رحلة البحث عن وظيفة


وقف أحمد أمام كشك السجاير والذي هو في نفس الوقت مركز توزيع الصحف واشترى إحدى الصحف ذات الوزن الثقيل، وأخرج فوراً صفحة الإعلانات وبدأ يقرأ إعلانات الوظائف علـَّه يجد وظيفة بعد أن ظل عاطلاً عن العمل 8 أشهر منذ تخرجه من

الجامعة وأصبح يخجل من النظر إلى والديه وهو لا يساهم بأي شيء في نفقات البيت. نظر إلى أول إعلان: (مطلوب سكرتيرة لشركة تجارية استثمارية.. المؤهلات: وجه وقوام جميل.. عدم وجود ارتباطات عائلية...استعداد للسفر والعمل حتى ساعات متأخرة ...الثياب ما قل ودل ! تلفون: .....)...هزّ أحمد رأسه وقال لا حول ولا قوة إلا بالله ده إعلان وظيفة والا...... طب اكتبوا على الأقل: تعرف تطبع والا كمبيوتر والا أي داهية... كده عيني عينك هيَّ الدنيا جرى لها إيه؟ ...

تعوَّذ من الشيطان ونظر إلى ثاني إعلان (مطلوب موظف إستعلامات يكون خريج جامعة ويجيد 3 لغات .. خبرة لا تقل عن 5 سنوات ..تلفون: ....)..هزّ أحمد رأسه ... الله .. هيَّ العالم اتجنت ولا ايه؟ بقى عاوزين خريج جامعة و3 لغات علشان يبقى موظف إستعلامات ؟؟ وأمال الواحد لو عاوز يبقى مدير لازم يكون معاه ايه؟ لا وفوق ده كله خبرة 5 سنوات.. طب الواحد هيجيب الخبرة منين لما محدش يرضى يشغله؟

تعوذ من الشيطان مرة ثانية وأكمل ...فجأة لمعت عيناه فرحاً وأحس أنه وجد ضالته في إعلان بالبنط العريض: (مؤسسة حكومية بحاجة الى عدد من الشباب الجامعيين لوظائف عن طريق إختبار شفهي أمام لجنة للمعلومات ..الإتصال....)... بدأ قلب أحمد يدق من الهيجان وتبدل يأسه أملاً في الحصول على الوظيفة التي يحلم بها وهو الخريج بتفوق، ولأن الأمر يخضع لاختبار ولجنة فلا مجال للوسايط "يعني الأفضل هو الذي سيفوز بالوظيفة".

ذهب أحمد إلى بيته وزف الخبر السعيد إلى أمه التي لم تتمالك نفسها عن إطلاق زغرودة عيار 21 مليمتر هزّ صوتها بيوت الجيران كلهم، وبدأت وكالة أنباء النسوة بنقل الخبر وكل واحدة تضيف عليه من عندها:
- آه يختي .. بيقولوا هيبقى مدير في أكبر بنك في البلد..
- لا بنك إيه؟ ده هيبقى سفير..
- اسكتي إنتي وهيَّ سفير إيه؟ ده هيبقى دكتور في المستشفى..
- دكتور إيه ياهبلة هو خريج طب؟
- وفيها إيه؟؟ مش بيقولوا جاب واسطة؟ يعني هـُمَّ كل الدكاترة درسوا الطب؟
- آه
- آه إزاي؟ ابن البيه اللي أنا باشتغل عنده راح أوروبا 6 أشهر رجع بعدها طبيب وتعين في مستشفى!!!
- لا يا حبيبتي..الواحد علشان يبقى دكتور لازم الأول يبقى وزير! هـُمَّ مش دايماً في التلفزيون بيقولوا معالي الوزير الدكتور فلان !!!!

واستمر نقاش الجارات حول طبيعة الوظيفة الجديدة لأحمد ولولا أن ميعاد الغداء قد حل وانصرفت كل واحدة لإطعام عائلتها لكان أحمد قد أصبح رئيس جمهورية دون أن يدري!

أما أحمد فقد كانت الأحلام الوردية تراوده وتخيل نفسه وقد أصبح موظفاً مرموقاً محترماً وراتب جيد يمكنه من مساعدة أهله والزواج.

