النظارة السحرية

لم تكن لي مشكلة قبل أن أصل سن الثلاثين.

كنت إنساناً عادياً، نلتُ دبلوم التجارة، وعينتُ في وظيفة حكومية، ووصلتُ إلى مرتب معقول... خمسة وعشرين جنيهاً في الشهر، وكنتُ أقيم وحدي في شقة صغيرة بالدور الأعلى من عمارة كبيرة بميدان المحطة، وليس لي أطماع، ولا أضايق أحداً ولا يضايقني أحد، أو على الأصح، لا أحس بأحد، ولا يحس بي أحد. وكنت أفكر في الزواج!


ثم حدث أن جاء زميلي في العمل، الأستاذ عبد العظيم عبد المقصود وهو يحمل في يده نظارة معظمة كبيرة... نظارة كبيرة جداً... ليست كالنظارة التي يحملها هواة سباق الخيل، ولكنها نظارة حربية مما يستعملها الضابط في الميدان... أنها أقرب إلى سلاح حربي منها إلى مجرد نظارة، وهى بعين واحدة، تطول وتقصر، ولها أرقام خاصة تضبط بها عدستها ولها حامل تثبتها عليه.
أبهرتني هذه النظارة... لا أدري ما حدث، ولكني أمسكت بها، وأحسست أني أستطيع أن أكون أسعد إنسان في العالم لو استطعت أن أملكها.
بدأ الأستاذ عبد العظيم عبد المقصود يشرح لي كيف تعمل هذه النظارة. ثم ثبتها أمام الشباك، وضبط عدستها، ونظر فيها ثم صاح: تعالى شوف الست اللي بتطبخ دي !.....
وضعت عيني على النظارة وقلت للأستاذ عبد المقصود: دي فين الست دي؟ أشار الأستاذ عبد المقصود إلى عمارة بعيدة في شارع الساحة وقال: في العمارة اللي هناك.
ازدادت دهشتي، إننا ننظر إليها من نافذة الوزارة في ميدان لاظوغلي...أي أن بيننا وبينها أكثر من أربع محطات ترام، ورغم ذلك فأنني أكاد ألمسها بيدي! 

عدت أضع عيني على النظارة... إني أرى المنديل الأخضر الذي تربط به رأسها، والجلباب الأصفر الملتصق بجسدها، وأرى الشبشب في قدمها... لونه أحمر... بل إني أستطيع أن أرى الطعام الذي تطبخه... إنها تطبخ بامية!... ياهوه ....
رفعت عيني عن النظارة وأنفاسي مبهورة، وقلت لعبد المقصود بصوت متهدج: أتبيعها؟
والأستاذ عبد المقصود رجل صعب، ظل يتدلل عليّ، وأنا أرجوه... بل أتوسل إليه، إلى أن قبل أن يبيعني النظارة بعشرة جنيهات، أدفعها له على قسطين، كل قسط خمسة جنيهات.


حملت النظارة كأني أحمل كل حياتي، وذهبتُ بها إلى غرفتي في أعلى العمارة الكبيرة بميدان محطة مصر. ثبتّها على سور الشرفة، وقضيت بقية اليوم وأنا أحاول أن أضبط عدستها. يااااه!... إني أستطيع أن أرى بها حتى شارع 26 يوليو وأنا أسكن محطة مصر! أستطيع أن أرى ما يدور داخل حجرات المحكمة العليا، وما يدور في ملهى سيروس الذي يقع فوق سينما ريفولي!
أخذت أوجه النظارة إلى داخل البيوت التي تحيط بي من خلال نوافذها!
إني أرى في النظارة سيدة شابة وبجانبها رجل يتناول العشاء في بيتها، لعل الرجل زوجها... فهي تميل عليه، وتضع له الطعام في فمه... ثم تقبله. وهو يستدير لها ثم يحتضنها بذراعيه ويبادلها القبل ثم يعود إلى تناول العشاء.

و... ما هذا!!! فتاة تخلع ثيابها! تتبعتها إلى أن اختفت من الغرفة، لعلها دخلت الحمام، ثم عادت وارتدت ثوب النوم واستلقت في فراشها، وأخذت تقرأ... عنوان الكتاب (حبي الوحيد)... ثم أطفأتْ النور!

و رجل عجوز... يبدو أنه يوناني، يتناول عشاء مكوناً من زيتون ومرتديلا، وبجانبه زوجته...عجوز مثله...هي لا تأكل، ولكنها تتكلم... تتكلم كثيراً هذه المرأة!

ظلت عيني فوق النظارة حتى الساعة الرابعة صباحاً، عندما أطفئت كل الأنوار ولم يعد هناك شيء أراه.

نمت... لعلني لم أنم...إنما أغمضت عيني لأستعيد مناظر الناس الذين رأيتهم، الناس في حياتهم الخاصة، في أدق تفاصيل حياتهم... إن الناس في حياتهم الخاصة... في أدق تفاصيل حياتهم، مخلوقات عجيبة... ومثيرة، غير الناس الذين تلتقي بهم في الشارع!

فتحت عيني في الساعة السابعة ملهوفاً وجريت إلى الشرفة إلى النظارة... وعدت أرى الناس، يتثاءبون... يغسلون وجوههم... بعضهم مكشر، وبعضهم مبتسم.

هل تعرف من بين مائة شخص لا تجد واحد ينزل من فراشه بنفس الطريقة التي ينزل بها الأخر.
وهل تعرف أن ليس هناك زوج يقبِّل زوجته عندما يفتح عينيه في الصباح، بل أول ما يفعله هو أن يدير وجهه عنها! إنها حياة عجيبة... مثيرة، حياة الناس الخاصة!
تنهدت إلى أن وصلت الساعة إلى الثامنة... لقد تأخرت عن موعد العمل، للمرة الأولى في حياتي أتأخر.

ارتديت ثيابي سريعاً، وذهبت للوزارة. لم أقبل على التحدث مع زملائي كعادتي، إنما بقيت سارحاً في الحياة التي رأيتها خلال النظارة، بل إني لم أستطع أن أحضر ذهني في دوسيه واحد من الدوسيهات المكومة أمامي، ولم أؤد عملاً!... بقيتُ أتعجل ساعة الانصراف... ثم انطلقتُ كالمجنون عائداً إلى النظارة!
ومرت الأيام... وحياتي كلها محصورة في هذه العدسة الضيقة التي أطل منها على حياة الناس الخاصة. وقد عرفت هؤلاء الناس كما لم يعرفهم أحد، وكما لا يتمنون أن يعرفهم أحد. عرفتهم، حتى كأني أصبحت أعيش معهم. أعرف موعد عودة كل منهم... وأعرف ماذا يأكل كل منهم... وكم بدلة أو كم فستان في دولابه أو دولابها... وأعرف مزاج كل منهم... وأعرف شذوذ كل منهم. أعرف... وأعرف... آه لو ذكرتُ كل ما أعرفه عن هؤلاء الناس. لو عرفوا كل ما أعرفه عنهم... لفضلوا أن يقتلوني!

