هدية عيد الميلاد

قصة: أو هنري
ترجمة: عمار الحامد


بعد جدال طويل وزعت فيه الكثير من ماء وجهها بين بائع الخضار تارةً وبائع اللحم تارةً أخرى، جدال تحملت جراءه أن ينظر لها كل من في السوق نظرة شفقة صامتة كونها سيدة فقيرة،
استطاعت ديلا أن توفر دولار وسبع وثمانين سنت منها ستون سنتاً على شكل بنسات. 
أعادت ديلا عد المبلغ ثلاث مرات، فلم يزدد شيئاً، إنه دولار وسبع وثمانين سنت لا غير، فما العمل وغداً عيد الميلاد؟
جلست وأخذت تبكي بكاء الواثقة أن حياتها ليست سوى قليل من السعادة وكثير من الأحزان، بعد قليل، مسحت دموعها ووقفت حزينةً تنظر من النافذةِ إلى قطتها الرمادية وهي تمشي قرب سياج الفناء الخلفي الذي لونته الثلوج هو الآخر باللون الرمادي.
لقد دأبت طوال الشهور الماضية على توفير المال لهذه المناسبة، ولكن جميع جهودها باءت بالفشل، فغداً هو عيد الميلاد وليس لديها ما يكفي لشراء هدية لزوجها جيم، هدية لطيفة، لا بل رائعة واستثنائية تليق به.

لم يكن غلاء المعيشة ليحرم عائلة ديلنكهام الصغيرة من قضاء أوقات سعيدة، فقد إعتاد الزوجان على الإنفاق ضمن حدود العشرين دولاراً التي يحصل عليها الزوج أسبوعياً، لا بل ويدخران ما يزيد منها. 

استدارت ديلا فجأةً صوب المرآة الطويلة الموضوعة بين نافذتي
الغرفة ونظرت إلى نفسها، فبرق في عينيها وميض سرعان ما إنطفأ وهي تنظر إلى وجهها الشاحب. 
لم تفكر طويلاً قبل أن تطلق سراح شعرها الجميل وتتركه ينساب ما شاء أن ينساب متمنيةً لو أن بلقيس حيةً ترزق وأنها تسكن معهم في ذات العمارة، ساعة إذ ستتعمد ديلا تجفيف شعرها عبر النافذة، لا لشيء، فقط لكي تبرهن للدنيا بأسرها أن صاحبة هذا الشعر تمتلك ما تفوق قيمته قيمة جميع جواهر الملكة.
تعانق شعر ديلا البني المتدفق كالشلال والذي نزل دون مستوى ركبتيها مع ثوبها الأبيض ليرسما سوياً لوحةً لم تخطر على بال بشر، ولكن سرعان ما قطعت ديلا على نفسها ذلك المشهد الجميل، فلقد قدحت في رأسها فكرةٌ ذرفت من أجل تنفيذها حرى الدموع.

شدت شعرها وارتدت معطفها وقبعتها البنية القديمة، وبحركةٍ رشيقة، وجدت نفسها تسير في الشارع، حتى إذا وصلت إلى لافتة مكتوب عليها: محلات مدام سفروني لجميع أنواع الشعر، تسابقت قدماها، فاندفعت داخل المحل مقطوعةَ الأنفاس. 
سألت ديلا: هل تشترين شعري؟
أجابت صاحبة المحل: نعم أشتري، ارفعي قبعتكي ولنرى.
رفعت ديلا قبعتها، فتدفق شلال الشعر البني الجميل. قالت صاحبة المحل وهي ترفع خصلاً من شعر زبونتها بيدٍ متمرسة: عشرون دولاراً.
ردت ديلا: حسناً، أعطني المبلغ بسرعة.

لم تدخر ديلا جهداً خلال الساعتين التاليتين اللتان مرتا بسرعة البرق وهي تبحث في المتاجر عن هدية لزوجها، وأخيراً وجدت ضالتها، فهذه السلسلة الفضية الجميلة ذات القيمة العالية كما لو أنها صنعت من أجل جيم، ثم أنها تناسب ساعته الذهبية. 
سارعت إلى دفع الواحد والعشرون دولاراً ثمن السلسلة إلى صاحب المتجر، ثم عادت إلى شقتها برفقة الهدية والسبع وثمانين سنتاً المتبقية.

بدأت حال وصولها بتصفيف ما تبقى من شعرها الذي أفلست منه بدافع حبها لزوجها، وإن كانت مهمة لملمة الحطام شبه مستحيلة، لكن استطاعت ديلا في أقل من ساعة أن تتوج رأسها بما تبقى لها
من خصل شعرها. 
أمعنت النظر إلى وجهها الذي بدا كأنه وجه تلميذ وهي تحدث نفسها قائلةً: إذا لم يقتلني جيم، فإنه حتماً سيشبهني بمغنيات الكنيسة، ولكن ماذا عساي أفعل بدولار وسبع وثمانين سنتاً؟

في تمام السابعة مساءً، جهزت ديلا القهوة وتهيأت لطهي طعام العشاء، لكن جيم الذي ما عودها أن يتأخر، تأخر عن موعده هذه المرة، فلم تجد بداً من أن تنتظره قرب باب الشقة حاملةً معها السلسلة الفضية. 
شحب وجهها وهي تنصت إلى وقع أقدامه، فأخذت تصلي لله قائلةً: أتوسل إليك يا رب! اجعلني أبدو في عينيه جميلة كما كنت! لم تكد تكمل صلاتها حتى فتح جيم الباب ودخل.