نهض أحمد من السرير في يوم الإمتحان ... ارتدى أحسن بدلة لديه ...حلق ذقنه ... وضع العطر ... توكل على الله وخرج وأمه من ورائه تدعو له بالنجاح والتوفيق والنصر على العدوين!!

وصل إلى المؤسسة صاحبة الإعلان ونظر إلى البناية ...على الرغم من أن واجهة البناية قد أصبحت سوداء من تراكم الوساخة

والأتربة والدخان إلا أنها بانت له وكأنها قصر الأحلام من ألف ليلة وليلة.

دخل البناية واتجه نحو قاعة الإمتحان ...رأى صفاً طويلاً من الشباب الراغبين في الحصول على الوظيفة فسقط قلبه وكاد أن يغمى عليه  ولكنه تمالك نفسه وقال في سره: "يعني إنت كنت فاكر إيه؟ هتكون وحدك في المسابقة؟ أمال هـُمَّ عاملين مسابقة ليه؟"

سجل اسمه عند الحاجب وانتظر دوره ... بدأ المتقدمون يدخلون واحداً تلو الآخر إلى قاعة الإمتحان...بعضهم يخرج متجهماً وبعضهم مبتسماً. خرج أحمد من شروده لدى سماعه اسمه، ودخل إلى القاعة فوجد لجنة مكونة من 3 أشخاص محترمين وكبار في السن .. سلم عليهم وجلس على كرسي موضوع أمام الطاولة التي تجلس اللجنة خلفها .. سأله أول عضو في اللجنة:
- إيه هيَّ مؤهلاتك يا بني؟

أجابه أحمد وشرح له كل شيء عن الشهادة التي يحملها وأنه تخرج الأول على دفعته وحاز على عدة جوائز تقديرية لاجتهاده في الدراسة ...هزّ العضو الآخر في اللجنة رأسه وقال:
- جميل، جميل جداً دا نتَ ما شاء الله ثروة للبلد دي وإحنا بنعتز بشباب مجتهد زيك..

فرح أحمد لهذا الثناء واستبشر به خيراً، وهنا خاطبه العضو الثالث في اللجنة قائلاً:
- والله إحنا هنا في المؤسسة حريصين على إننا ما نوظفش إلا الكفاءات العالية مش زي المؤسسات التانية اللي توظف كده من غير تدقيق, تصور حضرتك أنا أعرف واحد خريج لغة عربية بس علشان عنده واسطة عينوه مترجم اسباني!!!

أجابه أحمد:
- يا أفندم لولا إن فيه ناس محترمة زي حضراتكم كانت البلد خربت من زمان يا أفندم!!

قاطعه العضو الثاني في اللجنة قائلاً:
- شوف يا بني إحنا لاحظنا إن شباب البلد بتهاجر لبلاد برة وبتتبهدل علشان ما فيش فرص عمل جوة البلد يعني فكرك الدكتور أحمد زويل لو كان لقى شغلانة كويسة داخل البلد كان هاجر بره؟؟ أكيد لا و كنا إحنا استفدنا من خبراته بدل ما هو عايش كده بره وخيره للأجانب مش كده برضه؟

أجاب أحمد متحمساً:
- ربنا يخليكم ذخراً للوطن... إنتم يا أفندم دوركم مش أقل من أحمد عرابي ولا أقل من طلعت حرب ولا محمد علي باشا أنتم يا أفندم لازم يتعمل لكم تماثيل في وسط البلد يا أفندم ... آه والله .. تماثيل كل واحد 10 أمتار!!

هزّ الرجل الذي يجلس في الوسط "ويبدو عليه أنه رئيس اللجنة" رأسه، وقال:
- لا، لا، تماثيل إيه وبتاع إيه؟ إحنا بنعمل بواجبنا وبس وده أقل حاجة يمكن يعملها أي شخص بيحب وطنه ويحرص على طاقات الشباب فيه... أنا يا بني "وأعوذ بالله من كلمة أنا" بالنيابة عن أعضاء اللجنة أحب أهنيك وأقولك مبروك... إنت حصلت على الوظيفة وتقدر تستلم الشغل من بكرة لو حبيت ..


