شجرة الإجاص


ترجمها عن الفرنسية ابراهيم درغوثي/ تونس


تحول فلاح مع حمل من الإجاص لبيعه في السوق. وبما أن الإجاصات كانت لذيذة وذات نكهة طيبة فقد طلب الفلاح مقابلها ثمنا مرتفعاً.

في تلك الأثناء كان حكيماً طاوياً بطاقيته الممزقة وثوبه الرث يمر من هناك فطلب صدقة من الفلاح الذي صده عن ثماره ولم يلتفت لطلبه.
وألح الحكيم الطاوي في الطلب فغضب الفلاح وانهال عليه سباً وشتماً.
إلا أن الحكيم قال له: إجاصك كثير وأظن أنك لو أعطيتني واحدة فلن يجعلك ذلك فقيراً.

وألح عليه الحاضرون بأن يعطيه واحدة من الثمار المعطوبة ولكن الفلاح تمسك بالرفض القاطع، فما كان منهم إلا أن جمعوا ثمن الثمرة ودفعوه للفلاح مقابل الإجاصة وأعطوها للحكيم الطاوي الذي قال لهم: ترقبوا قليلاً، لا تذهبوا من هنا. فأنا لسست بخيلاً، سأجعلكم تأكلون من اجاصي. 
وانهمك في التهام الثمرة مع احتفاظه ببزرها في يده.
ثم أخرج من حزامه سكيناً حفر بها حفرة صغيرة في أرض السوق الممهدة زرع فيها بزر الإجاصة ثم غطاها بالتراب وطلب ماء، فسقاها.

فجأة، شقت نبتة صغيرة قلب الأرض وكبرت بسرعة عجيبة حتى صارت شجرة إجاص بديعة الجمال. ثم غطتها الأزهار والثمار الناضجة الشهية.

قطف الحكيم الطاوي الثمار واحدة واحدة وقدمها للحاضرين هدية
فأكلوها هنيئاً مريئاً حتى آخر حبة.
ثم بضربة واحدة من سكينه قطع الحكيم جذع الشجرة وحمله على كتفه وغادر المكان.

كان هذا المشهد قد حول إليه أنظار كل الحاضرين في السوق بما فيهم الفلاح الذي ترك حمل الإجاص وجاء يتابع المشهد العجيب.

عندما رجع إلى عربته الصغيرة لم يجد أثراً لإجاصاته، كما لاحظ أن خشبة جر العربة قد اختفت، ففهم أنه كان ضحية لسحر الحكيم الطاوي الذي انتقم منه فحوَّل خشب عربته إلى شجرة وزينها بإجاصاته ثم وزعها على الحاضرين وحمل مجر العربة معه وذهب في حال سبيله.
محمولاً على جناح الغضب، جرى الفلاح وراء الحكيم الطاوي لمساءلته، إلا أنه وجد في ركن خلفي من أحد الأزقة مجر العربة بينما لم يجد للحكيم أثراً.
 
 قصة من الأدب الشعبي الصيني.


الإعدام شنقاً


قصة جورج اورويل 1931م

ترجمة: منى العبدلي


كان ذلك في بورما
[1]، صباحٌ مشبعٌ برائحة المطر، ضوء شحيح يشبه لون صفيحة المعدن الصفراء يتأرجح فوق الجدران العالية لساحة السجن. كنا ننتظر خارج زنزانات المحكومين، وهي صف من الحجرات بواجهة من القضبان الحديدية المُدبلة تشبه أقفاص الحيوانات الصغيرة، قياس كل واحدة عشرة اقدام في عشرة، فارغة تماماً من الداخل إلا من سرير خال ووعاء لشرب الماء. في بعضها رجال سمر صامتين جاثمين جهة القضبان الداخلية متدثرين بأغطيتهم وهم المحكومين الذين سيشنقون خلال أسبوع أو اسبوعين.