كان جيم رجل كل ما فيه لا يتناسب مع سنواته الإثنين والعشرين، رجل نحيف، جاد، وقور، أخذ الفقر منه شر مأخذ حتى أعجزه عن تجديد معطفه وقفازيه اللذان بدا عليهما القدم، وأنى له هذا؟ وهو على صغر سنه مسؤول عن إعالة أسرة. 
تسمر جيم عند الباب وانطلقت عيناه تتفحصان ديلا بنظرة لم تجد لها تفسيراً، فارتعدت فرائصها، فهي ليست نظرة تعجب ولا خوف ولا حتى غضب.
كان ينظر إليها وقد إرتسمت على وجهه تعابير غريبة لم تكن بحسبانها، الأمر الذي جعلها تندفع نحوه باكيةً وهي تقول: حبيبي جيم! أرجوك! لا تنظر إلي هكذا! لقد قصصت شعري وبعته لأنني لا أتحمل أن يمر عيد الميلاد دون أن أهديك شيئاً... صدقني إن شعري ينمو بسرعة... هيا، قل لي عيد ميلاد سعيد ودعنا نحتفل هذه الليلة! لست تدري كم جميلة تلك الهدية التي اشتريتها لك.
سألها جيم متعجباً مما يسمع وكأن عقله توقف فجأةً عن العمل: ماذا تقولين! لقد قصصتي شعرك؟؟؟
أجابت ديلا: نعم لقد قصصته وبعته... ألا تزال تحبني كما في السابق؟ فأنا لم أزل كما أنا لم أتغير، بشعري أو بدون شعري.
كما لو كان يبحث عن شيء ما، جال بنظره في الغرفة، ثم قال متسائلاً: تقولين إن شعرك قد ذهب؟
ردت ديلا: لا تجهد نفسك في البحث، فكما قلت لك، إنني بعته وانتهى الأمر... إنها ليلة عيد الميلاد يا جيم! ارحمني! أقسمت عليك بشعري الذي قصصته من أجلك إلا ما رحمتني! قد يكون شعري له ثمن لكن حبي لك لا يقدر بثمن... والآن ماذا تقول يا صغيري؟ هل أضع طبق اللحم أم لا؟

أحاطها جيم بذراعيه قبل أن يخرج من معطفه علبةً ويضعها على المنضدة وهو يقول: لا تخطئي بحقي يا ديلا! ما كان شعرك المقصوص ليقلل من حبي لكِ يا مدللتي، لكنك لو فتحتِ هذه العلبة لأدركتِ السر وراء صدمتي. 

انهالت أصابع ديلا البريئة على العلبة تمزيقاً، ثم صرخت بفرح سرعان ما تحول إلى حسرة لم يستطع قلبها الصغير إخفاءها، فبكت بكاءاً مراً أعيت معه زوجها الحيلة لإقناعها للكف عنه، كيف لا؟ والعلبة تحتوي على مشبك الشعر الجميل المصنوع من المحار
والمرصع بالجواهر والذي يتناسب لونه مع لون شعرها الذي كان شعرها قبل سويعات. كان ذلك المشبك ذاته الذي رفرف نحوه قلب ديلا منذ أن رأته ذات يوم في واجهة إحدى المحلات، لكنها كانت تعي جيداً أنه لم يصنع من أجلها كونه باهظ الثمن، لذا فلم تتمنى ولو لمرة أن تمتلكه، أما الآن، وقد أصبح بمتناول يدها، فإنها لم تعد تمتلك الشعر الذي تشبكه به.
ضمت المشبك إليها وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة متفائلة وهي تقول: لا تقلق يا جيم! فإن شعري سريع النمو.

أدركت أن جيم لم يرى هديته بعد، فقفزت بسعادة وهي تريه السلسلة الفضية الأنيقة قائلةً: أليست رائعة يا جيم؟ لقد بحثت لك عنها في كل محلات المدينة... ستنظر إلى ساعتك مئة مرة في اليوم... هيا! أعطني ساعتك! أريد أن أرى كيف تبدو مع هذه السلسلة. 
وبدلاً من أن يعطيها ساعته، استلقى جيم على الأريكة واضعاً كلتى يديه خلف رأسه وهو يقول مبتسماً: لنترك هدايا عيد الميلاد جانباً
بعض الوقت، لكن إن أردتِ الحقيقة، فمجرد استعمالها الآن هو أمر غاية في المتعة... لقد بعت ساعتي الذهبية لأحصل على المال الكافي لكي أشتري لكِ هذا المشبك... والآن، لما لا تضعين طبق اللحم يا عزيزتي؟

نعم، لم يكن بحوزة عائلة ديلنكهام الصغيرة ما هو أثمن من ساعة الزوج الذهبية التي ورثها عن آبائه وأجداده، وشعر الزوجة الذي هو تاجها كما يعبرون.


أو هنري(1862-1910):

أو.هنري كان الاسم الذي أطلقه على نفسه الكاتب الأمريكي وليام سيدني بورتر، بعد خروجه من سجن (كولمبس) في ولاية أوهايو
سنة 1898 بعد اتهامه بالاختلاس. اشتهرت قصصه القصيرة بخفة الدم والسخرية، وإطلاق النكت ونهايات قصصه ملتوية بارعة. صور في قصصه القصيرة التي يختلط فيها الهزل بالجد حياة الناس العاديين في مدينة نيويورك, ومن هنا عدت وثائق اجتماعية هامة.
على الرغم مما عرف عنه من حبه الشديد للدراسة، إلا أنه غادر مقاعدها وهو في سن الخامسة عشر ليذوب في زحمة الحياة العملية. توفي بداء تلف الكبد وذلك في نيويورك بعد أن ألقى الإدمان على الكحول وضنك العيش بظلالهما على آخر أيام حياته.
يعد أو هنري أحد رواد أدب القصة القصيرة في أميريكا والعالم، كيف لا، وهو الكاتب لما يزيد عن الست مئة قصة قصيرة.

أهم أعماله:
هدية المجوس
" الكرنب والملوك "
" المصباح المزركش " 1907
" قلب الغرب " 1907
" صوت المدينة " 1908
" طرق المقادير " 1909
" العروض " 1909
" عمل ليس إلا " 1910
" أعاصير "1910

وبعد وفاته صدرت له " ثلاث كتب :
" البستاني الرقيق ".
" الحجارة الدوارة ".
" أبناء السبيل ".

