غدر المرأة

 من كتاب "النظرات" ل مصطفى لطفي المنفلوطي

 
روي في إحدى الأساطير اليونانية عن حكيم من حكماء اليونان كان يحب زوجته حباً ملك عليه قلبه وعقله، ولكن، قد كان يمازج هناءه معها شقاء مستقبل يسوق إلى نفسه الخوف من أن تدور
الايام دورتها فيموت ويفلت من يده ذلك القلب الذي ملأه حباً وحناناً، وهو قلب زوجته التي أقسمت له بأنها لا تسترد هبة قلبها منه حياً أو ميتاً .. فكان يطمئن إلى ذلك الوعد ويسكن كسكون الجرح تحت الماء البارد ..

وفي ليلة من الليالي المقمرة، مر بجانب مقبرة وهو عائد إلى منزله، فسمع صوت نحيب امرأة، فدخل إلى المقبرة، وإذ بامرأة جالسة امام قبر لم يجف ترابه، تحمل مروحة بيضاء مطرزة

بخيوط ذهبية، تحرك بها يمنة ويسرة لتجفف بها تراب هذا القبر، فعجب لشأنها وتقدم نحوها، فارتاعت حينما رأته، فسألها من هذا الدفين؟ وماذا تفعلين؟ فأبت ان تجيبه، فجلس إلى جانبها وساعدها في عملها حتى جف التراب، فحدثته أن الدفين هو زوجها الذي مات منذ ثلاثة أيام، وهي هنا تجفف تراب قبره، وفاء بيمين أقسمته على زوجها قبل وفاته بأن لا تتزوج بعده حتى يجف تراب قبره .. وبعد أن انهت كلامها، هنأها على زواجها الجديد .. ومضى سائراً متعجباً، حزيناً ومتوجساً، سائلاً نفسه: إن هذه المرأة جلست على قبر زوجها لتبكيه، لا لتذكر عهده، بل لتتحلل من يمين قطعته على نفسها ...
حتى وجد نفسه على باب منزله وزوجته تستقبله، فرأت كآبة وحزناً باديين على وجهه  فأخبرها بما حصل معه  فغضبت زوجته غضباً شديداً، وسبت المرأة وشتمتها ولعنتها على فعلتها، ونعت غدرها وخيانتها ودناءتها ... ثم قالت:وأنت.. أما زال ذاك الوسواس عالقا ببالك ما دمت حيا؟؟ وهل تحسب ان امرأة في العالم ترضى لنفسها ما رضيته لنفسها تلك الغادرة؟؟ فقال لها: إنك أقسمت لي بأن لا تتزوجي من بعدي، فهل تفين بعهدك؟
فقالت: نعم .. ورماني الله بكل ما يرمي الغادر إن فعلت ... فاطمأن لقسمها وعاد إلى هدوئه وسكونه ..
مضى على ذلك عام ثم مرض هذا الرجل مرضاً عجز به الأطباء والحكماء، حتى أشرف على الموت، فدعا زوجته وذكرها بوعدها وقسمها الذي أقسمته، فما غربت شمس ذلك اليوم حتى غربت شمسه، فأمرت أن يسجى بردائه ويترك وحده في القاعة الكبيرة المتألقة حتى تجري مراسم الدفن في اليوم الثاني، وجلست وحدها في غرفتها تبكيه وتندبه، وبقيت على هذه الحال حتى دخلت عليها الخادمة واخبرتها بأن فتى من تلاميذ زوجها المرحوم، حضر الساعة من بلدته ليعوده حينما سمع بخبر مرضه، فلما سمع بخبر وفاته صعق وخر في مكانه صعقاً وإنه لا يزال صريعاً عند باب المنزل لا تدري ما تصنع في أمره!! فأمرتها ان تدخله إلى غرفة الأضياف إلى أن يستفيق .. ثم عادت إلى بكائها ..
وفي منتصف الليل ، هرعت الخادمة إليها مذعورة : رحمتك يا مولاتي، فالفتى يكابد آلاماً شديدة وعذاباً مهلكاً، ولا أدري ما أفعل؟!!! فأهمها الامر، وقامت تتحامل على نفسها حتى وصلت غرفة الضيف، فوجدته فرأته مسجى على الأريكة، فاقتربت منه ونظرت في وجهه، فرأت أبدع سطر خطته يد القدرة الإلهية في لوح الوجود، فأنساها ذلك الوجه المتلألىء حزنها على الفقيد الهالك، وعناها امره، فلم تترك وسيلة إلا توسلت بها إليه لكي يستفيق، حتى استفاق ونظر إليها نظرة شكر وثناء، فقص عليها تاريخ حياته وعرفت سيرة حياته كاملة وصلته بزوجها الراحل، وأنه فتى غريب لا أم له ولا أب ولا زوجة ولا أحد، فصمتت قليلا ثم أمسكت بيده وقالت: إنك قد ثكلت أستاذك وأنا ثكلت زوجي فأصبح همنا واحد، فهل لك ان تكون عوناً لي وأن أكون عوناً لك على هذا الدهر الذي لم يترك لنا معيناً؟
فألم بخبيئة نفسها، وابتسم ابتسامة الحزن والمضض وقال: من أين لي يا سيدتي أن أظفر بهذه الأمنية العظمى، وهذا المرض الذي يفسد علي شأن حياتي وينغص عيشتي، وقد أنذرني الطبيب باقتراب أجلي ... فاطلبي سعادتك من غيري، لأنك من أبناء الحياة وانا من أبناء الموت ..
فقالت له: إنك ستعيش، ولو كان دواؤك بين سحري ونحري ..
فقال لها بيأس: لا يا سيدتي، فإني عالم بدوائي ولن أجد السبيل إليه ..
فسألته وما هو دواؤك ؟
فأجاب: لقد حدثني الطبيب في أن شفائي لا يكون إلا إن أكلت دماغ ميت ليومه، ومادام ذلك يعجزني، فلا دواء لي ولا شفاء ..
فشحب وجهها وارتعدت وأطرقت إطراقة طويلة لا يعلم إلا الله ما كانت تحدث نفسها فيها ..
ثم رفعت رأسها وقالت: كن مطمئنا فدواؤك لا يعجزني .. ثم أمرته أن يعود إلى راحته وسكونه، ثم خرجت من الغرفة متسللة حتى وصلت إلى غرفة سلاح زوجها، فأخذت منها فأساً قاطعة ، ثم مشت تختلس خطواتها حتى وصلت إلى قاعة الميت، وأصدر الباب صريراً مزعجاً جمدت على إثره في مكانها رعباً وخوفاً، ثم تاكدت من خلو القاعة من أحد، ودنت من السرير، ورفعت الفأس لتضرب به رأس زوجها الذي عاهدته ألا تتزوج من بعده، فما
كادت تهوي بها، حتى رأت الميت فاتحا عيناه ينظر إليها، فسقطت الفأس من يدها، فسمعت حركة وراءها فرات الخادمة والضيف واقفين يضحكان، ففهمت كل شيء ....
وهنا قال لها زوجها : أليست المروحة في يد تلك المرأة أجمل من هذه الفأس في يدك؟
أليست التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه افضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه؟
فصارت تنظر إليه نظراً غريباً ثم شهقت شهقة كانت فيها نفسها ......




 مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924):

أديب مصري نابغ في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته، له شعر جيد فيه رقة، قام بالكثير من الترجمة والاقتباس من بعض روايات الأدب الفرنسي الشهيرة بأسلوب أدبي فذ،
وصياغة عربية في غاية الروعة. لم يحظ بإجادة اللغة الفرنسية  لذلك أستعان بأصحابه الذين كانوا يترجمون له الروايات ومن ثم يقوم هو بصياغتها وصقلها في قالب أدبي. كتاباه النظرات والعبرات يعتبران من أبلغ ما كُتِب في العصر الحديث.
 ولد من أب مصري  وأم تركية في مدينة منفلوط  من الوجه القبلي لمصر من أسرة حسينية النسب مشهورة بالتقوى والعلم نبغ فيها من نحو مئتي سنة، قضاة شرعيون ونقباء، ومنفلوط إحدى مدن محافظة أسيوط. نهج المنفلوطى سبيل آبائه في الثقافة والتحق بكتّاب القرية كالعادة المتبعة في البلاد آنذاك فحفظ القرآن الكريم  كله وهو في التاسعة من عمره ثم أرسله أبوه إلى الجامع الأزهر  بالقاهرة تحت رعاية رفاق له من أهل بلده، فتلقى فيه طوال عشر سنوات العلوم العربية والقرآن الكريم والحديث الشريف والتاريخ والفقه وشيئاً من شروحات على الادب العربي الكلاسيكي، ولا سيما العباسي منه. وفي الثلاث سنوات من إقامته في الازهر بدأ يستجيب لتتضح نزعاته الأدبية، فأقبل يتزود من كتب التراث في عصره الذهبي, جامعا إلى دروسه الأزهرية التقليدية قراءة متأملة واعية في دواوين الشعر، والنثر.  وكان هذا التحصيل الادبي الجاد، الرفيع المستوى، الأصيل البيان، الغني الثقافة، حرياً بنهوض شاب كالمنفلوطي مرهف الحس والذوق، شديد الرغبة في تحصيل المعرفة.

من مؤلفاته:

 1- النظرات
2- في سبيل التاج
3- تحت ظلال الزيزفون ( ماجدولين )
4- الفضيلة ( بول وفرجيني )
5- الشاعر ( سبرانودي برجراك )
6- العبرات
7- أشعار ومنظومات رومانسية كتبها في بداية نشأته الأدبية
8- مختارات المنفلوطي .. وهي مختارات شعرية ونثرية انتقاها المنفلوطي من أدب الأدباء العرب في مختلف العصور. 
وغيرها....

 

أبو الهـول بلا سر

 تأليف: أوسكار وايلـــــد
 ترجمـة : زيد الشهيــد
 

ظهراً كان الوقت، ومن الباحة الخارجية لمقهى " ديلا بايكس " كنتُ أتخذُ مجلساً، أتابع حركة الحياة الباريسية بأبهتها، ورثاثتها، مندهشاً بتأثير ما تناولت من شراب لرؤية المشاهد الغريبة للكبرياء، والفقر علىَ السواء يمرّان من أمامي عندما سمعت من يناديني باسمي .. استدرت ! فإذا بي أشاهد السيد " ما شيسون " . 
لقد مرّ ما يقرب من عشر سنوات علىَ فراقنا منذ أن كنا صديقين تجمعنا الدراسة بكليةٍ واحدة في جامعة أكسفورد .. ولشدّة سروري لمشاهدته مددتُ يدي مصافحاً، مصافحاً بحرارة وود.. لقد كنا متقاربين في الطول والضخامة، لكنه كان أكثر وسامة، وذا معنويات عالية، وجديراً بالاحترام.. تنبأنا آنذاك بأنه سيصبح شخصية مرموقة في المستقبل إن كفّ قليلاً عن المبالغة والكذب، بيدَ أننا كنا معجبين به ومأخوذين بالصراحة الفائقة التي يتمتع بها.

في هذا اللقاء؛ وبعد هذا الزمن الطويل من الفراق ألفيته مختلفاً، إذْ بدا لي قلقاً ومرتبكاً كأن شيئاً ما يجعله مرتاباً ومتشككاً.. لم يقفز إلى ظني فعل السياسة التي ربمّا تكون أثرت به إنما خمَنّت السبب إمرأة ما، لهذا سألته في ما إذا كان متزوجاً أم ما زال أعزبَ..
•-          لم أفهم المرأة فهماً كافياً لحد الآن.
•-          يا عزيزي جيرالد - أجبته - المرأة التي نعنيها هي التي تُحَبّ لا التي تُفهَم.
•-          لا يمكن أن أحب ما لم أثق.
•-          أظنّ أن غموضاً ما في حياتك ، يا جيرالد - قلتُ مندهشاً - أُفضي بما لديك.
•-          دعنا نذهب في جولةٍ فالازدحام شديد هنا - هيا ..
     نهضنا وخرجنا.. وسمعته يقول:
 _      دع تلك العربة الصفراء، لنستأجر أية عربة أخرى.. لتكن الخضراء الداكنة تلك..
    بدقائق كنا نتخذ درباً باتجاه " المادلاين " .
•-          إلى أين سنذهب؟ .. سألته
•-          إلى أي مكان تفضِّله .. إلى المطعم في " بويس " سنتعشىَ هناك وتحكي لي عن نفسك.
•-          أريد أن أسمع منك أولاً - قلت  - أفصح عمّا تحتفظ به.

