تمثال المناضل

للكاتب البولوني : سلاومير مروجيك 


يقف في مدينتنا نصب تذكاري قديم: تمثال الجندي المجهول لثورة عام 1905. وقع هذا الجندي ضحية على يد الطاغية خلال الثورة، فأقام له رفاقه من المواطنين ضريحاً، وبعد مضي خمسين عاماً بنوا لذلك الضريح قاعدة، نقشوا عليها هذه الكلمة: "ستبقى ذكراك إلى الأبد" وأقاموا فوق القاعدة تمثالا لشاب يقطع قيده. وفي عام 1955 أماطوا اللثام عن النصب في حفل كبير، القيت فيه العديد من الخطب، ووضعوا إلى جانبه الكثير من الزهور، والأكاليل. بعد مضي فترة من الزمن، قرر ثمانية طلاب من مدرسة المدينة، ان يُعَبّروا عن تبجيلهم لهذا المناضل. فقد أثار مدرس التاريخ ذو الشفتان الحمراوتان مشاعرهم بعمق اثناء الدرس، بحيث اجتمعوا بعد انتهاء الدوام، واشتروا بمبلغ مشترك اكليلاً، ثم نظموا مسيرة صغيرة، واتجهوا صوب النصب.
عند اول ركن للشارع تقابلوا وجها لوجه مع شخص متوسط القامة يرتدي معطفا ازرق اللون، شزرهم بنظرة متفحصة، وراح يتتبع خطواتهم من مسافة معينة.
مروا بالساحة الرئيسية للمدينة، لم يعر لهم احد اي اهتمام، فقد إعتاد الناس مثل تلك التظاهرات.
لم تكن الساحة الرئيسية مأهولة بالسكان قط، ولم تحيط بها سوى بضع بنايات، كنيسة القديس يوحنا، وعدد من الدوائر الحكومية، وبيت قديم حول إلى متحف.
وحالما وصلوا إلى التمثال، اقترب الرجل ذو المعطف الأزرق نحوهم بخطى حثيثة، وهتف.
- الله يساعدهم ! تريدون ان تعبروا عن تبجيلكم ها ؟ رائع جداً. اليوم الذكرى السنوية، اليس كذلك؟ عملي يتطلب معرفة ذلك، ولكن لا اتذكر بالضبط...
- كلا، نحن جئنا هكذا... – قاطعه احد الأولاد.
- كيف يعني "هكذا" ؟ - سحب الرجل انفه، واستنشق بمنخره الهواء بنهم. – كيف يعني "هكذا" ؟
- وفاءً واحتراماً لذكرى هذا المناضل، الذي ضحى من اجل حرية الشعب.
- أي نعم. يعني إنكم جئتم من هذا الحي؟
- كلا. نحن جئنا من المدرسة.
- كيف هذا ؟ لايوجد بينكم أحد من سكان هذا الحي ؟
- كلا.
فكر بصمت.
- ربما حرَّضكم احد في المدرسة ؟