كنت ألتقي بعضهم أحياناً في الطريق، فأهم أن أصافحه... أحس كأنه قطعة من حياتي. إني أراه كما لا يرى نفسه. كما لم تره أبداً امرأته... وأحياناً كنت أرى واحد منهم يسير محترماً مهاباً... فأضحك... لقد رأيته بالأمس تحت قدمي امرأة. وأرى فتاة تسير في دلال ورقة، فأضحك... لقد رأيتها بالأمس حيوانة شرسة مع أهلها!

مرت الأيام... ولم يعد لي سوى النظارة... لا أصدقاء، ولا أقارب، ولا إحساس، ولا مزاج...لا شيء...لا شيء. كل شيء في هذه النظارة.
ثم مرضت، ولم أستطع أن أقوم من فراشي لأطل من النظارة... تعذبت كثيراً. انتابتني نوبة هستيرية كالتي تنتاب مدمن المورفين عندما يعجز عن الوصول إلى المورفين. لكن النوبة خفت في اليوم التالي... وحلت محلها آلام المرض... أنا مريض جداااً...
وأنا وحيد في غرفتي، اكتشفتُ شيئاً كنت قد نسيته، اكتشفت إني لم أتزوج! واكتشفت شيئاً آخر، اكتشفتُ إني أصبحت من الموظفين المنسين، ولم أنل ترقية ولا علاوة منذ أكثر من عشرين سنة! نعم... لقد نسيت نفسي... نسيت حياتي الخاصة، وأنا ملهوف على تتبع حياة الناس... والسبب؟!... السبب هو هذه النظارة!

انتابتني ثورة على النظارة، يجب أن أتخلص منها... يجب أن أحطمها... يجب أن أعيش حياتي أنا، لا حياة الناس.
تحاملت على نفسي، وقمت من فراشي أحمل آلامي، اندفعت إلى الشرفة، وأمسكت بالنظارة بكلتا يديّ لألقى بها إلى الشارع... لأحطمها.

ولكني قبل أن أنزعها من مكانها وضعت عيني على العدسة الصغيرة ولم أرفعها.



إحسان عبد القدوس
1919-1990
كاتب وروائي مصري، تحولت أغلب قصصه إلى أفلام سينمائية. 

تُرجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة. والدته روز اليوسف مؤسِسة مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير. أما والده فهو محمد عبد القدوس فقد كان ممثلاً ومؤلفاً مصرياً.


أشهر أعماله التي تحولت إلى أفلام سينمائية:
الراقصة والسياسي
يا عزيزي كلنا لصوص
لا تسألني من أنا
أرجوك أعطني هذا الدواء
أين عقلي
بئر الحرمان
أبي فوق الشجرة
النظارة السوداء
البنات والصيف


أشهر أعماله التي تحولت إلى دراما تلفزيونية:
لن أعيش في جلباب أبي
لا تطفئ الشمس
دمي ودموعي وابتسامتي
شيء في صدري

  

من كتاب شيح بريح

الفاضي بيَعمَل قاضي وَقليل الخوَاص... قوّاص


لكل مثل قصة. على هذا الأساس بدأت أتعامل مع الأمثال الشعبيّة، فحظيت بتواريخ وحكايات أمثال متعددة، وما زالت في قائمتي عدة أمثال يتيمة، منها المثل الشعبي المشهور "عَدّى السبت في طرف اليهودي".