لحظتها أخرج حافظةً صغيرة ، إستلّها من جيبه، قدّمها لي .. من داخلها أظهرتُ صورةً لأمرأةٍ طويلة القوام، نحيلة، شعرها طليق وعيناها كبيرتان تضمران شيئاً ما مبهماً.
•-          ما رأيك بهكذا وجه ؟ ..سألني، ثم أكمل: " أتراه يبعث علىَ الثقة؟ "
       شرعتُ أتفحصه باهتمام فبدا لي كأنه وجهٌ لمخلوقٍ يخفي سرّاً كبيراً، لا أستطيع التكهّن إن كان شرّاً أم خيراً.. فالابتسامة الباهتة المتراقصة عبر الشفتين رغم رقِّتها لا تشي بعذوبة حقيقية.
•-          حسناً ! صرخ نافذ الصبر " ما رأيك؟ "
•-          لها ابتسامة تضمر شيئاً مخيفاً.. هذا رأي فافصِح بما لديك عنها.
•-          ليس الآن، إترك ذلك لما بعد العشاء.
بعدما قدّم النادل القهوة وما طلبنا من سكائر توجهت لجيرالد ليتحدث عما وعدني به.. نهض؛ خطا ذارعاً الغرفة جيئة وذهابا، ثم عاد إلى كرسيه يغوص فيه ليبدأ الحكاية التالية:
في أحد المساءات، كعادتي كنت أتمشىَ راجلاً في شارع " بوند " كان الوقت يقرب من الخامسة عصراً عندما حدث اصطدام مروري لعربتين سببَّ توقفاً لحركة السير .. بجوار خطوط عبور المشاة ثمة عربة صفراء صغيرة تقف لا أدري لماذا استرعت انتباهي. وفيما كنت أخطو عابراً تصالبت نظراتي على الوجه الذي عرضته عليك في الصورة.. لم أتمكن من نسيانه، فقد تمرّكز في الذاكرة ورحتُ تلك الليلة أفكر فيه. استطال هذا التفكير إلى اليوم التالي، ما جعلني أتجولُ باحثاً في الطرقات لعليّ ألمح العربة الصفراء مارقة أو متوقفة؛  لكن الخيبة كانت نهاية مطافاتي .. فإستسلمتُ إلى اعتقاد أن ما رأيت لم يكن إلاّ حلماً مرّ وانقضىَ.
بعد أسبوع تلقيتُ دعوةً من السيدة " دي لاستيل " لتناول العشاء في بيتها.. ! استقبلتني في الساعة الثامنة مساءً، مكثنا حتىَ الثامنة والنصف منتظرين تقديم العشاء .. أخيراً دخل علينا الخادم معلناً وصول السيدة " آلروي " .
وكانت المفاجأة الصاعقة فقد دخلت علينا  من كنت أبحث عنها .. وكان الحظ ضاحكاً معي إذ طُلِبَ مني مصاحبتها للعشاء، رفيقان يجلسان متقابلين ...
بعد الانتهاء توجهت بكلام تملأه البراءة: اعتقد أنني شاهدتكِ في شارع " بوند " قبل أيام، يا سيدة " آلروي.. " بغتة إمتقع وجهُها وشحِب .. وبصوتٍ هامس خفيض ردّت:
- لا تتكلم بصوتٍ مسموع، أرجوك، قد يسمعك الآخرون.
طوقتني التعاسة .. سريعاً نفذَت إلى داخلي .. يالها من بداية مُحبطة، ولتدارك الأمر رفعتُ صوتي محاولاً التحدُّث عن مسرحيات فرنسية إظهاراً لعمومية الكلام، كانَ حديثُها مقتضباً تُظهر خوفَ استماع الآخرين لنا.. تلك اللحظة قادني الغباء للوقوع في حبّها؛ زاد من ذلك طبيعة الغموض الذي يلف شخصيتها .. وقبل أن تبرح المكان عرضتُ عليها رغبة اللقاء ثانية، ترددّت للحظةٍ تاركةً نظراتها تتجوّل بارتياب قبل أن تقول " نعم " غداً في الخامسة إلاّ ربعاً.
آن خرجتْ اتجهتُ إلى السيدة " دي لاستيل " أسالها عمّا تعرف عن السيدة " آلروي " فأعلمتني بأنها أرملة تمتلك بيتاً جميلاً في  " بارك لين " .
                 في اليوم التالي ، وفي الوقت المحدد وصلتُ فلم أجدها. قيلَ لي خرَجتْ، ذلك ما أشعرني بالأسى وأربكني .. توجهتُ إلى النادي .. وهناك كتبتُ لها رسالة أُجدد رغبتي في زيارتها، طالباً موعدأً آخر، لكنّي لم أتلقَّ رداً رغم الأيام العديدة التي مرّت .. وفي يومٍ وردتني ملاحظة بأنها ستكون في البيت يوم الأحد الساعة الرابعة؛ مع فائق الشكر والتقدير خاتمة معبرة، تقول " الرجاء  لا تكتب لي علىَ محل سكني، وسوف أشرح لك عندما نلتقي ."
ذلك الأحد الجميل  استقبلتني .. ودودةً كانت وبجمالٍ أخّاذ .. وعندما ودّعتها خارجاً تمنّتْ أن أُعنون رسالتي القادمة إلى " السيدة فوكس " مديرة مكتبة ويتاكرز " في " كرين ستريت " قالت ثمة أسباب تدفعني إلى عدم إستلام أية رسالة في بيتي . "
                 مرّ فصلٌ كاملٍ كانت علاقتي بها رائعة، لم أرَ منها غير المعاملة اللطيفة، بيد أنَّ جوَّ الغموض ظل ملازماً لشخصيتها؛ وكثيراً ما راودني اعتقاد وقوعها تحت سطوةِ رجلٍ ما، غير أن هذا الاعتقاد سرعان ما كان يتبدّد، وكان صعباً عليّ الوصول إلى استنتاج قاطع بشأنها لهذا قررتٌ مفاتحتها، عارضاً طلبي في الاقتران بها، شارحاً تقهقري وتدهور صحتي من هذه العلاقة السرّية اللامنتهية، فكتبت لها رسالة أعرض رغبتي بلقائها الاثنين القادم، في الساعة السادسة .. أجابتني بالإيجاب، وقتها  طرتُ إلى السماء السابعة للبهجة .. لقد أحببتها بحق؛ لكنّ الغموض هو ما كان يربكني، بل يدنيني من الجنون .. ولقد حالفني الحظ لمرةٍ.
•-        واكتشفت السرّ؟ .. قلت مندفعاً.
•-         بل أخافني .. ولك أن تحكم علىَ ذلك بنفسك.

ذلك الاثنين القادم لبّيتُ دعوةً وجّهها لي عميّ لتناول الغداء معه، وعميّ كما تعلم يسكن في " ريجنت بارك " .. ولكي أختصر الطريق للوصول إلى شارع " بيكادليّ " سلكت شوارع فرعية متواضعة الحال والسمعة .. وهناك كانت المفاجأة .. إذ لمحتُ السيدة " آلروي " تخطو مُسرعةً وقد وضعت علىَ وجهها خماراً لإخفاء ملامحها؛ حتىَ إذا وصلَت آخر بيتٍ ارتقت درجاته المعدودات، مستخرجةً مفتاحاً ألقمته الباب ودخلتْ.
هنا يكمن السر قلت في سرّي " أسرعت متفحصاً البيت، كان بيتاً من تلك البيوت  المؤثثة والمعدّة للتأجير المؤقت .. وعلىَ إحدى درجات السلم شاهدت منديلها الذي سقط منها .. إلتقطته دسسته في جيبي، ثم رحت أفكر كيف ساتصرّف .. توجهتٌ إلىَ النادي، وفي الساعة السادسة طلبتُ ملاقاتها.
مُضطجعة علىَ الاريكة أبصرتها، ترتدي فستاناً جميلاً يجسّد جمالها الباذخ: " مسرورةٌ جداً للقائِك "، قالت - " لم أبرح البيت طوال اليوم "
حدّقت بها مندهشاً ، تلك اللحظة سحبتُ منديلها من جيبي وعرضته إزاءها.
•-        خذي سقطَ منك في " كومر ستريت " هذه الظهيرة، ياسيدة آلروي ..خاطبتُها برباطة ِجأشٍ.
تطلّعت إليَّ مرتعبةً، ولم تمد يدها لاستلامه.
•-        ماذا كنتِ تفعلين هناك؟ .. سألتها.
•-        بأيّ حقّ تسالني؟.
•-        بحقّ الرجل الذي أحبَّكِ .. جئتُ إلى هنا لأعرض عليك رغبتي في الأقتران بكِ.
أخفّت وجهها بكفّيها وانفجرت بالبكاء.
•-        يجب أن تردّي علىَ تساؤلي؟
نهضَت .. تطلعت في وجهي قبل أن تقول:
•-        ياسيد مارشيسون، لا شيْ أخبركَ به.
•-         هل ذهبتِ لتلتقي شخصاً ما ؟ صرختُ " ذلك هو الغموض الذي تتخفيّن وراءه؛ أليس كذلك؟
  شحبَ وجهها وأصفر.
•-        لم أذهب لأقابل أحداً.
•-         "إنطقي بالحقيقة إن استطعتِ ".. صرختُ بها.
•-        لقد قلتها.
تلك اللحظة كنت تحت سطوة الجنون، لا أعرف ما فهت به، لكني متأكد قلت عنها ولها الكثير ثم أندفعت تاركاً البيت .. في اليوم التالي بعثَت لي رسالة ورددتُ عليها بجوابٍ مغلق، سافرتُ بعدها إلى " النرويج " وعدتُ بعد شهر .. أول شيء قرأته في صحف باريس هو خبر موت السيدة " آلروي " بعدما أصيبت بنزلة برد أثناء حضورها حفلة الأوبرا، وماتت في غضون خمسة أيام .. أغلقتُ كلّ شيء على نفسي ولم ألتقِ أحداً .. لقد أحببتها بولهٍ كبير، بل أحببتها بجنون .. " نعم " سمعته يقول " في أحد الأيام ذهبتُ إلىَ " كومر ستريت " إلىَ ذلك البيت .. طرقتُ الباب ففتحته إمرأة ذات مظهرٍ يبعث علىَ الاحترام .. أخبرتني أنَّ غرف الاستقبال مؤجرّة لإمرأةٍ  " لم أرها منذ ثلاثة أشهر "
•-        هل هذه هي؟ .. أظهرتُ الصورةَ أمامها.
•-        نعم ، يا سيدي! .. قالت " متىَ ستعود ؟ "
•-        لن تعود أبداً .. لقد ماتت .. هل كانت تلتقي شخصا ما عندما تجِيء إلى هنا؟
طمأنتني المرأةُ قائلةً:
•-        كانت تأتي بكلّ بساطةٍ إلى غرفة الاستقبال تجلس تقرأ كتباً، وفي بعض الأحيان تتناول الشاي وتبرح المكان.
         أعطيتها بعض النقود وخرجت ..
•-        والآن ماذا يعني لك كلّ ذلك ؟ .. ألا تعتقد أن المرأة صادقة؟
•-         بلىَ.
•-        إذاً لماذا كانت السيدة " آلروي " تذهب إلى هناك؟
•-   عزيزي جيرالد - قلتُ - ببساطةٍ، كانت السيدة آلروي مولعة برغبة أن تبدو غامضة .. وما استئجارها الغرفة إلاّ لغرض تحقيق سعادةٍ، بذهابها إلى هناك متبرقعةً بخمارٍ ومتخيّلةً نفسها بطلةً .. لكنها في الواقع مثل " أبو الهول ".. بلا سر.