- كلا، نحن جئنا الى هنا طوعاً، رغبة منا.
عندما ذهب، حاول الطلاب وضع الأكليل، لكن احدهم صرخ:
- رجع.
حقاً، لقد ظهر الرجل ذو المعطف الأزرق من جديد، وتوقف على بعد عشرة أو اثنتي عشر خطوة منهم، ومن هناك سألهم:
- ربما في هذا الشهر يصادف الإحتفال بذكرى الجندي المجهول ؟
- كلا، اجابوه بصوت واحد. – جئنا طوعاً !
فذهب مرة ثانية. وضع الأولاد الأكليل، وتأهبوا للعودة، إلا أن الرجل عاد، وبصحبته شرطي هذه المرة.
توجه الشرطي نحوالأولاد قائلاً :
- إعطوني هوياتكم.
ناولوه هوياتهم المدرسية، تفحصها الشرطي بعناية، ومن ثم ادى لهم التحية وقال :
- حسناً !
- كيف تقول حسناً! – اعترض الرجل ذو المعطف الأزرق على قول الشرطي، والتفت نحو الطلبة.
- من ذا الذي امركم باحضار اكليل ٍ إلى هنا ؟
- لا أحد !. – اجابوه.
تألق وجه الرجل، وهتف :
- يعني انتم تعترفون ؟ يعني انتم متيقنين، ان المظاهرة هذه التي اقيمت إجلالا لذكرى المناضل، لم تكن بدعوى من مدير المدرسة، ولا من اتحاد الطلبة، ولا من لجنة الحي، ولا من لجنة المدينة؟
- بالطبع لا.
- يعني وضع الأكليل هذا، لم يبادر به اتحاد النساء، ولا جمعية اصدقاء شهداء عام الف وتسعمائة وخمسة؟ .
- لا والله .
- يعني، لم يصادف هذا اليوم اي ذكرى من هذا النوع ؟
- كلا، بالطبع.
- ولم يصلكم اي تعميم، وإنما جئتم طوعاً.
- نعم. جئنا طوعاً.
مسح بمنديله عرق جبينه وقال:
- أيها المفوض، تعرف من أنا، وما هي وظيفتي، هيا خذ منهم هذا الأكليل، وعلى الفور. وانتم ...هيا تفرقوا !
ترك الأولاد المكان بصمت، وكان الشرطي يخطو خلفهم حاملاً الأكليل. ولم يبقى عند النصب التذكاري سوى الرجل ذو المعطف الأزرق. راح يتطلع الى التمثال يراوده الشك، وجال ببصره في الساحة. بعدها بدأت قطرات المطر الصغيرة تتساقط على المعطف الأزرق، وعلى معطف المناضل الحجري. تعكر الجو، وتحول لون السماء والأرض الى رمادي. إنحدرت القطرات الفضية على رأس التمثال، وتأرجحت على اذنه الحجرية كالقراط، وتألقت عيناه الرطبتان المرمريتان.
هكذا ظلا واقفين احدهما يقابل الآخر .