فرح أحمد ونهض من كرسيه وأخذ يصافح أعضاء اللجنة واحداً واحداً وهو يقول:
- الله أكبر...يحيا العدل... أهو كده التعيين ولا بلاش...ربنا ينصر دينكم ويعلي مراتبكم كمان وكمان يا رب.

وفجأة تذكر شيئاً ..سأل رئيس اللجنة:
- على فكرة أنا لسه ما عرفتش هيه إيه الوظيفة بالضبط؟

أجابه رئيس اللجنة:
- الله ...!! هو إنت ما قريتش الإعلان اللي ورا الباب؟

أجابه أحمد متلعثماً:
- لا وحياتك يا أفندم ...أنا آسف.. بس من كتر قلقي ما شفتش ولا حاجة وأنا محظوظ إني ما وقعتش من طولي وأنا داخل هنا..

ضحك رئيس اللجنة وقال:
- معلش حصل خير ...الوظيفة هي بواب البناية
- حضرتك بتهزر مش كده؟ دم حضرتك خفيف جداً يا أفندم!!!
- هزار إيه يا محترم؟؟ شايفني عيـِّل معاك في الروضة علشان أهزر معاك؟!!
- يا نهار إسود ...إنت بتتكلم جد بقى!!
- أكيد بجد طبعاً
- يا نهاركم مطيّن ...بقى عاملين إعلان في الجرايد ولجنة إمتحانات وشهادات جامعية علشان بواب؟!! إنتم جايين منين؟ من مستشفى المجانين!!!
- احترم نفسك واعرف إنت بتكلم مين، ولعلمك فيه 100 واحد يتمنوا إنهم يحصلوا على الوظيفة دي، والعتب علينا إحنا اللي اخترنا واحد فاشل زيك... امشي تفضل اطلع بره من غير مطرود... شباب صايع ما منوش فايدة وبعدين يزعلوا لما نستعين بخبرات أجنبية!!!
ونادى على الحاجب كي يدخل الشخص التالي الى القاعة .

وكل وظيفة وإنتم بخير !!!


محسن الصفار:

كاتب عراقي ساخر. ولد في عام 1968 درس الطب النفسي في اوكرانيا وتخرج سنة 1998 وانتقل بعدها إلى بيروت حيث عمل في المجال الإعلامي وقام بتأسيس شركة للإنتاج الإعلامي قامت بإنتاج العديد من الأفلام الوثائقية.
 اشتهر بكتابة القصص والمقالات الساخرة في مختلف المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية له عدة كتب منها:
*عالم مجنون مجنون.
*مجنون يحكي وعاقل يسمع.
*وفاء لملك وعشقاً لمملكة.
*حكايات وعبر.
 *طريف الأخبار في مقامات الصفار.
متزوج واب لطفلين هما تارا ويوسف كاتب أسبوعي في جريدة البلاد البحرينية ويعمل في مجال الاستشارات.

حياة الريف بساطة العيش وأصالة الطبيعة



لحظات من العمر، وذكريات من مفردات الأيام ، عشتها في الريف اليمني رأيت فيها الحياة بكاملها في وجهها الآخر، تحكي نقاء الهواء وصفاء القلوب، وبساطة العيش، حيث تستقبلك على

مشارف القرية تلك البيوت الحجرية القديمة والعريقة، ترى فيها القوة والجمال قد امتزجا معاً فكوّنا تاجاً مهاباً، يزداد بهاؤه كلما اقتربت منه وتنقلت بين أقرانه، تماماً كتلك العمامة التي تعلو رأس رجال القرية وتتربع على نواصيهم، تدل على الرجولة المعهودة والعرف المتوارث.
ومع أنفاس الصباح الاولى تبدأ الحيوية وتتحرك الحياة، فهذه نساء القرية على تناويرهن الطينية يجهّزن الخبز الحار اللذيذ المعمول من الحبوب والذرة والمعروف باسم (الملوج والذمول) وذلك الدخان المتصاعد الموحي بخفة الحركة وبداية الانتشار، وأولئك الرجال الذين يستعدون للذهاب إلى الحقول والمزارع بالبهائم، وما هي إلا أن تبسط الشمس خيوطها وتملأ الأرض فتزداد الحركة ويتسع النشاط، وتسمع اكثر من صوت وترى أكثر المواقف أصالة وبراءة، فمن الأصوات ذلك الحداء الذي يردده الفلاحون في المزارع أثناء العمل، وغناء الصبايا ترعى الأغنام على الجبل، تختلط بأصوات الحيوانات المسخّرة وكأنها تتبادل الأدوار مع أصحابها فتضفي على الطبيعة صبغة ممتعة أخرى، شعرت وأنا