 أوسكار وايلـــــد:
 مؤلف مسرحي وروائي وشاعر إيرلندي (1854 - 1900).

عاش هذا الاديب حياة صاخبة .. ولد في دبلن لأب طبيب عيون وام أديبة ثائرة من اجل قضية ايرلندا.
تخرج من جامعة اوكسفورد بعدما لفت الانظار الى موهبته كشاعر و اديب له روح مرحة.

كما اشتهر بارائه الثورية الغريبة التي لا ينساها المرء بسهولة
وان كان البعض يشعر بانه يقولها احيانا لمجرد التميز. حتى ثيابه كانت غريبة هي نوع من الاستفزاز للتقاليد و الانماط السائدة في عصره.
في العام 1887 كتب قصته شبح كانترفيل وهي من اشهر قصصه وانجحها . للمرة الاولى نجد القصر مسكوناً بشبح خائف مذعور من البشرالذين هم اكثر قسوة من أي شبح يمكن تصوره.
 
كان نجاح أوسكار ساحقاً. لكن اصدقاء السوء جعلوه ينزلق في عالم الرذيلة الذي يذكرنا كثيرا جداً بما عاشه الفتى دوريان بطل قصته صورة دوريان جراي. وسرعان ما قدمه والد صديق له الى المحاكمة التي اشتهرت باسم محاكمة كوينزبيري وحكم عليه بالسجن عامين، لكن هذا افاده اذ كتب خطاباً شهيراً وطويلاً جداً يعتبر من درر ادب السجون اسمه من الاعماق او دي بروفندي.
بعد السجن فر أوسكار من انجلترا التي لم يعد يطيقها. فذهب الى فرنسا ليموت هناك بالحمى الشوكية عام 1900.







المقهى العجيب


 الكاتب الهنغاري: استفان أوركيني
 ترجمة: د. هاشم عبود الموسوي
لم يمضيا السيد والسيدة نيكوليتش سوى أسبوعين بالعاصمة. وكانت تحدوهما رغبة في أن يستمتعا بكل دقيقة من إجازتهما القصيرة. بعد أن شاهدا إحدى الأوبرات. على الرغم من أنها كانت مُضجرة إلى حد البكاء، فقد عادا إلى غرفتهما بالفندق معتدلي
المزاج. فيما بعد ذهبا إلى حفلة موسيقية كانت متعتهما بها شاملة، لكنهما بعد ذلك قالا: " يا إلهي، ما أشد سخافتها ". شاهدا كذلك مسرحية سوفيتية رغم سماعهما لها في الإذاعة من قبل إلا أنهما لم يرغبا في تفويت الفرصة خشية أن تخلق عودتهما إلى منزلهما دون أن يُشاهدا ولا مسرحية سوفيتية واحدة انطباعاً سيئاً عنهما. هذه هي آخر ليلة لهما من إقامتهما، تذكّرت السيدة نيكوليتش مقهى نياغارا الذي أصبح، بعد أن أُعيد بناؤه، معلم من معالم المدينة.

لم تُدهش السيدة نيكوليتش من عدم سماع موظف الاستقبال في الفندق بمقهى نياغارا. فلقد اعتادت هي وزوجها أن يجدا نفسيهما أكثر معرفةً بالمدينة من أهلها رغم أنهما كانا زائرين قادمين من أقاليم خاملة. ولكون المقهى لم يكن مسجلاً في دليل الهواتف كذلك، فقد اقترح السيد نيكوليتش، وهو يشكو من معاودة المرض لمعدته، أن يتناولا عشاءً خفيفاً بمطعم الفندق ثم يخلدا إلى النوم.

" هذا يُمكننا فعله في بيتنا ". هكذا أجابت السيدة نيكوليتش " وإلى جانب ذلك، ألم ينصحك الطبيب بالاستجمام والتسلية؟ ". لقد أُصيب السيد نيكوليتش بنزيف القرحة قبل سنتين (نتيجة التوتّر النفسي، دون شك) وصار النزيف يعاوده منذ ذلك الوقت. لكن إذا كان للمرء أن ينال قسطاً من التسلية الحقيقية في محل نياغارا هذا. فسيذهب بالتأكيد بكل طيبة خاطر. أَمَا وأنّه قد تأكد لديه أن هذين الأسبوعين من الإقامة هنا كانا إخفاقاً ذريعاً كما في السنة الماضية فإنه لم يعد متطلعاً إلى مساءٍ بهيج.

" شيءٌ ما يُنبئني بأننا يجب أن نخلد إلى النوم ". لكن السيدة نيكوليتش كانت تموت توقاً إلى زيارة محل بوهيمي. ففي شبابها درست الرقصات الحديثة، وقد قامت بالرقص مع فرقة للهواة (تحت اسمها قبل الزواج: ميليتا روبرخت) وأصبحت، منذ ذلك الوقت مجنونة بالفن. خصوصاً الفن الجديد. ولكنها لم تكن متأكدة حقيقة ما الذي كانت تريد أن تشاهده، فإنها رفضت القبول باقتراح زوجها بالبقاء في الغرفة.

كان سائق سيارة الأجرة قد سمع، لحسن الحظ، بالمكان. أخذهما إلى الطرف الآخر من المدينة، إلى ميدان صغير شاحب الإضاءة، حيث لاحظا حركة أضواء حروف اسم المقهى منعكسة على

الرصيف المبتل. وتوجد المزيد من أضواء النيون بالداخل. إضاءة أنابيب الكوارتز الملون الملتوية كاللوالب على الأعمدة الطويلة سبغت على الرواد مظهراً معتلاً شاحباً. لم يكن هناك رقصٌ ولا فرقة. حتى غرفة حفظ المعاطف كانت مُقفلة. بعد عثورهما على منضدة شاغرة في الجهة الأخرى من الحجرة، ألقى السيد والسيدة نيكوليتش معطفيهما على ظهر كرسييهما، الأمر الذي سبق وأن قام به الآخرون. كان الديكور كئيباً قليلاً، وقبيحاً بالنسبة للسيد نيكوليتش، وممعناً في الحداثة، بالنسبة للسيدة نيكوليتش. الجدران مُقسّمة إلى مساحات زرقاء، وخضراء، وحمراء وذهبية، دون أن يكون عليها أي شيء باستثناء خزف مُزخرف برسومات نبات الخزامى على أعمدة القاعة. وكانت الحجرة ممتلئة بدخان كثيف. مضى حوالي نصف ساعة على جلوسهما. أخيراً قال السيد نيكوليتش، الذي كان يجلس مولِّياً ظهره للحضور " ألا يأتي النادل ؟ ". فردّت زوجته: " بالأساس، لا أرى نادلاً ".