القميص المسروق



رفع رأسه إلى السماء المظلمة وهو يقاوم شتيمة كفر صغيرة أوشكت أن تنزلق عن لسانه، واستطاع أن يحس الغيوم السوداء تتزاحم كقطع البازلت، وتندمج ثم تتمزق.
إن هذا المطر لن ينتهي الليلة، هذا يعني انه لن ينام، بل سيظل منكباً على رفشه، يحفر طريقاً تجر المياه الموحلة بعيداً عن أوتاد الخيمة، لقد أوشك ظهره أن يعتاد ضرب المطر البارد. بل إن هذا

البرد يعطيه شعوراً لذيذاً بالخدر.
انه يشم رائحة الدخان، لقد أشعلت زوجه النار لتخبز الطحين، كم يود لو انه ينتهي من هذا الخندق، فيدخل الخيمة، ويدس كفيه الباردتين في النار حتى الاحتراق، لا شك انه يستطيع ان يقبض على الشعلة بأصابعه، وان ينقلها من يد إلى أخرى حتى يذهب هذا الجليد عنهما.. ولكنه يخاف ان يدخل هذه الخيمة، ان في محاجر زوجه سؤالاً رهيباً ما زال يقرع فيهما منذ زمن بعيد، لا، ان البرد اقل قسوة من السؤال الرهيب. ستقول له اذا ما دخل وهي تغرس كفيها في العجين، وتغرس عينيها في عيونه: هل وجدت عملاً؟ ماذا سنأكل اذن؟ كيف استطاع (ابو فلان) ان يشتغل هنا وكيف استطاع (ابو علتان) ان يشتغل هناك؟ ثم ستشير الى عبد الرحمن المكور في زاوية الخيمة كالقط الكسول، وستهز رأسها بصمت ابلغ من الف الف عتاب.. ماذا عنده الليلة ليقول لها سوى ما يقوله في كل ليلة..
-هل تريدينني ان اسرق لأحل مشاكل عبد الرحمن؟
ونصب قامته بهدوء لاهث، ثم ما لبث ان عاد، فاتكأ على الرفش المكسور، وانشأ يحدق بالخيمة الداكنة مستشعراً قلقاً عظيما وهو يسأل نفسه:
- وماذا لو سرقت؟
ان مخازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من الخيام، ان قرر ان يبدأ فهو يستطيع بالتأكيد ان ينزلق الى حيث يتكدس الطحين والرز، من ثقب ما سيجده هنا او هناك، ثم ان المال ليس حلال احد، لقد اتى من هناك، من عند ناس قال عنهم استاذ المدرسة لعبد الرحمن انهم " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" فماذا يضر الناس لو انه سرق كيس طحين.. كيسين.. عشرة؟ وماذا لو باع شيئاً من هذا الطحين الى واحد من اولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على استنشاق روائح مسروقات، وبقدرة اعظم في المساومة على ثمنها؟
ولذت له الفكرة، فدأب بعزم اشد على اتمام حفر الخندق فيما حول الخيمة واخذ يسأل نفسه من جديد ان لماذا لا يبدأ مغامرته منذ الآن؟ ان المطر شديد والحارس مشغول بأمر البرد اكثر من انشغاله بمصلحة وكالة الغوث الدولية، فلماذا لا يبدأ الآن؟ لماذا؟
- ماذا تعمل يا أبا العبد؟
ورفع رأسه الى جهة الصوت، وميز شبح ابي سمير قادماً من بين صفي الخيام المغروسة الى ما لا نهاية الظلمة..
-انني احفر طحيناً..
- تحفر ماذا؟
- احفر.. احفر.. خندقاً..
وسمع ضحكة ابي سمير الرفيعة التي سرعان ما تلاشت في ثرثرته:
- يبدو انك تفكر بالطحين، ان التوزيع سيتأخر الى ما بعد العشرة الايام الاولى من الشهر القادم، اي بعد خمسة عشر يوماً تقريباً، فلا تفكر منذ الآن الا اذا كنت تنوي ان تستعير كيساً او كيسين من
المخزن..
ورأى ذراع ابي سمير تشير باتجاه المخازن، ولمح على شفتيه السميكتين ظلاً لابتسامة خبيثة، وشعر بصعوبة الموقف، فعاد يضرب الارض برفشه المكسور.
- خد هذه السيكارة.. ولكن لا، انك لن تستفيد منها فالمطر مزعج.. لقد نسيت ان السماء تمطر، عقل من الطحين.. مثل الحجر..
واحس بضيق يأخذ بخناقه، انه يكره ابا سمير منذ زمن بعيد، هذا الثرثار الخبيث:
- ما الذي اخرجك في هذا المطر؟
- خرجت.. خرجت لاسألك ان كنت تريد المساعدة.
- لا.. شكراً..
-هل ستحفر طويلاً؟
- معظم الليل..
- الم اقل لك ان تحفر خندقك في النهار؟ انك دائماً تذهب الى حيث لا ادري وتترك الخيمة.. هل تذهب للبحث عن خاتم سليمان؟
- لا.. عن شغل..
ورفع رأسه عن الرفش وهو يلهث..
- لماذا لا تذهب لتنام وتتركني وحدي؟
واقترب منه ابو سمير بهدوء جم ووضع كفّه يهزها ببطء وهو يقول بصوت مخنوق:
- اسمع يا ابا العبد، ان رأيت الآن كيس طحين يمشي من امامك فلا تذع الخبر لاحد!
- كيف؟
قالها ابو العبد وصدره ينبض بعنف، وشم رائحة التبغ من فم ابي سمير وهو يهمس وقد فتح عيونه على وسعها:
- هناك اكياس طحين تمشي في الليل وتذهب الى هناك..
- الى اين؟
- الى هناك..
حاول ابو العبد ان يرى الى اين يشير ابو سمير ولكنه وجد ذراعيه مسدلتين على جنبيه، بينما سمع صوته يهمس ببحة عميقة:
- ستأخذ نصيبك.
- هل هناك ثقب تدخلون منه؟
ورفع ابو سمير رأسه نافياً ومفرقعاً لسانه بمرح، ثم همس بصوت نصف مبحوح:
- ان اكياس الطحين تخرج لوحدها.. انها تمشي!
-انك مجنون ..
- لا، بل انت مسكين.. اسمع، ولندخل في الموضوع مباشرة، ان ما علينا هو ان نخرج اكياس الطحين من المخزن ونذهب بها هناك، ان الحارس سيمهد لنا كل شيء كما يفعل دائماً، ان الذي سيتولى البيع ليس انا، ولا انت، انه الموظف الامريكي الاشقر في الوكالة.. لا، لا تعجب، كل شيء يصبح جائزاً ومعقولاً بعد الاتفاق. الأمريكي يبيع، وأنا اقبض، والحارس يقبض.. وأنت تقبض، وكله بالاتفاق، فما رأيك؟
وشعر ابو العبد ان القضية اشد تعقيداً من سرقة كيس اوكيسين، اوعشرة، وراوده شعور لزج بالقرف من المعاملة مع هذا الانسان.. ثقيل الدم كما تعارفوا عليه في المخيم كله.. ولكنه في الوقت ذاته راقه ان يعود يوماً الى خيمته وفي يده قميص جديد لعبد الرحمن، واغراض صغيرة لام العبد بعد هذا الحرمان الطويل، كم ستكون ابتسامتاهما جميلتين، ان ابتسامة عبد
الرحمن، لوحدها، تستحق المغامرة لا شك، ولكنه لو فشل.. اي مصير اسود ينتظر ام العبد وولدها.. يومها سيحمل عبدالرحمن صندوق مسح الاحذية ليتكور في الشارع هازاً رأسه الصغير فوق الاحذية الانيقة، يا للمصير الاسود، ولكنه لو نجح فسيبدو عبد الرحمن انساناً جديداً، وسيقتلع من عيون زوجه ذلك السؤال المخيف. لو نجح، فستنتهي مأساة الخندق في كل ليلة ممطرة، وسيعيش حيث لا يستطيع ان يتصور الآن..
- لماذا لا تترك هذا الخندق الملعون، لنبدأ قبل ان تشرق الشمس؟
نعم لماذا لا يترك الخندق.. ان عبد الرحمن يلهث من البرد في طرف الخيمة، ويكاد يحس انفاسه تلفح جبينه البارد.. كم يود لو انه ينتشل عبد الرحمن من هزاله وخوفه، لقد اوشك المطر ان ينقطع، وبدأ القمر في السماء يمزق طريقاً وعراً..
وابوسمير، ما زال واقفاً امامه كالشبح الاسود، غارساً قدميه الكبيرتين في الوحل، رافعاً ياقة معطفه العتيق الى ما فوق اذنيه، انه ما زال واقفاً ينتظر، هذا الانسان الواقف امامه، يحمل معه قدراً جديداً غامضاً، يساومه ليرفع معه الاكياس من المخزن، الى مكان ما، يأتيه الامريكي كل شهر ويقف امام اكوام الطحين يفرك راحتيه النظيفتين، ويضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز امام جحر فأر مسكين.
- منذ متى وانت تتعامل مع هذا الحارس وذلك الموظف؟
- هل تريد ان تحقق معي ام تأخذ ثمن الطحين وتذهب لتشتري الشياطين؟ اسمع ان هذا الامريكي صديقي، وهو انسان يحب العمل المنظم، انه يطلب مني دائماً ان اضع الوقت بالمقدمة. وهو لا يحب التأخير في المواعيد.. علينا ان نبدأ الآن. اسرع.
وعاد يتصور الامريكي واقفاً امام اكياس الطحين، يضحك بعيون زرقاء ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتين بحبور وطمأنينة، فشعر بضيق غريب، وخطر له ان ذلك الامريكي كان يبيع الطحين في الوقت الذي كان يقول فيه لرجال المخيم ولنسائه ان توزيع الاغاثة سيتأجل الى نهاية الايام العشرة الاولى من الشهر، واحس بنقمة طاغية، هي صدى لاحساساته يوم كان يرجع من المخازن ليقول لزوجته بصوت كسير انهم اجلوا توزيع الطحين عشرة ايام، كم هي مؤلمة خيبة الامل التي كانت ترتسم في وجهها الاسمر المجهد، لقد كان يحس الغصة تتعلق بالف ذراع في حنجرته وهي تنظر بصمت مريع الى كيس الطحين الفارغ يتأرجح على ذراعه كالمشنوق.. لقد كانت تعني في نظرتها تلك ان عشرة ايام ستمضي قبل ان يجدوا طحيناً للاكل. كان يبدو له ايضاً ان عبد الرحمن يفهم الموقف تماماً، لقد كان يكف عن طلب الاكل بالحاح..