لذلك رحّبت ترحيباً حاراً بالأخ أبو داود، عندما جاءَني أمس، ومعه زوج شقيقته وثلاثة من رجال عائلته، قال:
جئت أروي لك حكاية "عَدّى السبت..." وهؤلاء هم شهود الحال.
واستوى أبو داود في مجلسه وأصلح وضع طربوشه رأسه وتنحنح قبل أن يبدأ حديثه، وإذا برجل ختيار من أفراد حاشيته، يقوطب عليه، ويفاجئني بسؤاله، قال:
هل تعلم يا أخ، لماذا خلق الله، البنادمين: ناس يسار وناس يمين؟
فقلت في نفسي، لا بأس، هذا فتح باب للحديث.
وبناءً على خبرتي الطويلة مع هؤلاء البنادمين، صرت أعرف أن السائل منهم لا يسأل السؤال، لكي يسمع الجواب، بل يفترض دائماً أنني لا أعرف، ويتبرّع لي بالجواب.
ثم فطنت إلى موضوع اليسار واليمين، وتذكّرت أنني حاولت في أيام شبابي أن أفهم أسرار هذا الموضوع، فأنفقت من عمري خمس عشرة سنة حتى عرفت الفرق بين "الكيف" و"الكَمّ"، وقلت، في ذلك الوقت، من يضمن لي أن أعيش ثلاثة قرون، حتى أستوعب سائر الحقائق، فانكفأتُ من أوّل الطريق، لأن خردق بارودتي لا يطال إلا الطرائد الجاثمة على الأرض، ولأني أربأ بذخيرتي من الضياع في محاولات اصطياد الأهداف البعيدة المدى، بلا طائل.
وعندما رجعت بأفكاري إلى مدار الحديث، وجدت أن رجلاً آخر من أفراد الحاشية، قد تصدّى للكلام، وبدأ يروي حكاية لا علاقة لها في سياق الحديث، قال:
عندما خلق الله المخلوقات، جعلها طائفتين: طائفة الطير وطائفة الحيوان، وجعل لكل طائفة لغة خاصة، فلا تفهم الطير لغة الحيوان، ولا الحيوان لغة الطير.
لكن الله عزّ وجلّ، لحكمة تجهلها خلق "الوطواط" وجعله طائراً وحيواناً في نفس الوقت.
وصار أخونا الوطواط، إذا جالس بعض جهابذة البواشق والعقبان، تكلّم معهم بلغتهم وانتحل هويّتهم وعرف مكنوناتهم. وإذا اجتمع بجماعة من فطاحل الفئران والجرذان طوى جانحيه وقرنب أذنيه وخاطبهم بلغتهم وعرف أخبارهم وأسرارهم".
وبينما كان أخونا هذا يشدّني، بالحديث، إلى جهابذة العقبان وفطاحل الفئران والجرذان، كان المتحدّث الأول ما زال طافشاً في حديثه عن اليمين واليسار.
وكان بودّي أن أوزع انتباهي على جبهتين، لكن الأخ أبو داود كان هو الآخر، قد أطلق لنفسه العنان ونزل إلى الميدان، وبدأ بالهجوم والطعان، قال:
إبن الستّين للسكّين و"شحَوك" إذا دعس الزلمي بالسبعين والثمانين، وقَلّ سمعه وشحّ قشعه، مثل ابن عمي ناصيف هذا... انه يبدأ ولا يعرف أين ينتهي، يحوم حول الموضوع، كما يدور الكلب حول ذيله، يركض وراءَه حتى يدوخ، فإذا قبض عليه، عضّه وعوص عوصتين، ورقد.
فقلت: هذا جميل جداً، ولكنني يا أخ أبو داود، قبل أن تتكرّم عليّ الآن بقصّة "السبت واليهودي" أريد أن أستفيد من خبرة الأخ ناصيف في اليسار واليمين.
قال: ناصيف... بياكل عسل وبيتبعّج بصل- كما يقول المثل- وهو لا يعرف يساره من يمينه ولا كوعه من بوعه، فإذا كنت تجهل، حقاً، ما هو اليسار وما هو اليمين، فعندي عنهما أخبار كثيرة.
فاليمين هو خالي عبّاس الذي كان بإمكانه، لكثرة أمواله، أن يشتري كل ما في أسواق بيروت من لحم وخبز وفاكهة، لكن معدته أبت هضم الطعام، فمات من الجوع.
أما اليسار، فهو ابن عمتي سلّوم الذي يأكل ولا يشبع، شارطناه يوماً على يأكل عشرة أرغفة، فطلب أن مهله ربع ساعة، خرج ورجع بعدها وقال: هاتوا لي خبزاً.
فأتيناه بعشرة أرغفة، فالتهمها بسرعة، فسألناه إلى أين ذهب ورجع منذ قليل.
قال: خفت أن لا يكون بإمكاني أكل عشرة أرغفة، فذهبت إلى أقرب فرن واشتريت عشرة أرغفة أكلتها بكل سهولة، فقويت ثقتي بنفسي على أكل أرغفتكم العشرة، ورجعت إليكم في الحال.
وبينما كان أبو داود يتبرّع لي بأمثلة حيّة عن اليمين واليسار كان رجل آخر من الحاضرين قد شق رجله بحكاية جديدة، عن امرأة عنيدة، وعندما انتبهت إليه كان قد دخل في مؤخرتها- أي مؤخرة الحكاية- وقال: ... وحملت المرأة نعارة "القاورما" وألقتها على الأرض، فراحت طراطيش، ورجعنا خائبين، وصار فينا مثل عزيمة الحمار على العرس: سخره وجوع وقلّة اعتبار.
فتناول رجل آخر حبل الحديث وقال:
على سيرة "القاورما" يُحكى أن جماعة من اختيارية إحدى القرى، جلسوا يتناقشون في أي ثمر هو أطيب من سائر الأثمار، فحسم الموضوع بالتالي، أحد أصحاب الرأي، قال:
عليم الله، أطيب ثمر على وجه الأرض هو القاورما.
فتوجّهت، مجدّداً، إلى الأخ أبو داود وطلبت منه أن يروي لي حكاية السبت واليهودي، وإذا بصاحب حكاية الوطوط يستوي في مجلسه ويقول:
بيرجع مرجوعنا للوطواط... صار الوطواط ياخذ حكي ويجيب حكي...
فقاطعه أبو داود قال:
متى شاخ الرجل صار يحكي حكاياته "بالتقسيط"... فالتدقير في الحديث هو أوّل علامات الختيرة.
ثم ضرب أبو داود لي مثلاً، قال:
يُحكى أن رجلاً متقدّماً في السن، كان مسافراً على ظهر حمار، من عاليه إلى دير القمر، وعندما وصل إلى "قبر شمول"، عثر الحمار به عثرة بسيطة، فصاح به: "نار..."
ثم هبط الحمار بصاحبه خمسين كوعاً حتى جسر القاضي، ثم صعد به ستين كوعاً حتى بلغ كفرحيم، فأضاف الرجل: وغضب الجبّار!

هكذا شتم الرجل الختيار حمارَه بالتقسيط، فلا بأس إذن، إذا جرى حديثنا اليوم، على أقساط، منها ما هو معجّل ومنها ما هو مؤجّل.
فخشيت، عندئذ، أن ينقضي نهاري: من هنا قصة بلا ذَنَب، ومن هناك ذَنَب بلا قصة، فلا أقبض بالتالي سوى بعض الفرافيط.
ولأني خبير في أطوار البطّالين المتلوطعين الذين ينتدبون أنفسهم قضاة وأصحاب نظريّات وفلاسفة وأرباب دواوين، والذين يصح فيهم قول المثل: "الفاضي بيعمل قاضي، وقليل لاخواص، قوّاس"، فإذا شطحوا في أحاديثهم، فإلى ما لا نهاية له.
لذلك قلت للأخ أبو داود: أرجو أن تشرفني بزيارة ثانية في أقرب وقت ممكن، ولكن بدون "شهود الحال".





*كتاب شيح بريح/سلام الراسي


سلام الراسي (1911 - نيسان 2003)

 هو أديب لبناني، ولد في قرية إبل السقي من قضاء مرجعيون في محافظة النبطية. ويلقبه أهل الجنوب ب..."أبي علي". والده القس الإنجيلي يواكيم الراسي، مؤسس مدرسة الفنون الأميركية في صيدا أواخر القرن التاسع عشر. سلام الراسي أحد من أعمدة التراث الحكائي وتراث الأمثال والفلكلور وكل ما يخص التجربة الشعبية اللبنانية وتجربة المنطقة اللبنانيّة الريفية الجنوبية بشكل عام. وقد عُرِف سلام الرّاسي بلقب "شيخ الأدب الشّعبي" وتمتاز كتاباته بسلاسة الأسلوب وقدرة المزج ما بين اللغة الفصحى والمحكيّة.
تاريخ الميلاد :1911
مكان الميلاد : إبل السقي - لبنان
تاريخ الوفاة 2003:
مكان الوفاة : بيروت
المهنة : أديب للفنون الشعبية
اللقب : أبو علي
الجنسية : لبناني

من أشهر مؤلفاته:
- في الزوايا خبايا (1974)
- حكي قرايا وحكي سرايا (1976)
- الناس بالناس (1980)
- حيص بيص (1983)
- لئيلا تضيع
- الجود من الموجود..من الأدب الشعبي
- شيح بريح
- الحبل عالجرّار



ولد 'أبو علي' سلام الراسي في 25 كانون الأول 1911، في بلدة إبل السقي، جنوب لبنان، أخاً لثلاثة عشر ولداً. وبكلماته هو "كانت الشمس تشرق في ذلك الزمان من وراء جبل حرمون وتغرب خلف مرجعيون، وقريتنا قائمة في وسط الدنيا...".