سلاومير مروجيك ( Slawomir Mrozek): 

ولد الكاتب البولندي  عام 1930، عمل بالصحافة في احدى الصحف في مدينة كراكوف، بدأ مروجيك بكتابة قصص قصيرة  تتسم بالسخرية، ذات نهايات مقتضبة لكنها مفهومة المغزى. "الحصى" هو عنوان أول مجموعة صدرت له عام 1957، تبعتها "الفيل" عام 1967، والتي لاقت نجاحاً كبيراً حال صدورها. ترك العمل الصحافي في نهاية الخمسينيات، ليتفرغ لكتابة مسرحية "الشرطة" والتي صدرت عام 1958، ثم تبعتها ثمانية اعمال درامية. بعد استقالته من الحزب الشيوعي البولندي، عاش مروجيك في ايطاليا (1963-1968)، بعدها في فرنسا (1968-1989) ومن ثم في المكسيك (1989-1997).
تبقى مسرحيته الأولى "تانغو" التي كتبها عام 1964-1968 أطول وأشهر اعماله، والتي كانت لها شهرة كبيرة في ارجاء اوروبا.


دفتر الأبله

من الأدب الأرمني الساخر
هاكوب بارونيان

               

أيها السادة، لا تظنوا وأنتم تقرؤون هذا العنوان أنني تاجر مفلس أقدم حساباتي للعامة. يشرفني أن أعلن أنني لم أكن تاجراً في حياتي ولا أرغب في ذلك، لأنَّ ضميري لا يسمح لي ببيع البضاعة بقيمة ليرة ونصف لشخص غيري وقد اشتريتها بليرة واحدة.‏
قررت أن يكون لي دفتري اليومي دون أن أكون تاجراً، لكي أسجل فيه الأحداث اليومية، وأحياناً وانطلاقاً من الأحداث أسخر من الجرائد المعرضة للموت.‏
 لتتشكل أنهر من دموع ذرفتها عيون هرقل، وليقدم الشعراء الوطنيون الفرات ودجلة كعيني أرمينيا ويشرعون بالبكاء، وليقم السيد شوخادجيان بتأليف ألحان تبكيهم. أمَّا أنا أيها السادة فسأسخر، ولست بحاجة إلى ألحان أو بيانو كي أسخر.‏
إن البكاء على النقائص قمّة النقائص. وإن ذرف الدمع على البؤس هو برهان على أننا لا نملك إهراق الدماء. فالدمع من اختصاص الأطفال والنساء، أرجوكم لا تقتربوا من اختصاصهم.‏

لا يمكن أن تتصوروا كم سأشعر بالبهجة والسرور عندما أنجح وأجعلكم تضحكون من الأحداث والأشخاص التي سأتناولها في دفتري اليومي.‏
عندما نسخر من الميالين إلى الرذائل يفترض أن نكون على طريق الفضيلة. وبهذا، بقدر ما أحصد من الضحكات يقل عدد الناس الميالين إلى الرذائل.‏
ويجب أن لا ننسى تلك الفئة من الناس التي أقسمت ألا تضحك أبداً. فأنا لا أتعاطى معهم، ذلك لأنَّ اغتصاب ابتسامة من شفاههم أصعب من الحصول على الإصلاحات من الحكومة. وخاصة أنني لا أملك أية إعلانات ولا مشاورات ولا أسطول كي أمارس الضغط. ولكي تثقوا بالحياد الذي أتمتع به، أبيّن أنني في موقف لا يفرض علي التحيز.‏
المجد للعناية الإلهية فأنا لا أملك أصدقاء كي أتحيّز. لكي لا تظنوا أني سأتحدث بغرائزية، معاذ الله... المجد للشيطان، ولا أملك حتَّى أعداء. لا تندهشوا، أيها السادة، فأنا أعيش في هذا العالم كما تعيشون أنتم أحياناً على المسرح، أصبح فقط متفرجاً على العرض دون التدخل في شؤون الممثلين. بشكل عام، أنا أعيش بعيداً عن المجتمعات، وهذا هو سبب سعادتي.‏

ويدرج بارونيان تحت تواريخ مختلفة اليوميات التالية:


ـ1.‏
عندما كانوا يأخذون سيدة أرمنية لدفنها، جلست فجأة في التابوت وطلبت ماء لتشرب
 
  فأشارت جريدة (ماسيس) إلى الحادث بقولها: "هل يعقل أن يظن الإنسان الحي ميتاً في القرن التاسع عشر". وأنا أقول: "ولماذا إذاً وفي القرن التاسع عشر، يعتقد أن جريدة (ماسيس) حية وهي ميتة".‏



ـ 2 .‏
ـ كنت تقول يا أبي إن الاحمرار دليل على الخجل.‏
ـ نعم، عندما يخجل الإنسان من فعلته ويحمر وجهه فهذا يدل على أنه فاضل.

ـ إذاً أمي فاضلة جداً.‏
ـ لماذا.‏
ـ لأنها تجعل وجهها أحمر كل صباح.‏
آه، أيتها الألوان، وهل أنت تغيّرين من معناك إلى هذا الحد.‏



ـ 3 .‏
يتزايد عدد الأطباء في مدينتي يوماً بعد يوم. حتَّى أن لكل شخص طبيبين.