في كل خيام قرية النازحين كانت العيون المتلهفة تقع في خيبة الامل ذاتها، كان على كل طفل في المخيم ان ينتظر عشرة ايام ليأكل خبزاً. هذا اذن هو سبب التأجيل، ابو سمير الواقف امامه كالشبح الاسود، غارساً قدميه في الطين قلقاً لمصير مساوماته، هو والامريكي الذي يفرك راحتيه النظيفتين امام اكوام الطحين وهويضحك بعيون زرقاء ضيقة..

لم يدر كيف رفع الرفش إلى ما فوق رأسه وكيف هوى به بعنف رهيب على رأس أبي سمير... ولم يدر أيضاً كيف جرته زوجته بعيداً عن جسد أبي سمير، وهو يصيح في وجهها أن الطحين لن يتأجل توزيعه هذا الشهر.

كل ما يدريه هو أنه عندما وجد نفسه في خيمته مبلولا يتقطر ماءً ووحلاً، ضم إلى صدره ولده عبد الرحمن وهو يحدق في وجهه الهزيل الأصفر...
كان لا يزال راغباً في أن يراه يبتسم لقميص جديد... فاخذ يبكي....



غسان كنفاني:
ولد عام 1936 في عكا. صحفي وروائى فلسطينى تم اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في  1972 عندما كان عمره 36 عاما بتفجير سيارته في منطقة الحازمية

قرب بيروت. كتب بشكل أساسي بمواضيع التحرر الفلسطيني، وهو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في عام 1948 أجبر وعائلته على النزوح فعاش في سوريا كلاجئ فلسطيني ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية. أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في ذات العام تسجّل في كلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، انضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه إليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953. ذهب إلى الكويت حيث عمل في التدريس الابتدائي، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961) التي كانت تنطق باسم الحركة مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها (ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم "مجلة الهدف" وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقاً رسمياً باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تزوج من سيدة دانماركية (آن) ورزق منها ولدان هما فايز وليلى.