- نشأ في بيت مفتوح لأب هو رجل علم ودين، يواكيم الراسي، الذي تعلم في مدرسة المرسلين في عبيه، ثم أنشأ مدرسة الفنون في صيدا، وبقي مديراً لها منذ 1880 – 1896، وهي التي عرفت فيما بعد بالمدرسة الانجيلية أو شعبياً "بالأميركان" عاد بعدها إلى إبل السقي حيث توفي عام 1917، وكانت له مكتبة عامرة موصوفة وذلك نادر في ذلك الزمن.
- والدته راحيل حنوش التي كانت تسعى لتعليمه تعليماً دينياً، إلا أنها لم توفق.
- شقيقه سامي الراسي، هاجر إلى البرازيل حيث أسّس جريدة "الجالية" في ساوباولو.
- شقيقة الآخر منح الراسي كان مديراً لتحرير جريدة الايسترن تايمز في بيروت التي كانت تصدر بالانكليزية.
- زوجته الأديبة الهادئة إميلي الراسي، لها ثلاث كتب ولهما ثلاث أولاد.
  
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الضيعة، التي بقيت مرتبطة به وهو بها، ثم انتقل للدراسة الثانوية في مدرسة سليم قربان في مرجعيون التي عاد إليها معلماً لفترة وجيزة.
 انتقل إلى بيروت مع والدته سنة 1925 حين اندلعت الثورة السورية، حيث سكن إلى رأس بيروت كما سكنت إليه، والتحق بالجامعة الأميركية لفترة وجيزة عاد بعدها إلى ابل السقي.
 هذه النشأة والبيئة والظروف العامة التي أحاطت بالربع الأول من القرن العشرين كان لها أثر عميق في طبع سلام الراسي بطابعها، فهو ابن الضيعة والجنوب والمثقف ابن المدينة في حين واحد، ولد أيام العثمانيين وترعرع في ظل الاستعمارين الانكليزي و الفرنسي لفلسطين و لبنان و سوريا، ثم شب مع الرعيل الأول من الاستقلاليين والوطنيين المناهضين للاستعمار المنادين بالحرية والخبز والعدالة.

 


حصة الأسد


كان يا مكان، في قديم الزمان... الغربال في التبن، وكان أسد في غابه، قانونها سائد فيها، حيوانات الغابة كلها تحت سيطرة الأسد. فرض ضريبة على كل الحيوانات، من النملة إلى الفيل، والطير والذئاب، كلها تدفع الضريبة. اسم هذه الضريبة "حصة الأسد".


حيوانات الغابة جميعها تعمل، تكدح، تشقى، يتعرق ما تحت ذيولها، لتقتطع إلى سيدها أفضل قطعة، وتقدمها كضريبة "حصة الأسد"، أفضل الأجاص لا يأكله الدب، بل يعطيه للأسد، يقدم الذئب كبد الغزال الذي يصطاده للأسد، وإذا علق ديك بأنياب ثعلب، يصبح الثعلب مضطراً أن يعطي الذّ قطعة منه وهي الزّور للأسد.

يختال الأسد في القصر، يأكل ويشرب مرتاحاً مسروراً، وسط الراقصين والمنافقين من القرود، والحكماء والعلماء من الببغاوات، والمطربين من الغربان. يخرج أحياناً ليقوم بعمل من جهة، وليهيب رعيته من جهة أخرى، فيستعرض جسمه، يلوح بذيله، يلعق شاربيه، يزأر مرة أو مرتين، ثم يعود إلى القصر ليغوص في ملذاته .

وخوفاً من أن تضع الحيوانات عقولها في رؤوسها وتثور يوماً، ومن قبيل الحيطة، وضع الأسد في قصره كلاباً للحراسة، ولأن ما كان يأخذه من الحيوانات كضريبة "حصة الأسد" كان كثيراً جداً فقد كان يرمي فضلاته للكلاب الحارسة القصر.

راح يوم... جاء يوم... اندلعت في إحدى الغابات المجاورة ثورة. الحمامات جلبن الخبر بأجنحتهن. اذ ذاك أيقنت الحيوانات أن الأسد على باطل. رفعت البلابل أصواتها أولاً:
- لماذا نعطي حصة الأسد لأسد مسن هفتان؟
وراحت تزقزق وتتأوّه: - حق... عدالة... حرية... مساواة.
سمعت كلاب الأزقة نجوى البلابل فركضت لكونها مكلفة بهذا العمل، وأخبرت كلاب الفينو بالأمر. نبحت كلاب الفينو منادية الكلاب الذئبية الأضخم منها، الكلاب الذئبية نبحت لرؤسائها من كلاب الرعاة... وهكذا دواليك حتى وصل الخبر إلى الأسد حاكم الغابة.
تفكر الأسد بالأمر، ثم اهتدى إلى طريقة تساعده على فرط الموضوع بالحسنى أصدر أمره إلى كلب صيد من كلابه بأن ينقل للبلابل هذا البلاغ :
- إي يا رعاياي البلابل... تسربت – على ما سمعت – أخبار مفسدة من الغابات الأجنبية إلى غابتنا التي تعيش في هناء، هدفها أن تزعزع الوحدة والتلاحم السائدين في غابتنا، وها أنتم أولاً بدأتم تزقزقون (حرية ). يا رعاياي البلابل ذات الأصوات الجميلة، ضعوا عقولكم في رؤوسكم... لماذا تثرثرون وتحرضون حيوانات الغابة وتعملون على إثارة الفتنة بدلاً من أن تزقزقوا وتغردوا فوق شجيرات الورد؟ تعالوا جميعاً إلى القصر... سلّوني بأغانيكم العذبة، ذلكم هو الفن، وأنا أعطيكم من حصة الأسد ما يشبعكم… وإذا كان من بينكم محبون للحرية يفضلون عدم المجيء إلى القصر فليثرثروا بقدر ما يريدون للورود، وأنا أرضيهم من "النفقات المستورة"... أما إن كان منكم من يصر على ارتكاب خلاف هذا فإن العدالة ستأخذ مجراها... ومخلبي يطالكم جميعاً!!

فور سماع هذا الخبر طار معظم البلابل إلى القصر. وضعها الأسد في أقفاص ذهبية، وخصّص لها شيئاً من "حصة الأسد"، وبهدف تسلية سادتها وزرع الفرح في قلوبهم، بدأت تمتدحهم وتغرد لهم.
وانقطع النفس والصوت في الغابة.