غيّر السيد نيكوليتش كرسيه، بالفعل، لا وجود للنادل في أي مكان. يوجد بار في الناحية الأخرى من الحجرة وباب بستارة حمراء - يُفضي إلى المطبخ فيما يبدو. لكن لا أحد خلف البار، وآلة إعداد القهوة السريعة لم تكن تشتغل، ولا وجود حتى لزجاجة واحدة من الويسكي أو أي نوعٍ من المشروبات الروحية فوق الرفوف.

بعد فترة قصيرة قال السيد نيكوليتش: " ينبـغي أن يُقدّموا شيئاً ما. إنني أتضور جوعاً ".

" لا تكن أحمق شاندور. فلقد حضرنا للتو ".

" إنني أبحث عن النادل اللعين منذ ساعة ".

" حسناً. توقّف عن البحث إذاً. ربما لا يُقدّمون خدماتهم إلا في وقتٍ متأخر. لابد أنّه شيءٌ جديد، فكّر في ذلك ". لقد سمعت شيئاً عن مقاهي الخدمة الذاتية ".

" إذن فسأقوم وأخدم نفسي بنفسي ". قال ذلك السيد نيكوليتش بغضب.

" لا ينبغي أن تفعل ذلك. انظر حولك ولاحظ الهدوء الذي يتحلّى به الآخرون ".

كان السيد نيكوليتش قد لاحظ، في الواقع، إلى أي مدى يجلس الآخرون إلى مناضدهم صابرين، ولكنه صُدم الآن باكتشاف غريب ألا وهو عدم وجود مفارش على المناضد الرخامية وغياب أدوات المائدة، بما في ذلك الكؤوس والفناجين. كانت أحاديث الرواد منخفضة كأنها الهمس، وكانوا يُلقون بنظرات عابرة متسائلة- وهم ينفثون دخان سجائرهـم- نحو الباب الذي تحجزه ستارة. بين الحين والآخر يُطلّ شخصٌ ضخم أحمر الوجه بقميص داخلي من خلف الستارة ليُلقي بنظرة في أرجاء الحجرة كما لو كان يبحث عن شخصٍ يعرفه وكما هو متوقّع، يُشير بعد برهة إلى شخصٍ ما بالقدوم. ينهض الشخص المومأ إليه ويغيب مع الرجل ذي البنية القوية وراء الستارة لبضع دقائق ثم ترتفع الستارة ليخرج الزبون متضرّج الوجه جراء المتعة. وعندما يعود إلى رفاقه فإنهم لا يقطعون حديثهم معتبرين، فيما يبدو، غيابه الوجيز أمراً طبيعياً تماماً. وفي هذه الأثناء يخرج الرجل ذو القميص الداخلي مجدداً مُشيراً إلى شخصٍ آخر، فيذهب معه.

" عزيزتي ميلي إلى أين يمضي هؤلاء؟ " تساءل السيد نيكوليتش.

" إلى دورة المياه. إلى أين تعتقد؟ ".

" ولكنّ لماذا فقط عندما يدعون ".

" لا أدري. ولن أُتعب ذهني في محاولة معرفة ذلك ". قالت زوجته ببرود، ثم شرعت في تزيين أنفها وشدّ شعرها، دون أن تحوّل عينيها ولو لمرة عن الرجل المفتول العضلات بشعر صدره الأجعد البارز من خلال قميصه الداخلي. والآن ذهب زبون آخر إلى الداخل. أعقبه بعد عودته شخصٌ آخر " هل يسير الأمر حسب الدور؟ ".

تساءلت السيدة نيكوليتش " أم أنه مقتصر على الذين بالداخل؟ ". حرّكت كرسيها على نحوٍ يُمكنها من ملاحظته ما فيه بسهولة من الناحية الأخرى من المقهى. لكنّ الرجل ذو القميص الداخلي أشار برغم إلقاءه نظرة خاطفة على كعكة شعرها الأشقر إلى المنضدة المجاورة لهم.

من ناحية ثانية حاول السيد نيكوليتش جاهداً ألا يُلاحظ من قبل الرجل الفظ الملامح لكنه لم يتمالك نفسه عند ملاحظته لكيفية قفز جاره من على كرسيه بتلهّف عندما نودي عليه والسرعة التي اجتاز بها طريقه نحو الستارة الحمراء. بدا وكأنّه شخصٌ مُهمّ، ليس فقط بسبب الوسام المُثبّت على صدر سترته. ولكن بسبب ما تعبّر عنه هيأته ومشيته المعتدّة وشعره ذو البياض كالثلج.

ظلّ السيد نيكوليتش يُمعن فيه النظر. ناسياً جوعه، وحتى قلقه وقد خامرته رغبة في التسلل إلى الباب واستراق نظرة إلى الرجل العجوز، لكنه لم يجرؤ؛ لهذا اكتفى بالاستدارة في كرسيته والتحديق بالستارة. انتبه، فجأة، إلى أن جميع من بالحجرة يتخذون نفس الوضع مواجهين الستارة، على ما يبدو كأن الزبائن يتحدّثون فيما بينهم، ولكنهم كانوا في الواقع يتبادلون فقط جُملاً سريعة قصيرة، كما لو كانوا يتوقّعون حدثاً هاماً ومُبهجاً ويتفادون أن يحدث وهم غير متأهبين له. كان الترقّب يُضني السيد نيكوليتش إلى حد أنّه قفز واقفاً عندما خرج العجوز الأبيض الشعر من باب المطبخ واستوقفه " معذرةً سيدي. إننا ننتظر هنا منذ أكثر من ساعة. هل سنتلقى خدمات هنا الليلة؟ ".

" لماذا أنت قليل الصبر إلى هذا الحد؟ " تساءل الرجل هازاً رأسه إنّك لست مراسلاً صحفياً، أليس كذلك؟

" كلا سيّدي إنني مهندس زراعي ".

" عليك إذن بالهدوء " قال العجوز مربتاً على ظهر السيد نيكوليتش بودّ. هذه المرة الرابعة التي نأتي فيها هنا والليلة حان دورنا أسرع من أية مرّة سابقة. " ثم جلس العجوز مُبتسماً وكان به عرجٌ خفيف لم يكن مُلاحظاً عندما غادر الحجرة مُسرعاً. سددت السيدة نيكوليتش نظرة غاضبة إلى زوجها: " لِمَ تتسرع في السؤال انظر إلى المحتفلين هنا. حتى (زوبو ريجي) يجلس هناك ولكنه ليس مستاءً مثلك " كان الممثل الكوميدي الشهير الذي تظهر صُوره بكل المجلات، حاضراً بالفعل. عقد السيد نيكوليتش يديه منتظراً بهدوء مثبتاً عينيه الخرزيتين على الستارة شاعراً بالذنب كتلميذ صغير، عامداً ظهره مثل العجوز يطوى ذراعيه مثل زوبو