الباب


ترجم النص: عبد الحميد الغرباوي



حلت الأيام الأولى ليوليوز في سانتياغو ديل إيسترو، حاملة معها رياحاً باردة صفيرها ينذر بشتاء أشد قسوة من المعتاد.
غبار رمادي كان كما لو أنه معلق في الهواء، و الأشجار العارية كانت تنحني لكل عصفة ريح حد الانكسار.
وحدها أشجار الشوك السامقة كانت تتحدى الزوبعة بوجهها الشائك المسطح ثم في النهاية ترضخ للسقوط، كاشفة عن أن الشجاعة مهما بلغت من ذروة، ورغم السيقان الضاربة جذورها عميقاً في التربة، فإن لا حول لها ولا قوة أمام الهجمة الشرسة للرياح.
الكل كان شاحباً كمشهد ثلج وسخ، لكن لم يكن هناك ثلج ولا خضرة.
أنين البراري والأشجار الشوكية ضاعف من حدة هذا البرد الذي كان يتزحلق على هياكل يابسة هي الأخرى بيضاء لحيوانات نافقة.
داخل كوخ متداع محاط بسياج من الكاكتوس المهمل، كانت الريح تضرب كما لو أنها غزوة ريفية. ولم يكن إغلاق الباب الخشبي
المنقوش الذي هو مدعاة فخر واعتزاز كل أفراد العائلة، بقادر على صد هجماتها: سقف القش والجدران المكونة من صفائح معدنية متماوجة وخرق غليظة، لم تكن كافية لتمنح أدنى حماية.
متحولقين حول نار تلفظ أنفاسها الأخيرة، أوروصمان (الأب)، بيليصاريا (الأم)، الأطفال الثمانية والجدة، كلهم كانوا يبحثون عن حرارة أكبر من حرارة جمرات شبه مطفأة، إنها الحرارة الإنسانية.
كان الرضيع ابن الأربعة عشر شهراً يبكي داخل سلة من قصب مخصصة لنقل الثمار، وكانت بيليصاريا تتساءل عما ستفعله بالآخر الذي على وشك الخروج إلى الحياة. وأتى صوت أكبر أولادها، أوريصتي منبعثاً من عمق الصمت، كما لو أنه يرد على تساؤلها:
ـ لا يمكن أن نستمر على هذه الحالة.. لنذهب إلى توكومان
ـ أجل إلى توكومان، إلى توكومان.. ردد الأطفال بصوت واحد..
ـ قيل لي إن في المدينة إنارة، والبيوت كبيرة ومتينة والريح لا تدخلها.
وفي عصبية، أردف أوريصتي:
ـ دون زويلو قال إن العمل هناك متوافر. والحاجة إلى السواعد كبيرة في حقول السكر.
قال أيضا إن المال هناك كثير.
ـ دون زويلو ذهب السنة الماضية لجني القصب. يقول إنه صار عجوزاً ولم يعد يستطيع العودة إلى هناك، وهو يبيعك عربته مقابل المعزات والنعجتين. إذ هناك لن نحتاج إليها.
ويرد أوروصمان محتجاً:
ـ أو سنذهب مع أمنا ونحن في هذه الحالة؟
وكما لو أنها غير مهتمة بما يدور حولها من كلام، قالت بيليصاريا:
ـ أنا سأذهب على كل حال.
ـ والجدة الطاعنة في السن.
ـ أنا أريد الانتقال إلى المدينة، الجو دافئ هناك وأريد أن أعيش أيامي الأخيرة في ظروف حسنة.
في تلك الليلة، نام الجميع، داخل الكوخ، نوماً عميقاً يدثرهما الأمل مثل غطاء.
وفي صباح اليوم التالي، بلغت الحركة ذروتها. بداية كان الحديث مع دون زويلو الذي إضافة للمعزات والنعجتين، أراد الباب أيضاً بديلاً للعربة. كانت تلك عملية مستحيلة، لأن الانفصال عن الباب كان خروجاً عن الأعراف والتقاليد: حُفِر على سطح الباب خمسة عفاريت وفوقهم عالياً شكل ملاك يطارهم. كان الملاك أكثر بشاعة من العفاريت، لكن ذلك كان خطأ أوروصمان الذي نقشه هناك في دير المبشرين، دون أن يكون على دراية بالنقش على الخشب. ورغم ذلك فالرهبان اثنوا على عمله بقولهم إن بابه جميل جداً، وسيضعونه في المصلى، وبدل أن يفتخر بذلك، فر هارباً في نفس مساء ذلك اليوم على حصانه، والباب في السرج، إذ أنه لم يرد أن يكون الباب في ملك الرب بل في ملكه هو وعائلته. واليوم لن ترغمه عربة مهترئة ذات خشب غليظ مستدير ودون غطاء للبضائع على التفريط فيه، ولو أن في سانتياغو ديل إيسترو ليس هناك أفضل منها لجني قصب السكر.
وأسفرت المبادلة في نهاية الأمر على أن تكون العربة لهم مقابل
الماشية فقط.
الجياد تقفز جذلانة تحت ثقل الرحل الذي لخمس سنوات وهو مركون في ناحية من المسكن الخرب. السياط الجلدية الطويلة المستعمل لطرد الذباب تدغدغ مؤخرات الجياد التي كانت تسترجع نشاطاً افتقدته زمناً طويلاً.
أوروصمان والأطفال ينقلون دون تلكؤ أكياس الذرة وكل ما تعثر عليه أيديهم في الكوخ. وشيئاً فشيئاً، أخذت العربة تمتلئ، إلى أن صار المتاع كله يجثم على عجلاتها: الخرق التي كانت تعضد جدران الكوخ استعملت في تلفيف الأواني وأشياء أخرى، قش السقف الذي كان يسد الثقب حول إلى فراش. وحدهما عمودان، ظلا واقفين، مثل صليب مغروس على قبر الكوخ المتداعي الذي أبداً لن يعودوا إليه.
خاطبهم دون زويلو وهو جالس القرفصاء ، يشرب جعته المحلية:
ـ اعملوا بنصيحتي، ارحلوا إلى المدينة، هناك يُشغل الناس، وستتقاضون أجوراً جيدة. لا تقبلوا العمل في الحقول، اذهبوا إلى داخل المدينة.
كانت تلك كلمة وداعه.
فرقع أوروصمان الكرباج في الهواء فاهتزت العربة متحركة. نزل الليل صقيعياً في عمق الطريق، فاضطروا إلى التوقف. سخنوا