أرى وأسمع وأشم وأستمتع، بأننا لسنا في عصر التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والحياة التي عرفتها في المدينة بكل تفاصيلها المختلفة تماماً عن ما أنا فيه، وشعرت أيضاً بالعطش فاستسقيت ماءً من أحد تلك البيوت الحجرية المتناثرة، فصوّتت لي عجوز بالرحب والسعة وأشارت إلى جرّة بجانب الباب الخشبي الأصيل، موضوعة بعناية ومرتبة المكان والسِقاء، عرفت لاحقاً أنها (سبيل) وأن هذه عادة الناس جميعاً، يضعون الماء بهذه الطريقة على قارعة الطريق وأمام البيوت لكل محتاج يبتغون الأجر والثواب، أخذت القِدح وغرفت باستحياء يدل عليه عدم التعوّد والتوجّس من طعم الماء، ولكني حين جرعت أول الدفعات أدهشتني حلاوة طعم ذلك الماء وأريحية برودته، مما دفعني للاستزادة، ومددت يدي لاستجلاب قدح آخر، فسمعت في الأثناء صوتاً ندياً ذو إحساس صادق، كان صوت فتاة ترفع عقيرتها بأغنية تدل كلماتها على المعاناة والمروءة معاً تقول:

قولوا لمن خلّا الحياة كابوس


عاد الهوى يشتي شرف وناموس***

شدّتني تلك الكلمات وأبهرتني تلك النغمات، وعرفت بالحَدْس أن الفتاة تعاني ممن يتطلّبها ويلحّ ويأباه فؤادها، فقالت ذلك تذم هوى

الهائم بلجام الشهامة والعقل، وتدفعني للتفكر في حال المواقف المشابهة في المدينة مع الفارق الكبير، حيث أصبحت المدينة تعجّ بما يمجّه الذوق وتأباه الفطرة، إذْ تحوّل الحب العذري إلى مجون، وليل الصبّ إلى جنون، وبهذه المقارنة كدت أنسى نفسي وأدخل في مقارنات حياة الريف بما عرفته في المدينة، إلا أني تنبّهت حين كاد القدح يسقط من يدي، فارتشفت بلذةٍ آخر الجرعات ممزوجةً بآخر ما سمعته من الكلمات، وما حملته من معاني، ثم وضعت القدح على الجرة، وغادرت خارجاً من القرية متوجهاً إلى المدينة، وقد عقدت العزم على العودة حين تسنح لي فرصة أخرى أوسع وقتاً لأستزيد من تلك الطبيعة وأصحابها: حكمة من شيخ، وصوتاً من فؤاد، ومعنى من مروءة، وشربةً من جرّة.

---------------------------------------

*** البيت من الشعر النبطي الشعبي ومعناه: قولوا لهذا الذي جعل الحياة كالكابوس بسبب تصرّفاته الغير مهذّبة، أن الهوى والحب بحاجة أيضاً إلى شرف ومروءة، تحجز صاحبها عن إظهار هواه بغير تهذب، وإصراره على حب من لا يحبه ولا يتطلع إلى أمثاله.



 
محمد علي علي:

 كاتب وشاعر من اليمن.




مقعد للبكاء

الأديب العراقي د. ماجد الحيدر


لم أفعل الشيءَ الكثير لتبديد نوبة حزنكَ التي تفجرتْ فوق مكتبي. لم أردد حكمة ما، ولم أتذكر – بل لم أحاول أن أتذكر- بيتا من الشعر أو قصةً وعظية.