لكن!... وبالرغم من كل ما كان يحصل، بقي بعض بلابل في الغابة عاندت وقالت " القفص قفص سواء كان ذهبياً أو حديدياً"... وترنمت:
- يا عذابك أيها البلبل… يا عذابك!
نقلت الكلاب النبأ إلى الأسد بهز ذيولها، فانتفض الأسد حانقاً.
- لم يبق أحد على حق... بلاء البلابل في ألسنتها. لتقطع السنة البلابل التي لم تسكت!
ولدى صدور قانون الغابة الجديد هذا صاروا كلما قبضوا على بلبل يتأوه قطعوا لسانه. صارت البلابل المقطوعة الألسن تشكو همومها وعذاباتها بإشارات من الأعين والحواجب. فمُنعت إشارات العيون والحواجب، ثم أصدر الأسد بعد أن أيقن أنه لا يمكن الوقوف في وجه البلابل المقصوصة الألسنة، قانون غابةٍ جديد يقضي بقطع رؤوس المتمردين.
أصبحت الغابة ساكنة... ساكنة...

لكن ماذا تعمل الكلاب؟ يجب أن تعمل حتى تأخذ من حصة الأسد على حسب العمل الذي تقدمه للملك، ولتترقى وتترفع.
بدأت تجول في الغابة… لا شيء، لا يمكن سماع همسة. لكن مع هذا يجب أن يعثروا على بعض الأشياء! ولكي تعرف ما إذا كان ما يزال ثمة بلابل مخربه هدامة، جالت الكلاب في أرجاء الغابة... وبعد بحث وتدقيق قام بهما كلب صيد وكلب فينو، وجدا بلبلاً واقفاً على غصن شجيرة ورد، كان البلبل المسكين لا يستطيع أن يغرد أو حتى يغمز. كان من كبر همه، يغرس الشوك في صدره فيقطر دمه على الوردة وتنبس من عينيه قطرات ناعمة من الدمع، فكرا بحيلة يغضبان بها البلبل ليجعلاه يتكلم حتى يخبرا الأسد بذلك ويستفيدا.
قال الفينو:
- نعم يا أخي البلبل نعمل ونشقى ثم نطعم الأسد؟ ما هذا الإجحاف ؟ ما هذا التفريق؟
لم تنطلي حيلة الكلبين على البلبل، لكن كلب الصيد وكلب الفينو نبحا وبكيا، فلم يعد البلبل يطيق صبراً فخرجت من فمه كلمه واحدة:
- صحيح .
- ماذا؟ صحيح؟
وركض الكلبان بأقصى ما يستطيعان وأخبرا الملك بذلك، فقال الأسد:
- امسكوه... من يمسكه أجعله رئيس حرس القصر.
ركض الكلبان إلى البلبل، نبح كلب الصيد قائلاً:
- يا أخي البلبل! انك تتعب نفسك ولسانك ليلاً ونهاراً من أجل توعية إخوتنا الحيوانات في الغابة... واضح أنك مرهق للغاية، نم هنا وارتح، نحن نحرسك فلا يستطيع أحد أن يلمس منك ريشة.
صدق البلبل المسكين هذا الكلام، إذ استطاع كلب الصيد إقناعه لما لاحظه عليه من تأثر، وكان البلبل قد امضي أياماً دون نوم... فصدق. أغمض عينيه... وسرعان ما غط في نوم عميق.

فهل يقف كلب الفينو؟ هرررررت!.. أمسك بالبلبل من جناحيه، فعرف البلبل أنه وقع في الفخ، لكن ماذا تجديه هذه المعرفة الآن وقد أمسكه الكلب من جناحيه؟!
أخذ كلب الفينو البلبل في فمه وركض... ركض حتى يصل إلى القصر قبل كلب الصيد وينال المكافأة من الأسد، لكن هل يقف كلب الصيد متفرجاً؟ لحق بالفينو ونصب له شركاً كي يأخذ البلبل من فمه. فقال له:
- يا أخي الفينو! تمهل قليلاً حتى نصل كلانا إلى حضرة سيدنا الأسد وننبح معاً لنأخذ البشارة.
ولما تمهل الفينو انقض كلب الصيد على ذيله، صار جناحا البلبل في فم الفينو وذيل الفينو بين أنياب كلب الصيد. فكر البلبل بخدعة ينقذ بها نفسه من الكلبين فقال:
- يا أخوي الكلبين لقد قبضتما عليّ... ومن ذا الذي يعرف ماذا سيقدم لكما سيدنا لقاء هذه الخدمة؟ تعالا ندع لسيدنا الأسد بطول العمر ونصفق له!... بدلاً من الهدية التي سيعطيكما إياها.
شك الكلبان في الأمر، لكنهما خافا أن يقال إنهما لم يدعوا لسعادة سيدهما،ولم يصفقا له، وفي مثل هذه الحالة قد يشي أحدهما بالآخر… كانا مضطرين أن ينفذا ما اقترحه البلبل.
لكي يصفق كلب الصيد افلت ذيل الفينو من بين أنيابه... ولكي يدعو الفينو للملك فتح فمه و… فررررررر... طار البلبل وحط على غصن وردة.
وهنا أطلق البلبل لأول مرة في حياته شتيمة كبيرة، وقال:

- الذي يصدق كلام الكلب بعد اليوم فهو…
ونبح كلب الفينو الذي خسر صيده قائلاً:
- الذي يصدق كلام البلابل هو... والذي يدعو فهو….
شكك كلب الصيد بتعقل قائلاً:
والذي يصفق لسيده قبل أن يقبض المكافأة فهو... 

 

 

نقلاً عن موقع عزيز نيسين/بتصرف


عزيز نيسين

اسمه الحقيقي محمد نصرت نيسين من مواليد  تركيا عام 

1915.


عرف به فيما بعد كاسم مستعار للحماية ضد

 مطاردات الأمن السياسي في تركيا، ورغم

 ذلك فقد دخل السجون مرات عديدة.

يعتبر عزيز نيسين واحداً من أفضل كتاب

 الكوميديا السوداء في العالم أو ما تسمى

 بالقصص المضحكة المبكية، والمضحك المبكي في حياته أنه

 وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم كمبدع فذ إلا أن

 بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل.

توفي عزيز نيسن في تموز عام 1995.



· كتب في العديد من الصحف التركية ومنها (الأراجوز والفج)

 كما عمد إلى إصدار مجلة أسبوعية خاصة به باسم (السبت) لم

 تستمر أكثر من ثمانية أسابيع.

· كانون الثاني/ 1946: تمكن بالتعاون مع الأديب التركي

 صباح الدين علي من إصدار جريدته الشهيرة (ماركو باشا)

 التي وصلت مبيعاتها إلى (60000) نسخة يومياً.

· 1946 اعتقل بسبب مقالاته في الجريدة التي سبق ذكرها.