طعامهم على نار تؤججها الريح، ثم ناموا داخل العربة، متكومين بين العلب والقش. وكما لو كان وعداً منها، قادتهم شمس الفجر الشاحبة إلى الطريق المؤدية رأسا إلى المدينة. الجبل توارى بعيداً خلفهم بيد أن مشهد النباتات المتفرقة كان يأبى أن يتغير.
السماء، ومع نزول المساء تدريجياً، شرعت تأخذ لها درجة من اللون الرمادي المثير للتقزز، إلى حد أن على خط الأفق، مزج الضباب السماء بالأرض. أطبق عليهم الليل، على جوعهم وبرودة أجسادهم.
حين واصلوا طريقهم، شاهدوا الحقول على جانبي الطريق، تتحول إلى خضرة وزرع: المدينة كانت قريبة. فجأة، سمع دوي انفجار هائل، اهتزت له فرائصهم. ثم انفجار آخر، و آخر.
ـ إنها المدافع، قال أوريصتي بصوت خافت جداً. قيل لي إن المدافع هي التي تحدث مثل هذا الدوي فيرتعد الجميع.
ـ لا تنطق بالتفاهات، أيها الصغير، إنه ضجيج المدينة الكبيرة، قال أوروصمان..
وضرب الجياد بالسياط حاثاً إياها على الإسراع. وأفضوا إلى الشارع الكبير المحفوف بالمنازل والحدائق. حشد من الناس على الأرصفة كانوا يتجهون بخطى واثقة نحو وسط المدينة. العربة تتبعهم، لفت على ساحة، دخلت درباً ضيقاً، وفجأة، وعند ملتقى طرق، وجدت العربة نفسها خلف ثلة من جنود، تحركوا سائرين بناء على أمر.
ساروا خلفهم.
الدور العالية كانت تزينها أعلام زرقاء و بيضاء، وكان هناك حشد كبير من الناس، كما لو أن العالم كله اتفق على موعد للهتاف والغناء. سيارات وموتوسيكلات كانت تدفع العربة نحو الساحة الكبرى، أصاب الخوف الشديد أوروصمان وأفراد عائلته، فاستسلموا للتيار المندفع. واتسعت حدقات أعينهم رعباً لمرأى دبابات تتجه نحوهم. صاح فيهم جندي:
ـ تحركوا، تحركوا، أنتم ترون جيداً أننا لا نستطيع التوقف هنا. 
فرقة الموسيقى العسكرية تحرك الطبول في شكل دائري، و التيار البشري يقودها. اقترب منهم رقيب عسكري يمتطي صهوة حصان و صرخ فيهم أن يغادروا المكان سريعاً..
ـ ألا ترون أن المرور هنا ممنوع؟..
لم تعد الجياد تستجيب تماماً للقيادة، والأطفال يبكون مختبئين تحت القش. 
مروا من أمام لافتات كبيرة كتب عليها "الذكرى المئة والخمسون.." كانت الكلمات صعبة لم يتمكنوا من قراءتها، وأجهشت بيليصاريا باكية في صمت، ذلك لأن المكان كان أشد قسوة من الجحيم، وتمنت أن تصلي للعذراء ماريا كي تخلصهم من هناك.
وأخيرا أفضوا إلى درب يبتعد عن الساحة، رغم أن ذلك تطلب شق
الطريق وسط الحشد. مروا من أمام باب بيت في أعلاه نافذتان طلي شباكيهما بالأخضر، و يبدو أن البيت كان مركز الجلبة والصخب. 
ـ انظروا إلى هذا الباب يكاد يكون جميلاً مثل بابنا صاح واحد من الأطفال.
غير أن لا شيء كان بمستطاعه إثارة انتباههم، بما في ذلك شعلة الضوء التي انفجرت فجأة في الظلام راسمة ما يشبه دائرة حول محيط الكاتدرائية. 
في السماء، أشكال سيئة، شريرة، حمراء وخضراء، تشتعل وتنير وجوههم التي كانت تشبه أرواحاً معذبة. 
والعربة، هي الأخرى مثل روح متألمة، استسلمت للانقياد وسط زوبعة الهتاف والألوان التي اجتاحت المدينة.
دوت المدافع من جديد. صمهم الصخب، و ما أن تحررت الجياد من الزحام الذي كان يعيقها، حتى حزمت أمرها وأسرعت تضرب بحوافرها على الإسفلت راكضة.
ولم يتمكن أوروصمان من ثنيها عن الجري والسيطرة عليها، إلا حين اقتربوا من القرية وصارت المدينة مجرد بقعة حمراء في السماء تشبه غروب شمس. لم يتوقفوا ولكن أبطؤوا في السير، وواصلوا سباقهم إلى أن بلغوا الصليب الذي يقوم بحراسة المكان حيث كان ينتصب الكوخ. كان البرد لهم بالمرصاد كما لو كان في انتظارهم، وإيقاد نار بدا لهم ضرورياً بعد كل ما بذلوه من سير
شاق دام ليلة ويوماً وما يقرب ليلة أخرى. كانوا في حاجة إلى نار لطرد الأرواح. و قال واحد من الأطفال وهو يئن:" لنحرق الباب" 
محاولاً دون جدوى إيقاد نار مستعيناً ببعض الجذوع الصغيرة التي تنش نشاً ضعيفاً.
ـ إلا الباب..
صاحت بيليصاريا محتجة ..
ـ ليس لدينا سواه، هو رفيقنا. وإذا ما أحرقناه فقد يجلب لنا ذلك الشقاء.
خيم صمت طويل وحارق.
ـ سيجلب لنا الشقاء إذا ما ماتت الجدة برداً، قال أوروصمان مصمماً.
ودعوا الباب وهم يصلون، بيد أن اللهيب سرعان ما صار كبيراً وشرعت العفاريت تكشر لهم جميعا وللملاك متهكمة. 
ورغم ذلك، وجدوا في الحرارة عزاء ومواساة. 
وحين مر دون زويلو من هناك في اليوم التالي صباحاً، كانت الجمار لا تزال محمرة. وكم كانت دهشته كبيرة وهو يرى أوروصمان، زوجته، أمه وكل الأطفال، يصلون حول الصليب، الشاهد الوحيد على الكوخ.
ـ ماذا تفعلون هنا؟.. سألهم دون أن يترجل من على صهوة جواده. سيتوجب عليكم البدء بكل شيء من جديد...
ـ أجل، البدء بكل شيء من جديد، رد أوروصمان. وبدون باب يحمينا. لكننا فضلنا العودة، حتى وإن متنا برداً. 
وهو ينظر في يديه، أضاف:
ـ لأن في توكومان، هناك الحرب. 