ريجي منتظراً بقلق عودة الزبائن الذين تابعهم بنظره وهم يُغادرون، حاول أن يستنبط من وجوههم ما حدث خلف الستارة ولكنه لم يُفلح. فهم يُغادرون الحجرة بملامح مشدودة تتجه عيونهم إلى البعيد بابتسامة حالمة، ويعودون مكتسين نفس التعابير باستثناء أن الابتسامة أصبحت على نحوٍ ما مغتصبة كما لو صمّمت لأن تكون قناعاً لتجربة روحية عميقة، انقضى المساء متثاقلاً، قام معظم الزبائن برحلتهم إلى المطبخ والعودة. بدأت أعماق السيد نيكوليتش تضطرب. ففي كل مرة يظهر فيها الرجل ذو القميص الداخلي يُحاول أن يجتذب انتباهه وكان يرفع رأسه فجأة، أو يعطس، أو يقوم بحيل صبيانية أخرى. إنّه ينظر الآن في أرجاء الحجرة نظرة متمهّلة، وأنه يقوم ببضع الخدع للزبائن. كان يُمعن النظر في سيدة ترتدي قبعة جميلة وعندما تقفز عن كرسيها يومئ إلى شخصٍ آخر في نهاية الحجرة فتسري همهمات الرضى عبر المقهى ويبتسم الزبائن بتشفٍ لهذه النكتة.

أخيراً حانت اللحظة المرتقبة: إذ أشار الحاجب إلى منضدتهما قفز كلاهما، لكنّ الرجل ذا القميص الداخلي أومأ بيمناه إلى السيد نيكوليتش، بينما كان يُشير إلى ميلي بيسراه، كما لو كان يضربه على رأسه من بعيد، اتخذت المرأة طريقها مسرعةً وغرق السيد نيكوليتش في كرسيه محدقاً في زوجته بعينين مفتوحتين على آخرهما. لم يُطق الجلوس طويلاً ونهض عندما نفذ صبره، لكنّ النظرات المستفهمة من حوله أثابته إلى رشده، فعاود الجلوس.

أخيراً انفتحت الستارة وظهرت ميلي، لكنّه لم يجد الوقت لطرح الأسئلة؛ لأن الرجل ذو القميص الداخلي أشار إليه، بعد طول انتظار، بأصابعه المكتنزة. استطاع أن يُلاحظ، برغم ذلك، اللمعة الغريبة بعيني زوجته والتورد الذي كسى وجهها، وكان هناك شيءٌ ما مُصطنع وغير طبيعي في مشيتها كما يحدث عندما يحاول السكران إثبات أن بإمكانه السير بشكلٍ سليم تماماً، وعندما تقابلا وجهاً لوجه تجنّبت النظر إليه.

أومأ الرجل ذو القميص الداخلي برأسه مزيحاً الستارة إلى الخلف، بدأ وجهه عن قرب أكثر وداعة، جبهته الضيقة وأنف الملاكم الأفطس الذي يملكه بمنخاريه المبينين لا يُمكن وصفهما بالملاحة يوحيان مع ذلك بانقيادية ودفء حيوانيين. وراء الستارة يوجد باب دوار فتحه للسيد نيكوليتش بأدب.

" لا.. لا.. من هنا لو سمحت ".

بعد أن اجتاز ممراً قرميدياً وصل السيد نيكوليتش المطبخ الذي كان نظيفاً وأنيقاً بشكلٍ غير معهود. لم يكن الموقد مشتعلاً وبدت القدور والمقالي على الرفوف غير مستعملة، وكانت مقلاة واحدة مُعلّقة على الحائط تلمع كالبدر لم يكن هنالك طباخين ولا خدم، عدا ثلاثة رجال يُمكن أن يكونوا أي شيءٍ عدا خدم، كان أحدهم يحمل هراوة بيده، والآخر عصا من الخيزران بينما كان الثالث يقف خالي اليدين، ودون أن يتفوّه بكلمة صفع السيد نيكوليتش على وجهـه لمجرد دخوله، لكنه نال توبيخاً على ذلك " هل جننت يا شموخي؟ " صاح ذو القميص الداخلي بحدة " كيف تهاجم شخصاً بهذا الشكل؟ " ولكي يصلح هذا الحدث البغيض وجّه حديثه إلى السيد نيكوليتش بشكلٍ أكثر كياسة" عليك أن تُبدي الحماس. هذا كل ما هنالك الرغبة والحماس ما هي رغبتك سيدي؟ هـل تمانع في التعري مثلاً؟ ". ظلّ السيد نيكوليتش واقفاً مكانه ناظراً إلى الرجال الأربعة لم يكن خائفاً ولا مندهشاً فلقد كان لديه دائماً شعور
، كلا، لقد كان متأكداً من أن شيئاً كهذا سيحدث له يوماً ما، وقد قرر أن ينتهي منه الآن وهذا هو الأفضل، ولكنه وجد صعوبة في صياغة كلماته.

" لا أُفضّل ذلك، إذا لم يكن لديكم مانع ".

" مانع؟ بالتأكيد لا قال ذو القميص الداخلي بابتسامة ودودة " واضح أنك لست من المدينة هل تُمانع في أن تشتم أيضاً.

" أترك أمر ذلك لكم ".

تنحّى ذو القميص الداخلي جانباً قائلاً هيا يا شباب بدون تكاسل " شرع المرافقون الثلاثة، والذين كانوا كأنهم خائفين على ما يبدو من الرجل ذي القميص الداخلي في ضرب السيد نيكوليتش بشدة لم يكونوا مندفعين ولكنهم كانوا يعملون بكفاية وكانوا يضربونه كما لو كانوا يطرقون حديداً ساخناً بسرعة قبل أن يبرد مطلقين تعليقاً بين البرهة والأخرى " إذاً فأنت لست راضياً عن معدّل محصول القطن آه؟ قال الرجل الذي يُمسك بالهراوة " تعتقد أنّك عارف بكل شيء، أليس كذلك " صرخ الرجل الذي يستخدم عصا الخيزران أغدق الرجل الثالث، الذي لم تكن لديه أداة ضرب وكانت مهمته صفع السيد نيكوليتش بالشتائم عامة خذ هذه أيها القملة! وهذه أيها التافه! ثم هذه أيها الخنزير! " صارخاً في كل مرة يوجّه فيها إليه لكمة.

لم يشترك ذو القميص الداخلي في الضرب، ظلّ يقف عاقداً ذراعيه فقط عندما انفتحت فرجة ضيقة، ركل السيد نيكوليتش على مؤخرته بعقب حذائه، يُمكن تبيّن أنه لم يكن من وظيفته أن يفعل ذلك ولكنه كان يُريد بدون شك، أن يكون قدوة لمساعديه الذين بعد أن شرعوا في العمل بحماسٍ مُفاجئ انقطعوا فجأة، تراجع ثلاثتهم وأشعل صاحب الهراوة سيجارته التي كانت حتى هذا الوقت تتأرجح من زاوية فمه، ورغم أن السيد نيكوليتش كان يشعر بالصداع وأن ركبتيه كانتا ترتجفان قليلاً، إلا أنه لم يكن منهكاً بل إنه شعر بأنه خفيف وحُرّ كما يحدث للمرء بعد نزهة مُتعبة ولكن مُبهجة أو بعد تدليك جيد، فقد انزاح عنه القلق الذي ظلّ يُلازمه طوال هذا الوقت ومع ذلك لم يجرؤ على المغادرة ابتسم الرجل ذو القميص الداخلي وفتح له الباب." من هنا، سيدي لو سمحت ".