· 1947 حوكم أمام محكمة عسكرية عرفية وحكم عليه بالسجن

 عشرة أشهر وبالنفي إلى (بورصة) ثلاثة أشهر ونصف بعد

 انقضاء المدة، وذلك بسبب انتقاده في أحد مقالاته للرئيس

 الأمريكي هنري ترومان.

وأغلقت على إثر مواقفه هذه جريدة (ماركو باشا) مع اعتقال

 صاحبها عزيز نسين، فعاود إصدارها باسم (معلوم باشا) وهكذا

 راح عزيز نسين يعيد إصدار المجلة مع تغيير اسمها في كل

 مرة يتم فيها اعتقاله وإيقاف الجريدة عن الصدور، فمن معلوم

 باشا إلى مرحوم باشا، ثم علي بابا، ثم باشاتنا، ثم ماركو باشا

 الحر، وأخيراً جريدة مَدَدْ.

· 1950 حكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً بسبب ترجمته

 لأجزاء من كتاب ماركس.

· 1951 خرج من السجن لكنه لم يجد عملاً في الصحافة،

 فعمد لفتح دكان لبيع الكتب لكنه لم ينجح

· 1952 -1954 عمل مصوراً.

· 1955 اعتقل من دون يعرف سبب اعتقاله وأمضى بضعة

 أشهر في السجن.

· 1956 نال جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا.

· 1956 أسس بالاشتراك مع الأديب التركي كمال طاهر داراً

 للنشر باسم (دار الفكر) لكنها احترقت في العام 1963 مع

 آلاف الكتب التي كانت بداخلها.

· 1957 نال جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا للمرة الثانية على

 التوالي.

· تشرين الثاني / 1966: شارك في مؤتمر اتحاد كتاب آسيا

 وأفريقيا في القاهرة.

· 1966 نال جائزة القنفذ الذهبي من بلغاريا.

· 16 نيسان / 1967: انتخب نائباً لرئيس اتحاد الأدباء

 الأتراك، ثم انتخب رئيساً لنقابة الكتاب الأتراك بعد تأسيسها.

· أيار / 1967: شارك في مؤتمر اتحاد الكتاب السوفييت في

 موسكو.

· 1968 نال الجائزة الأولى في المسابقة التي أجريت في تركيا

 تخليداً لذكرى الشاعر الشعبي قراجه أوغلان عن مسرحياته

 "ثلاث مسرحيات أراجوزية".

· 1969 نال جائزة التمساح الأولى من الاتحاد السوفيتي.

· 1969 نال جائزة المجمع اللغوي التركي عن مسرحيته "جيجو".

· 1975 نال جائزة اللوتس الأولى من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.

· أنشأ عزيز نيسين وقفاً نذر له ريع كل أعماله الأدبية، وكانت

 مهمة هذا الوقف رعاية الأطفال الأيتام حتى آخر مراحل

 الدراسة الجامعية، وتأمين عمل أو مهنة لمن تعثر منهم ف

 دراسته، وقد استقبل هذا الوقف أول فوج من الأطفال الأيتام في

 أواخر العام 1977.

· 1979 شارك في مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا في لواندا.

· 1982 شارك في مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا في

 هانوي.

· 6 تموز 1995: توفي عزيز نيسين إثر إصابته بالسكتة

 القلبية.



 

حاسة كلب

سُرق معطف من الفراء من التاجر بابكين. فولول متحسراً على الفراء قائلاً: إن المعطف جيد جداً، أيها المواطنون، ولن أبخل بالمال، وسأعثر على السارق وأبصق في وجهه.


استدعى بابكين الكلب البوليسي الجنائي الكشاف. فجاء رجل بثياب رثة، وقد غطى رأسه بقبعة، وإلى جانبه الكلب البوليسي. كان الكلب بني اللون، حاد التقاسيم، بشع الوجه.
دفع العميل الجنائي كلبه نحو الأثر بالقرب من الباب، وقال له "بس!" وابتعد.
شم الكلب الأثر، ومر بعينيه على الحشد المجتمع من حوله. وفجأة اقترب من العجوز فاكلا القاطنة في الشقة الخامسة، وأخذ يشم طرف ثوبها. ابتعدت العجوز عنه باتجاه الحشد، والكلب يشدها من ثوبها، وتنحت جانباً والكلب في إثرها. انهارت العجوز، وجلست على ركبتيها أمام الكلب البوليسي، وهي تقول معترفة: نعم، لقد وقعت... لن أنكر. سرقت خمسة أسطل من الخميرة، كما سرقت الجهاز أيضاً. كل شيء سرقته موجود عندي في الحمام. خذوني إلى الشرطة.

أخذ العجب من الجمهور كل مأخذ. ثم سُئلت العجوز: وماذا عن المعطف؟
- لا أعرف شيئاً عن المعطف، و لم أره. أما الباقي فقد اعترفت به. خذوني، اعتقلوني، أعدموني.
واقتيدت العجوز...

أخذ العميل كلبه من جديد، ودفعه من أنفه نحو الأثر ثانية، وقال "بس!" ثم ابتعد.
حرك الكلب عينيه، واستنشق الأثر، وأخذ يقترب نحو المواطن مدير البناء. صرخ المدير قائلا: قيدوني، أيها الناس الطيبون، أيها المواطنون الواعون. لقد جمعت منكم الأموال لقاء تزويدكم بالماء، لكنني صرفتها على هواي ومزاجي.
وبالطبع، هجم السكان على مدير البناء وأخذوا يقيدونه. وفي أثناء ذلك، اقترب الكلب من المواطن المقيم في الشقة السابعة، وشده من بنطاله.
شحب المواطن، واصفر وجهه، وانهار أمام الجمهور المحتشد، وهو يقول: مذنب... مذنب، لقد زورت تاريخ ميلادي في بطاقة العمل. كان يجب عليَّ وأنا الشاب، أن أخدم في الجيش وأدافع عن الوطن، بينما أنا أقيم في الشقة السابعة، وأستفيد من الطاقة الكهربائية، والخدمات البلدية الأخرى. خذوني.

ذهل الجمهور المحتشد وارتبك، وكان كل واحد يقول في نفسه "يا له من كلب ذكي فطن".

وهنا، حرك التاجر بابكين عينيه، ونظر من حوله، ثم أخرج نقوداً من جيبه، وقال لعميل الشرطة الجنائية: خذ كلبك إلى الشيطان، وليذهب معطف الفراء إلى الجحيم، والكلب معه...