 لويزا فالينزويلا:

روائية وكاتبة قصص قصيرة أرجنتينية من مواليد بوينس إيرس عام 1938.
ابنة الكاتبة لويزا مرسيدس ليفنسون. زاولت العمل الصحفي من عمر ال 17 سنة، وعاشت لسنوات بين باريس، برشلونة، ومكسيكو وفي نيويورك زاولت مهنة التدريس.
أصدرت ست روايات آخرها سنة 1990، وخمس مجاميع قصصية آخرها سنة 1983، و نص بوليسي سنة 1991.
حاصلة على العديد من الجوائز الأدبية.

اللحاف

مترجم عن اللغة الأوردية

في كل شتاء، عندما أسحب اللحاف فوقي ويتمايل ظله الذي يلقيه على الجدار كالفيل، بقفزة واحدة يدخل عقلي في سباق مع الماضي، وتقليبٍ في طياته. يا للذكريات التي تنتعش في ذاكرتي!.


لا أعتزم هنا إخباركم قصة رومانسية عن لحافي الشخصي. في الواقع، لا يمكن أن ترتبط الرومانسية تماماً مع اللحاف. لنفكر بالأمر، يمكن أن تكون الملاءة أقل راحة، ولكن ظلها غير مخيف على الإطلاق... كالظل المتحرك للحاف على الحائط. تعود قصتي إلى الأيام التي كنت فيها صغيرة جداً، حيث اعتدت أن أمضي طول اليوم في مشاحنات مع إخوتي وأصدقائهم الذكور.
أتساءل أحياناً لماذا كنت مشاكسة إلى هذا الحد في تلك الأيام. ففي السن الذي كانت فيه الفتيات يكتسبن المعجبين، كنت منهمكة في الشجار مع كل فتى أو فتاة أصادفها في طريقي.
لهذا السبب، عندما ذهبت أمي في زيارة إلى أغرا تركتني لمدة أسبوع برعاية شقيقتها المتبناة. كانت أمي تعرف جيداً أنه لا يوجد طفل واحد، ولا حتَّى فأرة، يمكن أن أتشاجر معها في هذا البيت. كان ذلك عقابا لطيفاً بالنسبة لي! حسن، وهكذا حدث أنني تركت تحت رعاية "بيجوم جان" التي انفرزت ذكرى لحافها في ذاكرتي، وما يزال محفوظاً فيه حتَّى هذا اليوم كالندبة التي تتركها مكواة متوهجة الحرارة. قام والدا "بيجوم جان" الفقيران بتزويجها إلى السيد نوّاب، لأنَّه كان رجلاً تقياً جداً، على الرغم من أنه متقدم قليلاً في السن. لم تدخل مطلقاً إلى بيته عاهرة أو فتاة شارع. أدى بنفسه فريضة الحج إلى مكة، وساعد الكثيرين على تأدية هذه الفريضة المقدسة.
ولكن كان لدى نواب هواية غامضة. من المألوف أن يُغرمَ الناس بتربية الحمام أو مصارعة الديكة وهلمّا جرّا. ولكن نواب كان يكره مثل هذه الاهتمامات السخيفة.
كانت سعادته الوحيدة هي أن يجمع الطلاب حوله، صبية صغار

وسيمون بخصور نحيلة، يتحمل السيد نواب شخصياً نفقاتهم بسخاء.
بعد أن تزوج من بيجوم جان، ووضعها في منزله مع باقي الأثاث، نسي وجودها كلياً وترك بيجوم جان الشابة الضعيفة لتذبل في وحدتها.
من الصعب القول من أين تبدأ حياة بيجوم جان؛ من النقطة التي ارتكبت فيها الغلطة الأولى ألا وهي القدوم إلى هذا العالم، أم عندما أصبحت زوجة لنواب وقيدت إلى سريرها المغطى بمظلة؛ أم عندما غزا الصبية حياة السيد نواب، وبدأت بتحضير الأطباق الغنية والحلويات الفاخرة وتقديمها لـه. وشعرت بأنها تتقلب على
سرير من الجمر المتوهج وهي تراقب من شقوق باب قاعة الاستقبال، فترى الصبية في قمصانهم نصف الشفافة، وسيقانهم الجميلة في السراويل الضيقة، وخصورهم الرشيقة. أم هل بدأت عندما أخفقت كل صلواتها ونذرها، وكذلك كل سهرها وسحرها في تحريك مشاعر نواب؟ ما الفائدة من وضع علقات على حجر؟ لم يتحرك نواب قيد أنملة. وعندما حصل هذا تحطم فؤاد بيجوم جان.