خطا السيد نيكوليتش بضع خطوات، ثم توقّف لا يدري إذا كان من العادة في مثل هذه المناسبات تقديم إكرامية مالية. وضع بعناية شديدة، ورقة من فئة العشرة فورنتات على حافة المنضدة، عَبّر صاحب الهراوة عن شكره لذلك بانحناءة بالغة ووضع النقود في جيبه، اجتاز السيد نيكوليتش الصالة عائداً إلى وسط المقهى، كانت عيناه تبرقان ووجهه الشاحب متضرجاً بسبب الاستثارة، حاول أن يسير برشاقة الجنود؛ لأنه شكّ في أنه يعرج قليلاً، بعد أن جلس قرب زوجته قام يُبلّل شفتيه بريقه في سيماء موحية بالرضا.

بقيا لمدة خمس عشرة دقيقة أخرى، رجعا بعدها إلى الفندق وفي اليوم التالي عادا إلى مدينتهما النائية في الأقاليم المهملة.

استفان أوركيني (István Örkény) (1912-1979):
 قصاص وروائي ومسرحي مجري أصدر أولى مجموعاته القصصية (رقصة البحر) سنة 1942 أُخذ بعدها بوقتٍ قصير إلى الجبهة العسكرية في فرق العمل الإجباري، ومن ثمّ كأسير حرب في بداية 1943، ثم سمح له بالعودة إلى المجر سنة 1946، اشتغل كاتباً مسرحياً لعدة مسارح وقارئاً لدار نشر. بدأ الكتابة بأسلوب واقعي تقليدي تخلّى عنه لمصلحة معالجة ترتكز على الخيال المشتط  واللامعقول.

بوليسلوف


 الأديب الروسي: مكسيم غوركي
 
يوماً ما حدثني صديق لي قال:
 كنت أواصل دراستي في موسك؛ متخذا مسكناً صغيراً حيث كانت جارتي البولندية التي أسمها "تيريزا" فتاةً غربيةَ الأطوار. يمكنني وصفها بأنها طويلة القامة, قوية البنية. لها بشرة داكنة, وحواجب ثخينة, وملامح فظة كما لو أن فأساً أحدث كل هذه الشروخ البارزة في وجهها .. عيناها غائرتان؛ وصوتُها خشنٌ وعميق؛ فيما تصرفاتُها تشبه سلوكيات رجلٍ صرفَ حياته في الشجارات والعراك الدائم. كانت ثقيلة الجسد، ومظهرُها الخارجي يعرض قبحاً مخيفاً. تسكن غرفةً تقابل غرفتي في الطابق العلوي من البناية التي نسكنها، لذلك غالباً ما ألتقيها عند السلَّم أو في الفناء. ترميني بابتسامةٍ تغلّفها السخرية، وغالباً ما أبصرُها عائدةً إلى البيت بعينين حمراوين وشعرٍ يتخلّى عن انتظامه. وقد نتواجه فتروح تحدّق بي ثم تهتف: " مرحباً : أيها الطالب! ".
ضحكتُها تبعثُ على الاشمئزاز، لذلك قررتُ تغيير غرفتي تجنباً لرؤيتِها .. وفعلاً حظيت بمكانٍ أشعرني بالارتياح خصوصاً وثمَّةَ
نافذةٌ أستطيعُ من خلالِها ملاحظة المدينةِ بشوارعِها المنفتحة
الهادئة. وكثيراً ما جلستُ طويلاً أتشبّعُ بالمشاهدة وأنهلُ من الهدوء. في أحدى الصباحات: وبعد أن انتهيت من ارتداءِ ملابسي وارتميتُ على السرير فتحتُ الباب فجأةً فإذا بـ تيريزا " تقف عند العتبة:
- مرحباً أيها الطالب !.. قالتها بنبرتها الخشنة المعهودة.
- ماذا تريدين؟! . سألتها مستغرباً.
حين أمعنتُ النظر رأيتها بوجهٍ اكتسى تعابيرَ مرتبكة وخجولة لم أبصرها فيه من قبل.
- أيها الطالب !.. قالت وأكملت: " أريد أن أسألك معروفاً وأرجو أن لا ترفضه " .
لم أقل شيئاً إنَّما هي التي استمرت : " أريدك أن تكتب لي رسالة إلى أهلي !" .
" ماذا تبغي هذه الفتاة برب السماء ؟!.. قلتُ مع نفسي. قفزتُ من على السرير متخذاً مجلسي عند المنضدة ساحباً ورقةً ومقرّباً قنينة الحبر. قلتُ:
- تعالي : اجلسي وأملي عليّ ما تودّين.
دخلت جالسةً باحتراس، ُمطلِقةً نظرةً حادّة باتجاه عيني.
- حسناً .. لمن أوجّه الكلام ؟
- إلى " بوليسلوف كاشبوت " الذي يقطن في سوينزياني " قريباً من محطة قطارات وارسو.
- وماذا تطلبين أن أكتب له ؟ .. هيّا ! قولي.
- عزيزي بولص .. حبيب قلبي .. حبّي .. روحي. إلهي يحفظك من كلِّ مكروه ... عزيزي لماذا لم تكتب لحمامِتكَ الصغيرة الوديعة منذ زمن بعيد؟ . لماذا لا تكتب لتيريزا التي تشعر بحزن عميق؟! بصعوبة بالغة تمالكتُ نفسي من الضَّحك .. " أهذه حمامة ؟! .. أهذه التي طولها ستة أقدام، ذات القبضة القوية والوجه الحاد والعافية الكاملة والتي تشبه مخلوقة صرفت عمرَها تكنس سخام المواقد الشتوية يمكن اعتبارها حمامة وديعة وصغيرة ؟! " ..
ضبطتُ نفسي، واحتفظتُ برباطة جأشي. ورحتُ أسألها:
- من هو بوليسلوف؟
- بولص: يا سيدي ! .. رددّت الاسم بإعجابٍ كما لو كان من المستحيل نكران مَن يكون بوليسلوف هذا .
- سأتزوج بولص .
- تتزوّجيه ؟!
- ولماذا أنت مندهش ! أيها الطالب؟ ألا يمكن لشابة مثلي امتلاك حبيب؟
- شابة ؟! .. أيةُ نكتة ! .. ولكن ربّما .. قد يحدث ذلك. كل شيْ جائز .. منذ متى وأنتما مخطوبان؟.
- منذ عشرة أعوام.
نعم .. كتبتُ الرسالة مليئة بعبارات الحب والوله واللطف كما لو كنت أتمنى أن أكون أنا بوليسلوف، ومن أية فتاة تردني هذه العبارات، إلاّ تيريزا.
- شكراً لك من قلبي أيها الطالب.
كانت بالغة التأثر، فسألتني ردّاً للجميل:
- هل تطلب مني خدمة أؤديها لك؟
- لا: شكراً.
- أستطيع إصلاح قميصك أو أي من ملابسك أيها الطالب. كان هذا

ما يزعجني أحياناً. ومع ذلك شكرتها قائلاً: لا أحتاج.

في إحدى المساءات وكان قد مرّ أسبوعان على كتابة الرسالة

كنتُ جالساً عند النافذة أصفِّرُ وأتركُ لعيني التجوال تسليةً، مفضلاً عدم الخروج بسبب رداءة الجو عندما فُتح الباب بغتةً. لقد كانت تيريزا!