وهنا، وقف الكلب أمام التاجر، وأخذ يلوح بذيله.
شعر التاجر بابكين بالخوف، وابتعد جانباً، والكلب يجري في إثره، ثم اقترب منه، وأخذ يشم "كالوشه". امتقع وجه التاجر واصفر، ثم اعترف قائلاً: إن الله يرى كل شيء، ويعرف الحقيقة. أنا سارق، وحرامي، وابن كــلبـــة. فالمعطف ليس لي، وقد سرقته من أخي... وأنا أنوح وأبكي.

تفرق الناس وهربوا كل واحد في اتجاه. وأما الكلب، ودون أن يستنشق أي أثر، لحق باثنين أو ثلاثة، وأمسك بهم. واعترفوا، وندموا على ما فعلوه. أحدهم سرق أموال الدولة، والثاني ضرب زوجته بالمكواة، أما الثالث فقال ما لا يمكن قوله أو التعبير عنه.
تفرق الحشد وهرب، وأصبح الفناء خالياً من الناس. و لم يبق سوى الكلب وصاحبه.
وهنا، اقترب الكلب من صاحبه، عميل الشرطة الجنائية، وهو يهز بذيله. شحب العميل وسقط على ركبتيه أمام الكلب وهو يقول: مزقني بأسنانك، أيها الكلب. فأنا أقبض، لقاء إطعامك، ثلاث قطع من فئة العشر روبلات وأحتفظ باثنتين منهما لنفسي...

لم أعرف ماذا حصل بعد ذلك، فقد اختفيت بأسرع ما يمكن، خوفاً من الخطيئة!




ترجمة: د. نزار العيون السود

ميخائيل زوشينكو 1894- 1958
كاتب روسي. بدأ العمل بالأدب عام 1921.

خلال العشرينيات والثلاثينيات كان من ألمع أسماء أدباء القصة القصيرة.

انتخب زوشينكو في المؤتمر الأول للكتاب السوفييت، الذي عقد عام 1934 عضواً في إدارة اتحاد الكتاب السوفييت. في عام 1935 نشر زوشينكو مجموعة قصص هجائية بعنوان "الكتاب السماوى". واعتبر النقد الأدبي السوفييتي الرسمي أن زوشينكو قد خرج في هذا الكتاب من أطر الهزل والهجاء الإيجابي، الأمر الذي جعل السلطات تفرض الحظر على نشر كتبه في الاتحاد السوفييتي.
كتب زوشينكو إبان الحرب الوطنية العظمى (1941 – 1945) عدداً من المقالات الهجائية الموجهة ضد النازية وزعمائها، بالإضافة إلى بعض السيناريوهات للأفلام الروائية. ولكن أهم ما كتبه في تلك الفترة هو كتابه العظيم "قبل شروق الشمس" وقد حاول في هذا الكتاب أن يبحث عن سبب كآبته واسترجاع حوادث من الطفولة والشباب، بالإضافة إلى الأحلام للتوصل إلى سبب مرض الاكتئاب الذي أصابه، دون جدوى. ويعتقد الخبراء في علم النفس أن زوشينكو استبق في هذا الكتاب بعض الاكتشافات في مجال علم اللاوعى.

بعد موت ستالين استعاد زوشينكو عضوية اتحاد الكتاب. ولكنه حُرِم من تقاضى المعاش التقاعدي بعد بلوغه سن التقاعد. وتمكن زوشينكو عام 1957 من إصدار مختارات من قصصه، لكن صحته تدهورت سريعًا، وقضى آخر سنوات حياته في منزله الصيفى بمدينة سيستروريتسك حيث كان يواجه أزمة نفسية صعبة. توفى زوشينكو في 22 يوليو عام 1958 نتيجة إصابته بالسكتة القلبية. ودفن في مقبرة بلدة سيستروريتسك بضواحى مدينة ليننجراد (بطرسبورج حالياً).
 

ويا ليتها كانت القاضية

 
جاء أعرابي إلى أحد الولاة يشكو إليه سوء حاله وكثرة عياله وإلى جنب هذا زوجته ولدت، وليس لديه ما يطعمها ولا ما يطعم أولاده.


فقال له الوالي: لقد قتلك الفقر فاذهب إلى قاضي قضاة البلدة وارفع لديه تهمة ضد الفقر، فإنه سينظر في حالك.

فاحتار الأعرابي أيذهب إلى القاضي كما قال له الوالي أم يرجع ويعود خالي اليدين.

فعزم على الذهاب إلى القاضي، فلما دخل مجلس القضاء وجده مكتظاً بالحاضرين، فتردد في رفع شكواه ولكن القاضي كان قد لمحه فقال له: ما شأنك أيها الرجل.
فتلعثم الأعرابي ثم شكا إليه حاله وحال زوجته وعياله، وذكر له ما كان من قول الوالي له، فضحك الحاضرون وقالوا له إنما أراد الوالي أن يتخلص منك.
ولكن كاتب القاضي نظر إليه ولم يضحك مع من ضحك، ففهم الأعرابي أنه يريد أن يقول له شيئاً ما، فخرج من مجلس القضاء وانتظره حتى أتم عمله في ذلك اليوم واقترب منه فقال له الكاتب اعترض للقاضي غداً في الصباح وهو في طريقه إلى مجلس القضاء فلعل قلبه يرق لك فيرحم حالك.
ففعل الأعرابي مثلما أوصاه الكاتب، فنهره القاضي وزجره وقال له: أنعبث في القضاء، إننا هنا نقضي بين المتخاصمين فأين هو خصمك، فإما أن تذهب وتمضي وإلا سجناك حتى ترجع إلى رشدك.
فانكسر الأعرابي وهو يسمع تهديد القاضي له، فلما رآه الكاتب عرف ذلك من وجهه وقال له: ما قال لك القاضي؟
فأخبره بأن القاضي هدده بالسجن إذا لم يمض.
فعندئذٍ قال له الكاتب: إن القاضي لم يعرف الفقر والعوز ولم يعش الفاقة ولكن زوجة القاضي من أسرة فقيرة، فهي تعرف ما يكون عليه حال من اشتدت علته وقلت حيلته، وهي أعلم بما يكون عليه حال المرأة عند الولادة من الألم والمرض والفقر، فإذا ما دخل القاضي مجلس القضاء وحضر الناس مجلسه فاختلس أنت إلى زوجته واشكُ إليها لعلها أدرى به.
فقال الأعرابي: وهل تراه يسمع منها؟
قال الكاتب: توكل على الله واسأله أن يلين لك قلبها فتلين هي لك قلبه.

فعندما أتاها الأعرابي وأخذ يشكو لها كثرة عياله وقلة ماله وسوء حاله وهي تنظر إليه ولا ترد، فلما ذكر لها أن زوجته نفساء وليس لديه شيء يقيمها به، قامت إليه وقالت له ائتِ إليه في الصباح بجملك هذا وأعقله عند باب مجلس القضاء، ولا تتعرض له حتى يدعوك.