لقد تركتُكَ تبكي. ولقد كان لذلك وقعُ السحر: لقد بكيتَ كالطفل، وكنتَ تعيدُ على مسامعي وكأنكَ
تحدّث نفسكَ:

- "رباه، كم أنا تعيس! كم أنا شقي، تافهٌ عديمُ الحول .. ضائع! رباه كم أثقلتني حمولي!"

ولم أقل شيئاً؛ ليس لأني رجلٌ قاسٍ. كلا، ولا لصلابةٍ قد أدّعيها.. فأنا نفسي إنسانٌ شديدُ الهشاشةِ و سريعُ الكسرِ كالبسكويت. وليسَ لأنَّ المفاجأةَ عقدتْ لساني؛ فلقد بكى الجميعُ وهم جالسونَ في مقعدكَ هذا، ربما لأنني أعرفُ كيف أكتمُ أسرارَكم (…. قلبي المُعنّى الذي جعلوه مدفنا للأسرار) أو لأنني أجيدُ تقديمَ كأسٍ من الماءِ الباردِ وفنجانٍ من القهوةِ وبضع كلماتٍ خرقاءَ تُريحهم بعض الشيء وتُعفيهم من خجلٍ أو ندمٍ قد يعتري المرءَ في أعقابِ موجةٍ كهذه من الاعترافات.

ورفعتَ عينيكَ المحمرتينِ إلى عينيَّ فتحاشيتُهما ثم استزدتُكَ بهمهمةٍ متسائلةٍ فأجبتَني :

" لقد أتعبَني هذا العبءُ الذي يثقلُ كاهلي، أتعبني هذا الركضُ المجنونُ وراءَ لقمةِ الخبز. أتعبني تحملُ الإهاناتِ والمساوماتِ البليدةِ اليومية "

وطلبتَ مني سيجارة ففتحتُ درجَ المكتبِ وأخرجتُ العلبةَ والكبريتَ ووضعتُها فوق المكتبِ وقّربتُ منكَ منفضةَ الرماد (أنا لا أدخّن ولكني أحتفظُ دائما بهذه الأشياء تحسبا للظروف، ألم أقلْ بأني قسيسٌ ماهر!) وامتصصتَ نفساً سريعاً ثم قمتَ فجأة.

- " هاك !" قلتَ لي وأدخلتَ يدك الى جيبِ سروالكَ الخلفي وأخرجتَ منها بطاقتكَ النقابيةَ القديمةَ ووضعتَها أمام وجهي " أنظرْ كيف كان شكلي قبل خمس عشرة سنة !" لقد كان ذلك جزءً من المأساة سبقَ لي مشاهدتُهُ، لكني تظاهرتُ بالدهشةِ وقلت:

- - " يا الله ! لَكَمْ تغيرَ شكلُك !"

- "وقلبي تغير أكثر"
وطويتَ المحفظةَ باعتناء وأعدتَها الى جيبكَ وجلستَ
" لقد شختُ من داخلي عشرةَ قرون !"

ومرت لحظات صمت ثقال. ولقد سرَت العدوى الى
صدري، ها قد بدأتُ أحس بالضيق والكآبة، إن عينيَّ لَتكتظانِ بشيءٍ ساخنٍ يرفضُ النزول….آه! يا لَضغطِ الدمِ اللعين! وسمعتُ فمي يقول:

- " أنظرْ يا صديقي. ربما لو عدتَ الى ولعكَ القديمِ بالقراءة .."

قاطعتَني سريعاً (لماذا أسمحُ لكم بمقاطعتي كثيراً ؟):

_ "أية قراءةٍ هذي التي تتحدثُ عنها في زمنِ الجوعِ والتايفوئيد؟! يخيّل إليّ أحيانا أنني لن أُوفقَ حتى في كتابةِ اسمي!"

-"ربما قد ينفعُ شيءٌ من الحبِ في مثلِ حالتكَ، ألم ترَ الى صديقنا ... كيف تغيّرَ بعد أن وقع في شَرَكِ غزالٍ شريدْ! لقد صغرَ عشرينَ عاما!" قلتُ ممازحا رغم أني تذكرتُه وهو يجلسُ قبل أسبوعٍ فقط وفي الكرسي نفسه، يبكي ويلعنُ الحبَّ ومَنْ اخترعَه!