والحق أن كثيراً من الفقراء يموتون دون طبيب، ولكن كم من الأطباء يموتون دون مرضى.‏


ـ 4 .‏
ـ ألم تقدم الفحص يا بني؟‏
ـ نعم قدمته يا أبي.‏
ـ ألم يهد إليك أستاذك كتاباً يوم توزيع الشهادات؟‏
ـ كلا يا أبي.‏
ـ ولماذا؟‏
ـ لأنني أنا أيضاً لم أعط أستاذي شيئاً في عيد رأس السنة يا أبي.‏


ـ 5 .‏
عقد اليوم أيضاً اجتماع للنواب. وتغيب اليوم أيضاً العديد من النواب بسبب صحي.
 وحضر فقط من أصابه رشح خفيف. فالوصول إلى منصب في مجلس النواب له أساليبه، كشرب القهوة أو الشاي في البيوت.‏
ـ تفضلوا الشاي.‏
ـ شكراً، أنا لا أريد.‏
ـ أرجوك أن تقبل.‏
ـ تفضل أنت.‏
ـ وأنا أيضاً سأشرب.‏
ـ إذا شربت أنت، أقبل أنا أيضاً.‏
وأخيراً، يشرب الشاي.‏



ـ 6 .‏
اليوم اقتنعت أن المسرح مدرسة للأشخاص الكبار. لكن ماذا يدرس الكبار في تلك المدرسة. هنا تكمن المشكلة. فليصر
الآخرون على أنهم يدرسون الأخلاق هناك، وأنا أصر على أنه بالرغم من وجود درس الأخلاق لكن الطلاب يأخذون درس تكوين الجسد حيث أن المشاهدين يركزون انتباههم أكثر على ذراعي الممثلة ورقبتها وساقيها أكثر من الكلمات التي ستلقيها، وعندما يجدون ذراعي الممثلة جميلتين يقولون:‏
ـ كان عرضاً رائعاً جداً...‏
مساكين هؤلاء المؤلفون... يظنون أن الجمهور يصفق لأعمالهم... بينما في أغلب الأحيان يصفق لمؤلَف الممثلة...‏


ـ 7 .‏
أرى اليوم أن الغذاء له تأثير كبير على أفكار الإنسان. فأنا أعرف شخصاً كان يقضي حياته قبل سنة على الخبز والجبنة، وكل يوم كان يتكلم عن المواضيع الوطنية ولكن الآن بالرغم من أنه يتغذى على اللحم فإنه يلوم من يتحدث عن المسائل الوطنية.‏


ـ 8 .‏

ليست النساء فقط من يرغبن في تجديد ملابسهن، فهناك على الساحة نقاد يرغبون التحدث بشكل جديد.‏

أقدّم إليكم السيد الكاتب آدوم الذي يشغل منصب ناقد لمنشورات (ماسيس) القديمة والحديثة. ذوقه رفيع، ويملك رأس المال المفروض على النقاد، ولكن في الكثير من الأحيان يسمعنا أحزانه أثناء نقده لكتاب ما.‏

وأحياناً عندما يتحدث، يقفز فيكتور هيغو في حديثه. وقبل إنهاء حديثه يدخل فولتير ولامارتين ومئات الكتّاب غيرهم في الحديث، فيضطر المستمع إلى أن يقول:‏
 إما أن تصمتوا جميعاً أو تتحدثوا واحداً واحداً كي نفهم.‏
فعلى سبيل المثال إن قلت: "استيقظت في الصباح، ووضعت ثيابي وأكلت الخبز".‏
أعط هذا السطر لآدوم وسترى أنه يقول لك السطر الآتي:‏
استيقظت في الصباح، ووضعت ثيابي حيث تستعمل لتغطية عيوبي فقط، كما يقول جان جاك روسو، وأكلت الخبز، على الرغم من أن الكتاب المقدس يقول أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله.‏
لماذا تقاوم عكس اتجاه الفكرة، ولماذا تعذب القارئ يا آدوم، اذهب بطريقك الصحيح، ما الداعي كي تقوم مع كل خطوة بطرق باب الكتّاب الواحد تلو الآخر.‏



ـ 9 .‏
عندما يكون الشيء جميلاً بطبيعته، يليق به كل ما تضيف عليه من زينة.‏
فعلى سبيل المثال، لغة الصحفي (شاهنور) في جريدة (صحافة الشرق)، جميلة ومزخرفة.‏