وفي الصباح أتى الأعرابي وعقل جمله عند باب مجلس القضاء قبل أن يدخل القاضي وتوارى حتى لا يراه القاضي.

وحين أتى القاضي رأى الجمل وكانت زوجته في الليل قد كلمته في أمر هذا الأعرابي صاحب الجمل، فدخل مجلس القضاء ولما انتصف النهار وازدحم الناس حول القاضي إذا بالقاضي ينادي: أين صاحب الجمل فقام الأعرابي إليه.
فقال القاضي إنما تجاهلناك لنبلوك فمن اشتد به الحال يلح في السؤال، وقد حكمنا لك بما يحمله جملك هذا أرباعاً من الشعير والزيت والتمر والزبيب، وبما تحمله أنت من الكساء، ففرح الأعرابي وشكر له وخرج من مجلسه، وعلق عند الباب رقاً من الجلد كتب عليه أبياتاً من الشعر جاء فيها:

أقــاضٍ ولا تـمـضي أحـكامه

وأحــكــام زوجــتـه مـاضـيـة

ولا يـقـضِ حـكماً إلـى مـدّعٍ

إذا لــم تــكُ زوجـتـهُ راضـيـة

فحازت هي العدل في قولها

وألـقت بـظلمه فـي الـهاوية

فـمـن عـدلـها أنـهـا أنـصفت

فـقيراً مـن الفقر في البادية

فـيـا لـيـته لــم يـكـن قـاضياً

ويــا لـيـتها كـانـت الـقـاضية.



من نوادر العرب

أهل الكَرامات فيهُم عَلامات*



 
كان الشّيخ "أبو علي سياغه" من أفاضل الرجال. ولكنّه بالإضافة إلى ذلك كان "صاحب شوفة"، أي أنّه كان صاحب خبرة بمعرفة الناس، فإذا رأى رجلًا عرف حالًا ما إذا كان صادقًا أم كاذباً، ذكياً أم غبياً، كريماً أم بخيلاً، وهذا ما عُرف بعِلم الفراسة عند الأقدمين.
وحدث يوماً أن كان الشيخ أبو علي متوجِّهاً على قدميه من حاصبيّا إلى مرجعيون، وكان ذلك قبل عهد السيّارات.
وعند وصوله إلى مفرق سوق الخان، التقى رجلًا يركب حماراً قادماً من المفرق الآخر وفي نفس الاتجاه، فحدَّق في وجهه وقال: شوفتي أنّه ابن حرام.
إلّا أنّ الرجل، ما إن اقترب من الشيخ حتّى ترجّل عن حماره و"صابح" الشيخ آخذًا يمناه بكلتا يديه. وبعد أن قبّلها، سأل الشيخ أين يقصد، فقال: جديدة مرجعيون.
فهتف الرجل: ومن حسن حظّي أن أكون أنا كذلك ذاهباً إليها.
ودعا الشيخ إلى الركوب على الحمار.
قال الشيخ بنفسه: كيف يمكن أن تصدر هذه البادرة النبيلة من ابن حرام؟

وأعاد النظر في وجه الرجل فبدت له إمارات قلّة الشرف واضحة جليّة، فاعتذر عن عدم ركوب الحمار، وقال إنّه يفضّل المشي على مهله.
فصاح الرجل: ولكن هذا مستحيل لأنّه لا يليق أن أركب أنا وتمشي أنت، فقد يمرّ من يعرفنا وينسب إليّ قلّة الحَياء.
فركب الشيخ أخيراً على الحمار مكرهاً، بعد أن تضايق من إلحاح الرجل.
وكان كلّما أراد أن يهمّ بالنزول عن ظهر الحمار، اعترضه الرجل وقال: وحقّ جميع الأنبياء، إذا نزلت عن الحمار، مزّقت بطنه بخنجري هذا، لأنّ ذلك أهون عليّ من أن أراك ماشياً في هذا الحرّ الشديد.
فيلبث الشيخ راكباً.

وفيما انصرف الرجل إلى التكلّم عن تقواه، وعن إكرامه واحترامه لرجال الدين، كان الشيخ قلقاً مشغول الخاطر: شوفتي بالرجل إنّه ابن حرام، إلّا أنّ سلوكه معي يدلّ على أنّه رجل فاضل، فما العمل إذن بهذه المشكلة؟ فإذا ثبتت فضيلة الرجل، توجّب عليَّ أن أعيد النّظر بالمقاييس الّتي اعتدت أن أقيس الناس بها، لأنّي أكون إذنْ قد أخطأت في حكمي على هذا الرجل، وربّما على كثيرين سواه. وهذه مصيبة كبرى بالنسبة إليَّ، أخشى معها أن أخسر ثقتي بنفسي.
وبلغا أخيراً جديدة مرجعيون، حيث ترجّل الشيخ وودّع الرجل بحرارة شاكراً له صنيعه، ومشى في سبيله. إلّا أنّه لم يبتعد قليلًا حتّى ناداه الرجل قائلًا: يا حضرة الشيخ لم تدفع لي أجرة الحمار. فرجع الشيخ وقال له: عفواً كم تريد؟
قال: نص مجيدي.
فقال الشيخ: ما بيصحّ إلّا الصحيح، هذا مجيدي كامل، ولّا خابت شوفتي فيك.



سلام الراسي 1911- 2003
ولد في قرية إبل السقي قضاء مرجعيون.
يلقبه أهل الجنوب بـ "أبو علي". هو أحد من أعمدة التراث الحكائي. وتراث الأمثال والفلكلور وكل ما يخص التجربة الشعبية اللبنانية وتجربة المنطقة اللبنانيّة الريفية الجنوبية بشكل عام.
وقد عُرِف سلام الرّاسي بلقب "شيخ الأدب الشّعبي" وتمتاز كتاباته بسلاسة الأسلوب وقدرة المزج ما بين اللغة الفصحى والمحكيّة.


* كتاب لئلا تضيع...
 
مؤلفاته: · لئلا تضيع 1971
· في الزوايا خبايا 1974
· حكي قرايا وحكي سرايا 1976
· شيح بريح 1978
· الناس بالناس 1980
· حيص بيص 1983
· الحبل على الجرار 1988
· جود من الموجود 1991

· ثمانون 1993
· القيل والقال 1994
· قال المثل 1995
· الناس أجناس 1995
· أقعد أعوج وإحكي جالس 1996
· من كل وادي عصا 1998
· السيرة والمسيرة 1998
· ياجبل ما يهزك ريح 2000
· أحسن أيامك، سماع كلامك 2001
· حكايات أدبية من الذاكرة الشعبية 2002


Twitter Bird Gadget