لم تُفلِح في الامساك بخيط الفكاهةِ الذي ألقيتُه في الفراغ فضججتَ متأوها:

- "لعنةُ الله على آبائهم! أيُّ بَطَرٍ هذا الذي يخوضونَ فيه؟ إني أفكرُّ ألفَ مرة، ثم مرتين، في حذاءِ ابنتي الممزقِ قبل أن أستسلمَ لأيةِ سخلةٍ حمقاءَ قد تحاولُ ولوجَ جنتي الآسنة!"

- "لم يبقَ إلا أن تصبرَ وتنتظر. فعسى أن يأتي الفرجُ عما قريب!"

- "عظَّمَ اللهُ أجركَ وأجزلَ لك! ألم تعرفْ أن فرجاً قد مات وأنْتَنَ؟" أجَبتَني مبتسماً، وقد عدتَ الى لعبتكَ المفضلة في حيازةِ الجُمَلِ ذات الاستخدام المزدوج، وكان هذا إيذاناً بانتهاء نوبةِ يأسِك.

وشربتَ قدحَ الماء وبللت يدك ووجهَكَ بما تبقى وأخرجتَ منديلكَ المتهرئَ ومسحتَ وجهكَ وأفرغْتَ ما بأنفِكَ، ونفثْتَ آهةً طويلةً ثم انتصبتَ واقفاً. إعتذرتَ عن إزعاجي ولمّحتَ على استحياءٍ الى رغبتِكَ في أن يبقى ما قلتَه طيَّ الكتمانِ فوعدتُك خيراً.

- "إسمعْ ! " قلتَ لي ضاحكاً "ربما لو قسّمتُ جسدي نصفينِ.. ربما سيعيشُ أحدهما وسيكونُ طفلاً سعيداً لا يعرفُ الشقاء !"

- "ربما !" أجبتُكَ وقد رسمتُ على وجهي تقطيبةَ تفكيرٍ ساخرةٍ "علينا أن نجربَ في أقربِ فرصةٍ"

وضحكنا معاً.

- " أراكَ في المساء " أومأتُ برأسي موافقاً. توجهتَ الى الباب لكنكَ استدرتَ عائداً الى السيجارة التي كانت قد انطفأت ووضعتَها خلف أذنك بحركةٍ هزليةٍ داعرة.

- - "خذ العلبةَ كلها" ناديتك.

- "لا يا عزيزي" جاء صوتُك وأنت تنزلُ السلالم " أنا ولدٌ مهذب !"

نهضتُ لأزيلَ الفوضى الصغيرةَ التي أحدثها وجودُكَ واستعداداً للمغادرة. رنَّ جرسُ الهاتف. كان صديقاً آخر:

- "ألم تغادرْ بعدُ؟…. حمداً لله! ….أريدُكَ في أمرٍ هام… نعم، نعم، متاعبُ جديدة…. سآتيكَ بعد ربع ساعة……. آه، كم أريد أن أتحدثَ اليك…… إني أشعر بالضيق….. إن رأسي ليكاد ينفجر… لن ينفعَ الحديثُ في الهاتف …… إنتظرني… سآتيك!


ماجد الحيدر:



قاص وشاعر ومترجم عراقي. ولد عام 1960 في بغداد. درس الطب وتخرج من كلية  طب الاسنان  في بغداد عام 1984 غير أن اتجاهاته الأدبية غلبت عليه فاتجه إلى كتابة الشعر والقصة القصيرة  والمقالة النقدية والأدب الساخر. كما عرف بترجماته لعدد من الأعمال الشعرية والقصصية العالمية نقلاً عن الانجليزية والكردية والفارسية. نال عضوية الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق وجمعية شعراء العالم وأسس مع عدد من الأدباء والمثقفين ما عرف بشهربان الثقافي  الذي عمل في ظروف بالغة القسوة في ظل تصاعد العنف والإرهاب.