وأنا أيضاً حاولت يوماً ما أن أزخرف لغتي، لكن فيما بعد انتابني اليأس عندما رأيت امرأة بشعة ازدادت بشاعتها عندما تبرجت وزادت من زينتها.‏
لماذا تترك بعض الألسنة البشعة البساطة وتذهب نحو الزخرفة وتصبح أقبح.‏
متى سنتوقف عن قراءة مقالات فارغة من الكلام ومليئة بالزخرفة.‏
ألفت انتباه رؤساء التحرير لهذه النقطة.‏


 
 هاكوب بارونيان (1843- 1891):
 يعتبر رائد الأدب الأرمني الساخر، وأحد وجوه الأدب الكلاسيكي في السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر.‏
 لقد أسس النثر والمسرح الواقعي في الأدب الأرمني الغربي، ونشير إلى وجود أدب أرمني شرقي في أرمينيا وأدب أرمني غربي لدى الأرمن في المهجر.‏
يتميز المستوى الفني في الإبداع لديه في الدرجة الأولى بأنه يرصد بصدق وعمق أحداثاً تتصف بها الحياة الأرمنية اجتماعياً وسياسياً في فترة 1870- 1880. وهكذا استطاع بارونيان أن ينفذ وبشكل مدهش إلى صميم ظواهر الحياة الاجتماعية والسياسية سواء لدى الأرمن أو غيرهم في العالم، ويبيّن الجوانب الساخرة والهزلية من الحقيقة في صور معينة، فذلك هو أساس سخريته.‏
ولد بارونيان في القسم الأوروبي من تركيا في مدينة أدرنة عام 1843. كان يتقن عدا عن الأرمنية اللغة الفرنسية واليونانية ممَّا أتاح له الفرصة للتعرف على المسرح الفرنسي واليوناني.‏



من أعماله: 
 (المتسولون الشرفاء) 1882، و(نزهة في أحياء استنبول) 1880، و(دفتر الأبله) 1880، و(أعيان وطنيون) 1874، ومسرحية (طبيب الأسنان الشرقي) 1868، و(خادم ومعلمان) 1865، و(المتملق) و(الأخ باغداسار) 1886.‏

نشر بارونيان
(دفتر الأبله) عام 1880 في القسطنطينية. وهو عبارة عن قصص قصيرة جداً وحوادث يومية قصيرة يرويها بارونيان على شكل يوميات، وتتضمن مقابلاته وأحاديثه مع الناس ووصفه لكل ما يدور حوله من حياة سياسية واجتماعية، لكن على طريقته الخاصة. وهو إذ يسخر وينتقد الحكومة والدبلوماسية الأوروبية. فقد كان هدفه كما كتب في المقدمة، أن يصحح السلبيات والنقائص بالسخرية منها. لقد دافع عن قضايا الضعفاء وتمرّد على الظواهر البالية والفاسدة إذ قال:
هناك أموات يجب قتلهم.

ماهو الكتاب؟


الكاتب التشيكي : فرانتس كافكا
 ترجمه عن الألمانية : أحمد القاسمي



أؤمنُ أننا يجب أن نقرأ فقط تلك الكتب التي تعضّنا وتغرز أنيابها فينا. فإذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يهوي بقبضته على أدمغتنا فيوقظها فلماذا إذاً نقرأ ذلك الكتاب؟ هل لأنه سيجعل منا سعداء؟ يا
إلهي, سعداء كنا سنكون حتى لو لم تكن لدينا كتب, بل أننا كنا سنكتب تلك الكتب, التي ستجعلنا سعداء, بأنفسنا إذا إقتضت الضرورة إليها.
لكننا نحتاج الى تلك الكتب التي يكون لها وَقْع المصيبة علينا, التي تؤلمنا غاية الألم كما لو أننا نفقد شخصاً عزيزاً نحبه أكثر مما نحب أنفسنا, كما لو أننا وجدنا أنفسنا في غابات ليس فيها أثر لإنسان, كما الانتحار. الكتاب يجب أن يكون تلك الفأس التي تعالج البحر المتجمد في دواخلنا. 


