمائة وخمس وستون ليلة، وأنت تشاركينني فراشي، تنامين على ذراعي، تختلط أنفاسنا وعطر أجسادنا، تحلمين أحلامي، تقرأين أفكاري، تحضِّرين إفطاري، نستحم معاً في حمام واحد، نستعمل فرشاة أسنان واحدة، تقرأين الكتاب وتخبرينني بمحتواه فأكتفي بكِ فلا أقرأه. تزوجتني، تزوجت شرقاً مضطرباً على مفترق الطرق، تزوجت شمساً قاسية الشعاع، تزوجت فكراً فوضوي، وآمالاً ظمأى كصحارى قومي. الليلة الأولى عداك يا طفلة من ابردين ـ وضعتها الأقدار في طريقي. تبينتك وآخيتني. "يا أختاه... يا أختاه". البذلة الرمادية التي تؤثرينها ـ "ثلاث بِدَل أكثر من الكفاية. رجل متزوج يقضي شهراً مع أهله لن يحفل بك أحد، ولن تهتم بك صبايا بلدك، ولا حاجة بك إلى هندمة نفسك والاعتناء بشكلك. ومهما يكن فإن شكلك لا تجدي معه هندمة. اذهب وعد إليّ سليماً: إذا ضحكت لك منهنَّ فتاة فكشر في وجهها". 
 اطمئني فلن تضحك لي فتاة. أنا في حسابهنَّ كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها. أنا في حسابهنَّ تجارة كسدت. لكن ما أحلى الكساد معك. الليلة الأولى بدونك. وبعدها ليالٍ ثلاثون كمفازة ليس لها آخر. سأجلس على صخرة قبالة دارنا وأتحدث إليك. أنا واثق أنك تسمعينني. أنا واثق أن الرياح والكهرباء التي في الأثير والهواجس التي تهجس في الكون، سترهف آذانها، وستحمل حديثي إليك. موجات هوج من قلبي، تستقبلها محطة في قلبك. حين تنامي مدّي ذراعك حيث أضع رأسي على الوسادة، فإنني هناك معك. حين تستيقظين قولي "صباح الخير" فإنني سأسمع وأرد. أجل سأسمع. أنا الآن أسمع صوتك العذب الواضح تقولين لي "اسعَدَ في عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا أتضوى وأنتظرك. ستكون مع أهلك فلا تنسَ إنك برحيلك ستتركني بلا أهل".
أتمّ الخطاب وثناه أربع ثنيات ووضعه في الغلاف، ثم كتب العنوان. ورفعه بين إصبعيه وتمعنه طويلاً في صمت كأن فيه سراً عظيماً. نادى أخاه الصغير وأمره بإلقائه في البريد. مرَّت بعد ذلك مدة لم يعرف حسابها، لعلها طالت أو قصرت، وهو جالس حيث هو لا يسمع ولا يرى شيئاً. وفجأة سمع ضحكة عالية تتناهى إليه من الجناح الشمالي في البيت. ضحكة أمه. واتضح لأذنيه اللغط، لغط النساء اللائي جئنَّ يهنئنَّ أمه بوصوله سالماً من البلد البعيد. كلهنَّ قريباته. فيهنَّ العمة والخالة وابنة العم وابنة الخالة. وظل كذلك برهة. ثم جاء أبوه ومعه حشد من الرجال. كلهم أقرباؤه. سلموا عليه وجلسوا. جيء بالقهوة والشاي وعصير البرتقال وعصير الليمون. شيء يشبه الاحتفال. سألوه أسئلة رد عليها، ثم بدأوا في حديثهم الذي ظلوا يتحدثونه طول حياتهم. وشعر في قلبه بالإمتنان لهم أنهم تركوه وشأنه. وفجأة تضخمتْ في ذهنه فكرة ارتاع لها. هؤلاء القوم قومه. قبيلة ضخمة هو فرد منها. ومع ذلك فهم غرباء عنه. هو غريب بينهم. قبل أعوام كان خلية حيّة في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلف فراغاً لا يمتلئ حتى يعود. وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها. أما الآن... أبوه احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة هي التي أزعجته. كأن إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة. "طويل الجرحِ يغري بالتناسي". وسمع صوت إيلين واضحاً عذباً تقول له وهي تودعه "أرجو من كل قلبي أن تجد أهلك كما تركتهم، لم يتغيروا. أهم من ذلك من أن تكون أنت لم تتغير نحوهم". 
 آه منك يا زمان النزوح.


 الطيب صالح (1929 - 2009 )، أديب سوداني  وأحد أشهر الأدباء العرب أطلق عليه النقاد لقب "عبقري الرواية العربية".
تنقل بين عدة مواقع مهنية فعدا عن خبرة قصيرة في إدارة مدرسة، عمل  لسنوات طويلة من حياته في القسم العربي لهيئة الاذاعة البريطانية، وبعد استقالته من البي بي سي عاد إلى السودان وعمل لفترة في الإذاعة السودانية، ثم هاجر إلى دولة قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. عمل بعد ذلك مديراً إقليمياً بمنظمة اليونيسكو في باريس، وعمل ممثلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي. ويمكن القول أن حالة الترحال والتنقل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبته خبرة واسعة بأحوال الحياة والعالم وأهم من ذلك أحوال أمته وقضاياها وهو ما وظفه في كتاباته وأعماله الروائية وخاصة روايته العالمية  موسم الهجرة الى الشمال (اعتبِرت واحدة من أفضل مئة رواية عربية).

كتابته تتطرق بصورة عامة إلى السياسة، والى مواضيع أخرى متعلقة بالإستعمار، والمجتمع العربي والعلاقة بينه وبين الغرب  والإختلافات بين الحضارتين الغربية والشرقية.
كتب العديد من الروايات التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة،  وتوفي في احدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن عام  2009

 

رواياته

  • موسم الهجرة الى الشمال
  • ضو البيت: أحدوثة عن كون الأب ضحية لأبيه وإبنه.
  • دومة ود حامد: ويتناول فيها مشكلة الفقر وسوء التعاطي معه من قبل الفقراء أنفسهم من جهة، واستغلال الإقطاعيين الذين لا يهمهم سوى زيادة أموالهم دون رحمة من جهة أخرى.
  • عرس الزين
  • مريود
  • نخلة على الجدول
  • المضيؤون كالنجوم من اعلام العرب والفرنجة
  • للمدن تفرد وحديث الشرق
  • للمدن تفرد وحديث الغرب
  • في صحبة المتنبي ورفاقه
  • في رحاب الجنادرية وأصيلة
  • وطني السودان
  • ذكريات المواسم
  • خواطر الترحال
  • مقدمات: وهو عبارة كتاب من القطع المتوسط جمعت فيه مقدمات كتبها الطيب صالح لمؤلفات أدبية.
Twitter Bird Gadget