البحث عن الزمن الضائع



وهي تقرأ احد كتب الكاتب الأمريكي المخضرم وليام فولكنر "حين احتضر" خطر ببالها كتاب كانت قد بدأت في قراءته ولم
تكمله لأنها أعارته لإحدى زميلاتها في الجامعة, وهو كتاب "البحث عن الزمن الضائع" للكاتب الفرنسي مرسيل بروست, فقررت أن تذهب لتشتريه وتكمله بمجرد ما تنتهي من رواية "حين احتضر".

في اليوم الموالي أثناء عودتها من العمل مرت على المكتبة فبدأت تتصفح آخر الكتب الصادرة, وهنا وجدت "البحث عن الزمن الضائع" قابع بين تلك الكتب, أخذته وبقيت تتصفح أوراقه, فعلاقتها مع الكتب ليست علاقة قراءة فحسب, بل هي علاقة حسية فهي تمسكه, تلمسه, تشم رائحة أوراقه وتسمع صوت تقليب صفحاته.
هنا سمعت صوت من ورائها يقول: "لكي نرجع الحقيقة أكثر
تقبلاً, نحن مجبرون على القيام ببعض الجنون " استدارت ورائها انه رجل في أواخر الثلاثينات, ابتسمت وردت عليه :"في قلب كل أسوأ رجل حصان بريء يخاف " كليتا المقولتين كانتا لبروست, استرسل بكلامه: من أروع الكتاب التي قرأت, وبدأ يتكلم ناقداً بطريقة راقية كتابه وهي تتأمله.
أعجبت بثقافته وبعد بضع دقائق استأذنته لتذهب وتدفع سعر الكتاب, رافقها ودفع بدلها رغم رفضها, بعد ذلك خرج وسألها عن وجهتها فأجابته أنها ذاهبة لتتمشى قليلاً فهي تحب كثيراً المشي واخذ فترات مع النفس لتكلمها تحاسبها وتقترح عليها, فاقترح أن يحل عليهما كضيف ثقيل نوع ما هي ونفسها في نزهتهما, ابتسمت ووافقت.