فرانز كافكا ( Franz Kafka) :

( 1883- 1924 ) كاتب تشيكي  كتب بالالمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يعد أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة.
تعلم كافكا الكيمياء والحقوق والادب في الجامعة الألمانية في براغ  (1901). ولد لعائلة يهودية متحررة، امضى وقت فراغه في الكتابة الادبية التي رأى بها هدف وجوهر حياته. القليل من كتاباته نشرت خلال حياته، معظمها - يشمل رواياته العظمى (الحكم) و(الغائب) - نشرت بعد موته.

حياته كانت مليئة بالحزن والمعاناة، بما في ذلك علاقته بوالده. فكافكا كان مثقفاً حساساً وقع تحت حكم والد مستبد وقوي. فكتب رسالته الطويلة تحت عنوان (رسالة لأب). وكتابه (الحكم) حيث يقبل الشاب حكم الموت الذي اصدره عليه والده ويغرق.

 توفي فرانز كافكا بمرض السل عن عمر يناهز ال 41، بمدينة بالقرب من فينا، بعد عام على ايجاده الحب الكبير لحياته، المهاجرة اليهودية دورا ديامنط.




أقــدار

 تأليف الكاتب البلغاري: تونتشو أندرييف
ترجمة: علي أحمد ناصر




اهتزَ زجاج النوافذ بقوة بسبب الضجيج العالي والمتصاعد، وتصادمت الكؤوس على الطاولة فاستيقظ مذعوراً.
قرع أحدهم بإلحاح شديد على بوابة الدار، وناداه باسمه، فنهض عاري الصدر وخرج حافي القدمين. قرب السور الخشبي كان البلدوزر يزأر بعناد تتقدمه شفرته الضخمة. ومن كبينه ظهر وجه
السائق الدهني النعسان. أما المختار إيليا فقد كان ما يزال يقرع خشب البوابة بعكازه الدقيق.
اختفت كف العم سابي تحت سترته مفتوحة الأزرار وبدأ يفرك جسمه لا شعورياً، إذ لم يكن هناك ما يهرشه، ربما كان السبب القشعريرة الناتجة عن لسعات برودة الفجر الواخزة.
نظر نحو الجهة التي تحاول فيها الشمس فتح جفنيها المحمرين وجرى بحذر على درجات السلم الحجري الباردة، تمطَّى متثائباً عند البوابة الخارجية وتساءل بضجر: " ما هذا؟ لماذا يزعجون الناس في الصباح الباكر هكذا؟"
- سوف نقتلع شجرة الدردار.
أعلن المختار قراره، وهو يشير بعكازه اللامع نحو الشجرة الضخمة أمام البوابة الخشبية لدار العم سابي.
نظر العم سابي نحو شجرة الدردار الضخمة. ساقها المنتصبة باستقامة، المغطاة بقشرة بنية مجعدة، الأغصان السامقة وارفة الظلال، جميعها بدت بسكونها العميق وكأنها مذنبة . ومن أعلى
الشجرة صفقت بجناحيها يمامة بغضب وطارت بعيداً عن عشها أعلى الشجرة.
كان العم سابي يعلم أنهم سيقتلعونها ذات يوم. لذلك كان يقف عند عودته من الحقل كل يوم تحت أغصانها ويحدق ،غير مصدق، بجزعها المنتصب كي يتأكد من بقائها ثم يبتسم ويلوح بيده محيياً قبل أن يدخل داره.
كان يستيقظ كل صباح على صوت تغريد عزيز عليه لذكر الشحرور. الذي اعتاد إعادة بناء عشه كل عام فيها، وكان ينتظر قدومه مطلع كل ربيع، حين يصدح بقوة جنونية ليوقظه، عندها ينزع عنه لحافه الملتف به ويراه عبر النافذة على الأغصان المتدلية فيبتسم ويخرج لاستقباله برجليه المتخشبتين من الصقيع.
" كنت أعلم أنهم سيقتلعون....."
- إنه قرار يا عم سابي..
أيقظه من ذهوله صوت المختار.
- ومن صاحب القرار؟ الشجرة شجرتي! صرخ العم سابي بغضب.
- إنها مريضة، مصابة بمرض هولندي، هيا انظر ، تعال وانظر..
و أشار المختار بعكازه نحو غصن يابس. ثم تابع:
- لقد أمروا باستئصالها!
وجم العم سابي. فقد كانت الشجرة شاهداً على أفراحه وأتراحه. كما كان قد اعتاد عند شعوره بالوحدة المضنية الجلوس عند ساقها القوية، كي يصغي لحفيف أوراقها. كان ذلك الحفيف الأمر الوحيد
الذي يعيد للوراء الكثير من صفحات الذكريات في حياته.
قبل كل شيء، كان ذاك الطفل الحافي القدمين يجمع التراب الساخن، ويوزعه كومات صغيرة براحتيه حول ساق الشجرة. إنه هو. في ذلك الوقت ولدت أغلى الذكريات ذكرى "يوم غيورغي"
(( يوم غيورغي: لكل اسم قديس يوم في السنة يحتفل فيه من يحملون هذا الاسم. المترجم )) حيث تجمع سكان الحي جميعاً هنا. ربطوا أرجوحة مشدودة بحبلين متينين لأغلظ غصن في الشجرة، وبدؤوا يتأرجحون. وكان الفتيان يوخزون سيقان الصبايا بحواف الأوراق الإبرية، فيصرخْن ويضحكْنَ و يُغنِّينَ . لم يكن صراخهنَّ بسبب الألم بل من الفرح، ولأنهنَّ، أيضاً، كنَّ يردن لهذه اللعبة أن لا تنتهي. وكانت حبال الأرجوحة تدور وتنطلق نحو السماء العالية.