- أيها الطالب. أرجو أن لا تكون منشغلاً .. حسناً: لا أرى أحداً عندك.
- لماذا ؟

- أريدك أن تكتب لي رسالة.
- إلى بولص؟
- كلا .. أريدك أن تكتب ردّهُ.
- ماذا ؟ . . صرختُ مندهشاً.
- اعذرني، أيها الطالب. أنا غبية. لم أعبر عن نفسي بصورة واضحة. رسالة ليست لي بل لواحدة من صديقاتي .. فهي لا تعرف الكتابة، ولها حبيب مثلي.
- أتطلعُ فيها فأحصد خجلاً يغمر وجهها، وارتعاش كفّيها يفضحان كذبة لم تُصدق.
- اسمعي أيتها الفتاة. كل ما قلتيه عنك وعن بوليسلوف كان خيالاً مَحضاً، وأنت تكذبين إنهُ ليس إلا عذراً للحضور إلى هنا. لا أريدك أن تلعبي مثل هذه الأفعال مرّة أخرى ... أفهمت؟

رأيتُ الخوفَ يكتسحها .. إحمرّت خجلاً. أرادت أن تقول شيئاً لكنها عجزت، حتّى أنني شعرتُ باضطهادها. لا بدّ أنْ ما دفعها لفعلِ ذلك! ولكن ما هو؟!

- " أيها الطالب .. " توقفت لتقول شيئاً، لكنّها بلمحةٍ مباغتة استدارت خارجةً من الغرفة.
مكثتُ مكاني وفي قلبي مشاعر واحتدامات ضاغطة. سمعتها تغلق الباب بعنف ما أشعرني بأنها خرجت غاضبة. لذلك صممّت على دعوتها للعودة شاعراً بالأسف ومقرراً كتابة الرسالة, خطوت

صوب غرفتها. لمحتها جالسة عند منضدتها وقد رمت بوجهها بين كفّيها.
- يا فتاتي، أنتِ ..عندما أصل إلى هذا القدرِ من القسوة أشعرُ دائماً بأسىً عميق. قفزَت من مكانها؛ ومباشرةً توجَّهت إليَّ بعينين مشرقتين، واضعةً ذراعيها على كتفي. ثم شرعت تنشج باكية كما لو أنَّ  قلبها يتفطَّر.

- ما الاختلاف إن ... إن كتبتَ .. أسطر .. قليلة ؟ آ .. أنتَ تبدو شاباً مرغوباً فيه !.. نعم، لا يوجد ثمّة بوليسلوف ... وليست

هناك تيريزا! هنالك أنا فقط .. أنا وحيدة.

- ماذا؟! هتفتُ مصعوقاً بكلماتها: " لا يوجد بولص مطلقاً ".
- لا ..
- ولا تيريزا ؟!.
- لا .. أنا هي تيريزا.
تطلعتُ إليها مذهولاً " أحدنا هو المجنون " ..
عادت إلى منضدتها. استخرجَت قطعة ورق: هنا ! " قالت " هذا ما وردني .. هنا ! .. خذ هذه الرسالة التي كتبتها لي. الناس الآخرون ذوو القلوب الرحيمة ستكتب لي بدَلك." أمسكتُ الرسالة التي كتبتها لبوليسلوف المُتخيّل:
- اسمعي تيريزا. لماذا كل هذا ؟ لماذا تريدين الناس أن يكتبوا لكِ بينما أنتِ لم تبعثي الرسالةَ هذه؟
- لمَن سأبعثها؟
لم أدري ما أقول .. كل ما فعلته هو أنّي تحركتُ خارجاً. لكنَّها انطلقت تقول:
- لا يوجد بوليسلوف. أنا خلقته وأردته أن يعيش. أدري أنني لست كمثل الآخرين. أعرف أنني لا أتسبب بأذى أحد لو أنا كتبتُ إليه.
- ماذا تقصدين بقولكِ " إليه " ؟.
- إلى بوليسلوف طبعاً؟
- لكنكِ تقولين لا يوجد شخصٌ بهذا الاسم!
- نعم .. وما الضرر في عدم وجوده .. أكتب إليه كأنَّه رجلّ حقيقي. وهو أيضاً يردُّ عليَّ. أكتب له مرة أخرى، ومّرة أخرى هو يرد.

وأخيراً فهمتُ. لقد أحسستُ بالذنبِ والخجلِ وبصدمةٍ مثلَ طعنةِ ألمٍ. آآ .. إلى جانبي تسكنُ إنسانةٌ فقيرة ليس لها ما يقابلُها من روح تبثُّه العواطفَ وتُظهِر له الخلجات .. لا أبوان لها، لا أصدقاء. لذلك اخترعت لنفسها رجلاً تبثه خلجاتها.

استمرَّت تخاطبني بأسىً عميق: " الرسالةُ هذهِ التي كتبتها لي لتصل إلى بوليسلوف طلبتُ من شخصٍ آخر يقرأها لي وبصوت عالِ. استمعتُ وتخيلتُ أن بوليسلوف رجلٌ يحيا في هذا العالم. ثم طلبتُ إجابةً من بولص إلى حبيبته تيريزا .. إلي. هكذا أشعرُ أن ثمة بوليسلوف يحيا في مكان ما. لا أعرف أين. وهكذا أستطيع التواصل في الحياة فتصبح عندي أقلَّ صعوبةٍ، أقلَّ فظاعةٍ. وأقلَّ حدّة ". منذ ذلك اليوم وأنا أكتب الرسائل. اكتبها مرتين في الأسبوع. رسائل مرسلة من تيريزا إلى بوليسلوف؛ وأخرى من بوليسلوف إلى تيريزا.

أقول كلماتي المليئة بالعاطفة؛ وبالأخص الردود، وهي تصغي إلى القراءة باكية، ضاحكة؛ ولكن سعيدة. وفي المقابل صارت تعتني بملابسي. ترتِّق قمصاني وجواربي، وتنظف حذائي، وتمسح قبعتي وتفرّشها. بعد ثلاثة أشهر ألقي القبض عليها بشبهةٍ فأودعت السجن. ولم أرها بعد ذلك.لا بدَّ أنها ماتت.
 
 

  مكسيم غوركي  ( 1868 - 1936):  
أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف أديب وناشط سياسي ماركسي روسي، مؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية التي تجسد النظرة الماركسية للأدب.
ولد في نجني نوفجراد وأصبح يتيم الأب والأم وهو في التاسعة من عمره، فتولت جدته تربيته, وكان لهذه الجدة أسلوب قصصي ممتاز، مما صقل مواهبه القصصية.
تعني كلمة غوركي باللغة الروسية "المر" وقد اختارها الكاتب لقباً مستعاراً له من واقع المرارة التي كان يعانى منها الشعب الروسي تحت الحكم القيصري والتي شاهدها بعينه خلال المسيرة الطويلة التي قطعها بحثاً عن القوت، وقد انعكس هذا الواقع المرير بشكل واضح على كتاباته وبشكل خاص في رائعته "الأم".
عمل إسكافيا، بستانياً، طباخاً، رسام أيقونات مقدسة، خبازاً، نجاراً، بائعاً متجولاً، حمالاً في الموانئ، مراقباً لحواجز القطارات. مما سهل له مخالطة كل الأوساط، وتشربت روحه بروح الشعب وغرست فيه معاناته هذه حب الثورة على الظلم والقهر والصعاب، فانتقد ظلم لينين وتروتسكي رغم إنهما كانا من رموز الثورة، مما كان سبباً لوفاته وأبنه مسمومين في موسكو.
كان صديقاً لـ لينين الذي التقاه عام 1905 وسميت مدينة نجني نوفجراد التي ولد فيها باسمه "غوركي" منذ عام 1932 حتى عام 1990.
أهم أعماله:
رواية الأم.
رواية الطفولة.
مسرحية الحضيض.
قصيدة "انشودة نذير العاصفة".
الطفولة 1913-1914
الأعداء؛ دراما؛1906  
جامعاتي 1923

بالإضافة للعديد من المسرحيات والقصص والمقالات.
.
 
 
 
Twitter Bird Gadget