وفي النزهة تجاذبا أطراف الحديث عن مختلف الكتّاب عن تولستوي والأدب الروسي, هان سويين والأدب الصيني, كويلو والأدب اللاتيني, كاتب ياسين والأدب المغاربي. مر الوقت بسرعة ولم يحسا به وفي نهاية النزهة تذكرا أن يقدما بعضهما البعض:
هي سرين باحثة صحفية ولها عمود في مجلة ثقافية خاصة بالأدب الغربي وهو سامي طبيب أطفال, استغربت سرين فكيف لطبيب أن يجمع بين العلوم التجريبية المجردة والأدب الذي يعتمد على الحس بالدرجة الأولى, وقبل افتراقهما تبادلا أرقام الهاتف. رجعت للمنزل ساعدت أمها في تحضير العشاء ثم استحمت وذهب لنوم فتحت الحاسوب وهي في الفراش وبدأت تقرأ جرائد اليوم وإذا برسالة هاتفية: تصبحين بخير, فردت: وأنت من أهله, أحلام سعيدة.
وفي الصباح الموالي وهي في العمل فاذا بهاتفها يرن, انه هو اتصل ليقول لها صباح الخير, ابتسمت وبدأت مشاعر الحب تتسلل إلى قلبها مثلما تتسلل أشعة الشمس من بين شقوق النوافذ القديمة, سألها اذا كانت مشغولة في وقت الغذاء فأجابته بلا, فدعاها ولبت الدعوة وفي الغداء تبادلا أطراف الحديث عن السياسة وغيرها وتعددت اللقاءات بينهما في المطاعم, الحدائق العامة, المسرح, فكلاهما من عشاق موليير وراسين, والأوبرا, وهكذا ولد الحب بينهما أصبح لا يستطيع مفارقتها يتصل بها بين كل وصلة مريض وأخر ... ومرت سنة على حبهما وفي عيد حبهما أرسل لها رسالة نصية: يا من جعلتي روايتي هي "الوقت الموجود", نعم كانت إحدى روايات والجزء الأخير من كتاب "البحث عن الزمن الضائع".
طوال تلك السنة لم تلمّح له بالزواج فهي فتاة واعية وكرامتها لا تسمح لها بان تطلب ذلك, فحسب مفهموها يوم ما يقتنع ألف بالمئة من أنها هي شريكة حياته سيطلب يدها, هذا ما أفصحت عنه لصديقتها ليال في احد الجلسات, ولان حبه كبر لم يعد يتحمل ثقل
السر, اتصل بها كالعادة ودعاها لتمشي تحت المطر الهواية المفضلة للاثنين, ذهبت وكان طوال الوقت صامتاً, وفجاة توقف وقال لها: أتتزوجينني, اغرورقت عيناها بدموع الفرح وأجابت مباشرة: احبك, موافقة. نزع النظارات وقال لها ولكن يوجد شيء يجب أن تعلميه وهو: أني متزوج ومنذ اثنتي عشرة سنة, أرجوكي دعيني أكمل كل الكلام وبعد ذلك احكمي علي, متزوج من امرأة طيبة لا تنجب حاولنا من سنوات طويلة أما الآن فلا جدوى, فهي على مشارف سن اليأس ولكن ليس هنا الإشكال, المسكينة طلبت مني ومن سنوات أن أتزوج ولكن رفضت لان حالها يؤلمني, ولكن حين رأيتك أحببتك وأنت وحدك من جعلتني اتخذ هذه الخطوة, أنا وهي مختلفين تماماً, أنا أحب العيش في عالمي الخاص عالم الأدب, البحوث أحب كل شي متجدد ابحث عمن تجعلني طفلاً صغيراً وهي المسكينة لا تستطيع بحكم ثقافتها وبيئتها, فكري في الأمر.
رجعت للمنزلها مصدومة بكت طوال الليل على حظها, بقيا على اتصال والتقاء فهي لا تستطيع أن تتبعد عنه ولكن هناك شيء تغير فيها لم تبق تلك الفتاة النابضة بالحياة, ومع مرور الأيام صار
الصمت سيد لقائهما, وفي أحد الأيام أخبرته في لقائهما انه سيكون الأخير لأنها لا تستطيع أن تكمل في تلك العلاقة وهي ترى حبيبها ملك امرأة أخرى حتى وان لم يكن ملكها روحياً فهو ملكها جسديا واجتماعياً وهي مجرد عشيقة لرجل متزوج, إذا كان يحبها حقاً فعليه بالابتعاد عنها وختمت كلامها ب: فاذا كانت له "الوقت الموجود" في رواية بروست فهو لها "البحث عن الزمن الضائع"
وافترقا وكل منهما يمسح دموعه حزناً ..... بعد سنتين تمت خطبتها من شخص لايقل طيبة وثقافة عنها وهي في طريقها لصالون التجميل لتحضير نفسها للزواج فاذا بصوت يناديها "سرين كيف حالك, انه سامي ابتسمت وقالت: الحمد الله, وأنت كيف حالك؟ أجابها: نشكر الله سألته: كيف حالها المدام ؟ فاجابها الحمد الله بخير رزقنا بولد. استغربت سرين: صحيح؟ فاجاب نعم و من دون أي أدوية, والله معجزة طبية حتى الأطباء استغربوا, فرحت وتمنت له ان يكون فاتحة خير عليهم, سألها عن أخبارها فأجبته أن ذلك اليوم هو يوم زفافها, ابتسم وقال لها: الف مبروك تستحقين كل الخير الموجود في الدنيا, تمنى لها السعادة وأكمل سيره ودخلت هي صالون التجميل.

"لا يوجد نجاح سهل ولا يوجد فشل ابدي "
مرسيل بروست « Il n'y a pas de réussite facile ni d'échecs définitifs. »



راضية جراد:
كاتبة جزائرية متخصصة بالادب الفرنسي - نقد نصوص ادبية ومسرحية -  سبق وكتبت مقالات ونشرت ابحاث حول ازمة الهوية لدى المهاجرين في صحف محلية. عملت مدرسة لغة فرنسية في جامعة ميلة بالجزائر. معدة ومقدمة برنامج اذاعي حول الكتاب الغربيين, حالياً متفرغة للكتابة القصصية.




Twitter Bird Gadget