بعد زمن، كانت هناك أرجوحة أيضاً، كانت هذه المرة من أجل ستانتشو. وقد ربطت على الغصن نفسه. وكان ستانتشو يتأرجح لاهياً ويركل الهواء برجليه الحافيتين، ويصرخ بفرح غامر وهو يظن أنه يستطيع الطيران للوصول إلى الأوراق الصاخبة في الأعلى. في حين كان مع والدته يوزعان العيدان اليابسة على سور الدار، والعرق المالح يغطي وجهيهما.
في الصفحة التالية.... الصفحة التي ربما لا يريد تصفحها.. يتحول همس الجزع إلى دوي..
كان ذلك عندما عاد ستانتشو من صوفيا، وقال أنه ببساطة عاد كي يمكث ليوم أو يومين فقط. لقد فهم الوالد حالته، ولم يرد الإلحاح بالأسئلة عن أسباب عودته المفاجئة، قريباً سيصبح مهندساً، ماذا يستطيع تفكير قروي بسيط مثله أن يقدم له! فخرج عند الظهيرة يتجول في القرية عله يشم رائحة خبر ما عن أمر ابنه. لكن، وقبل
أن يعبر الجسر الصغير فوق النهر الذي يسقي القرية ويقسمها إلى حيين، لاحظ نشاطاً غير عادي أمام المبنى الحكومي، حيث ظهرت بعض القبعات الزرقاء. توقف يراقب حركة رجال الشرطة وهم يعبرون النهر الصغير بسرعة نحو الشارع المقابل، بعد قليل سمع طلقات نارية تلاها صراخ وعويل عالٍ يصدر من هناك، والناس يركضون تجاه حارته، فركض ليرى ما يحدث في حيه، شعر بحدس غريب يحثه للتوجه نحو البيت. عندما وصل، كان يلهث بصعوبة بالغة، وجد داره تعج برجال الشرطة، ومن الغصن الأكبر لشجرة الدردار التي اعتاد ربط أرجوحة الأولاد عليه، كان ولده ستانتشو يتدلى مشنوقاً! تجمد كحجر وبدا مصعوقاً قبالة البوابة وهو يحدق بابنه بعينين لا ترفان. لم يستطع الصراخ وقتذاك أو التحرك من مكانه.
يتذكر العم سابي دوماً هذه الأشياء عندما يريح ظهره لجزع الشجرة المنتصب...
اعتاد شبان القرية القدوم في مثل ذاك اليوم من كل سنة، يحملون إكليلاً كبيراً من الزهور، يضعونه على ساق الشجرة، ثم يتجمعون حول العجوز، يرجونه أن يحدثهم عن ستانتشو. يبقون، ينصتون، ثم يغادرون. أما العم سابي فيستمر جالساً يمسح بيديه بلطف على الأوراق الطرية لأزهار وورود الإكليل حتى وقت متأخر من الليل، عندما يطغى الندى برطوبته على شاربيه المصفرين.
كان يصغي ذلك اليوم لحفيف أوراق الشجرة ويرجو أن لا يتصفح أوراق الماضي.