التفتت نحو الكتب، ولكن هذا أيضاً لم ينجح. فالروايات الرومانسية والقصائد العاطفية زادت من كآبتها. هجر النوم عينيها وأصبحت كتلة من الندم والقنوط. فلتذهب كل تلك الملابس إلى الجحيم! يرتدي المرء أحلى حلة ليلفت نظر الآخر.
ولكن هنا، ليس عند نواب وقت يوفره من انشغاله بالصبية لينظر
إليها، ولا يُسمح لـها بزيارة الآخرين. منذ أن تزوجت، يأتي أقرباؤها لزيارتها، ويمكثون عندها لأشهر، في حين لا تستطيع السيدة المسكينة أن تتخطى حدود منزلها. هؤلاء الأقارب يجعلون الدم يغلي في عروقها. جميعهم يأتون للاستمتاع، يتناولون الأطعمة الغنية التي يقدمها السيد نواب، ويحصلون على احتياجاتهم الشتوية، بينما هي تقبع في البرد، وتشعر بقشعريرة تسري في أوصالها حتَّى وهي تحت اللحاف، المحشو حديثاً بقطن تمَّ تمشيطه
ليصبح زغباً. وبينما هي تتقلب في فراشها، كان اللحاف يلقي على الحائط ظلالاً دائمة التغير، ولكن كل هذه الظلال لا تقدم لـها أي أمل أو عزاء. لماذا يحيا المرء إذاً؟... حسنٌ، يحيا المرء ما دامت الحياة مستمرة. طالعها يقول إنها يجب أن تحيا، لذا هي ما تزال حية.
"رابو" هي التي سحبتها من شفير الهاوية. ثمَّ وبلمح البصر، بدأ
جسد بيجوم جان الجاف يمتلئ، وتوردت وجنتاها، وتفجر جمالها. إن التدليك بزيت غامض أعاد ماء الحياة إليها. وإذا سألتموني أقول لكم إن أفضل المجلات الطبية لن تتمكن من إعطاء الوصفة الطبية لـهذا الزيت.
عندما رأيت بيجوم جان للمرة الأولى كانت في الأربعين أو الثانية والأربعين من عمرها، كم كانت تتكئ بأناقة على المسند، في حين تجلس "رابو" بالقرب منها تدلك ظهرها وجسدها! كانت تلقي وشاحاً أرجوانياً فوق ساقيها وتبدو مهيبة كالملكة! كنت مفتونة بجمالها إلى حد كبير. وكنت أسرّ بالجلوس إلى جانبها والنظر إليها لساعات. كان شعرها الأسود، المدهون بالزيت بسخاء، مصففاً بأناقة، ومرتباً بطريقة لا يمكن أن تجد خصلة من الشعر في غير مكانها. كانت عيناها سوداويين، وحاجباها المشذبان بعناية أشبه بقوسين مرسومين. وكانت عيناها منتفختين قليلاً بسبب جفناها الثقيلين وأهدابها الكثيفة. إلا أن شفتيها المحمرتين على الأغلب كانتا أكثر قسمات وجهها جاذبية بشكل مذهل. كانت شفتها العليا ملساء مع أثر ضئيل لشارب. وقد نما شعرها طويلاً عند صدغيها. عندما تراقب وجهها أحياناً يتولد لديك شعور غريب بأنك تنظر إلى وجه فتى يافع.

كانت بشرتها بيضاء وناعمة وكأن أحداً قد خاطها بإحكام على جسدها. عندما كانت في أوقات كثيرة تكشف عن ساقيها أسفل ركبتيها حتَّى تتمكن من حكهما، كنت أسترق نظرات سريعة لأرى كيف تتلألآن. كانت طويلة القامة، ولأن جسدها ممتلئ باللحم، كانت تبدو ضخمة الجثة. ولكن جسدها مسكوب بشكل مثالي ومتناسق بشكل جميل. كانت يداها كبيرتين بيضاوين وناعمتين، كما أن خصرها متناسق. حسن وكما كنت أقول، اعتادت "رابو" أن تجلس إلى جانبها، تهرش لـها ظهرها. كانت تجلس لساعات طويلة تفعل ذلك، وكأن هرش الظهر إحدى ضرورات الحياة الأساسية، أو حتَّى ربَّما أكثر من ذلك.




عصمت شوغتاي: 

ولدت عصمت شوغتاي (1915 ـ 1992) في مدينة بادايون، مدينة صغيرة في باكستان وترعرعت في جودهبور وأغرا. ثمَّ انتسبت إلى جامعة أليجار الإسلامية لإتمام دراستها العليا. بعد ذلك استقالت من عملها كمفتشة للمدارس لتتفرغ للكتابة بشكل كامل. كانت عضواً في مجموعة الكتاب التقدميين في الثلاثينات والأربعينيات. كتبت للمسرح وللشاشة ومثلت في كليهما. يعد تصويرها للشؤون الجنسية الأنثوية سابقاً لزمانها إلى حد كبير بصراحته.
من رواياتها المشهورة: العنيد، الشخص الفاسد، ومن القصص القصيرة: قل كلمة واحدة، واليدان.

Twitter Bird Gadget