قبل عامين، في ذلك الربيع الجليدي لاحظ تأخر ازدهار شجرة الدردار، في حين كانت تبكر بتساقط أوراقها في الخريف.
سألها:
- ما بك يا أختاه؟
لكن الشجرة لم تجبه. وشيئاً فشيئاً بدأت أغصانها العارية ترتجف وتئن كأن عارضاً ثقيلاً يؤلمها.
- وأنا أيضاً أشعر بشيء يعصر قلبي، شخنا يا أختاه شخنا.
كان يتحدث مع الشجرة..
في الربيع التالي لم تنمُ الأغصان العلوية للشجرة، بل يبست!
تابع العم سابي كلامه:
- هكذا إذن! عاجلاً أم آجلاً سيسبق أحدنا الآخر، مغادراً هذا العالم. لكن الدردار يموت صامتاً، دون أن تعلم سبب موته، دون أن تعرف مرضه. ها هم يقولون الآن أن المرض الهولندي هذا لا شفاء منه. يبدو أنه كالسرطان عند الإنسان.
- لا يهم يا عم سابي. أجابه المختار وتابع موجهاً كلامه لسائق البلدوزر:
- هيا أيها الشاب هيا!
تحرك الشاب بخفة، ربط طرف سلسلة فولاذية حول ساق الشجرة الضخمة، بينما ثبت الطرف الآخر بحلقة البلدوزر.
تجمد العم سابي في مكانه. إنه نوع من الشنق، إنها تشبه عملية الشنق التي....
- توقف! ماذا تفعل؟ هذا مستحيل! أنا لا أسمح...
زأر البلدوزر بصوت عالٍ وتحرك مبتعداً فاستقامت السلسلة الفولاذية، أصبحت مشدودة، أنَّت جذور الشجرة بصوت عال، تقطعت أوصالها، وانفصلت عن بعضها متكسرة، إنهم يحطموها! تصدعت الشجرة اليابسة، طلبت النجدة. شيء ما يتقطع في صدر العم سابي أيضاً. اليمامة تطير مرعوبة وتحط أحياناً على طرف النافذة، ورأسها الرمادي يدور وهي تحدق مستنكرة في كل الاتجاهات.
..
بعد أيام قليلة، حلق رفٌّ من طيور اليمام فوق المكان الفارغ للشجرة، حدقوا بآثار جنزير البلدوزر في الأرض الخالية، أصدروا أصوات غريبة وعالية ومذعورة، ثم طاروا بعيداً إلى مكان مجهول.


Twitter Bird Gadget