سجين هندوسي أُخرج من زنزانته، شديد الهُزال حليق الشعر بعينين دامعتين يشوبهما الغموض، له شارب كثيفٍ نامٍ، وبشكل مضحك، كان أكبر من حجم جسده، إلى حد ما كان يشبه شارب الشخصيات الكرتونية التي تظهر في الأفلام.
ستة جنود هنود طوال القامة يحرسونه ويقومون بتحضيره لحبل المشنقة، إثنان منهم وقفوا مستعدين ببنادق ذات حرابٍ مثبتة، بينما الآخرون يقيدونه ويمررون سلسلة من خلال قيده مثبتتة في أحزمتهم ويشدون يديه بقوة إلى جانبيه. كانوا يحاصرونه تماما واضعين أيديهم عليه بحرص وبقبضة حانية كما لو أنهم جميعهم يتحسسونه ليتأكدوا بأنه موجود.
كان الأمر أشبه برجال يمسكون بسمكة ما تزال حية وربما تقفز إلى الماء مرة أخرى. لكنه بقي هادئاً لا يقاوم مستسلماً بيديه للقيود كما لو انه وبصعوبة كان يدرك ما يجري حوله.

دق جرس الساعة الثامنة موحشاً رقيقاً نافذاً عبر الهواء الرطب قادماً من جهة الثكنات البعيدة. مراقب السجن، الذي كان يقف بعيداً عنا، بمزاجية، كان يحث الحصى بعصاه رفع رأسه على إثر الصوت، كان طبيباً في الجيش بشاربٍ كفرشاة الأسنان رمادي اللون وبصوت أجش صرخ
" بحق الله أسرِع يا فرانسيس من المفترض أن يكون الرجل ميتاً في هذا الوقت... الست مستعدا بعد؟".
فرانسيس رئيس السجن، سمين درافيدي
[2] ببدلة قطنية بيضاء ونظارة ذهبية، لوَّح بيده السوداء مزبداً "نعم سيدي... نعم سيدي... كل شئ جاهز تماماً والجلاد ينتظر، يجب أن نبدأ".
"حسناً... أسرِع إذن فالسجناء لن يستطيعوا تناول إفطارهم حتى تنتهي هذه المهمة".

وقفنا خارجاً لنشهد عملية الإعدام، سار حارسان على جانبي السجين ببندقيتين مائلتين جانباً، وإثنان سارا قريباً جداً منه يشدانه من كتفه ويده، كما لو أنهم يدفعونه ويسندونه في نفس الوقت. أما البقية، كالقضاة وما شابه فقد ساروا في الخلف.

فجأة!... أمر رهيب قد حدث، حين قطعنا عشرة ياردات، توقف الحشد دون أمر أو سابق إنذار!... جاء كلب- الله وحدة يعلم من أين أتى- ظهر يتنطط في الساحة بوابل من النباح الصاخب ويقفز من حولنا هازاً جسمه كله بوحشية مغتبطة لإيجاده هذا الجمع من الناس. كان كلباً ضخماً كثير الصوف هجيناً ما بين (آيردلي) و(برايا)
[3]. (للحظة كان يثب من حولنا ثم وقبل أن يتمكن أحد من إيقافه أندفع نحو السجين يقفز محاولاً لعق وجهه.
تسمرنا جميعاً مشدوهين دون أن نبعد الكلب عن السجين أو حتى الإمساك به.
"من أتى بهذا الوحش اللعين هنا؟؟" قالها رقيب السجن غاضباً... "ليمسكه أحدكم!"
وثب حارس منفصل عن الموكب على الكلب بشكل أخرق، لكنه قفز من بين يديه بعيداً وكأنه يلاعبه. التقط سجان آيروسي
[4] شاب قبضة من الحصى محاولاً رمي الكلب بها لطرده بعيداً، لكنه تفاداها وعاد إلينا مرة أخرى وصدى نباحه يتردد بين جدران السجن.
نظر السجين من بين يدي حارسيه إلى المشهد بلا مبالاة وكأن الأمر شكل آخر من عملية إعدامه. مرت بضع دقائق قبل أن يتمكن أحدهم من الإمساك به، ثم قمنا بلف قطعة من القماش خلال طوقه وتابعنا سيرنا مجدداً، والكلب ما زال يقاوم ويئن.

أربعين ياردة تفصلنا عن مكان المشنقة، راقبتُ ظهر السجين الأسمر العاري أمامي مباشرة كان يسير بمشقة بيديه المقيدتين، لكن بثبات أكثر من مشية الهندي المضطربة الذي يسير وركبتاه غير مستقيمتان، كان السجين في كل خطوة يضع قدمه في موضعها الصحيح وخصلة شعره كانت تتراقص إلى أعلى وأسفل، فيما قدماه كانتا تطبعان نفسهما على الحصى الرطب، وبسرعة ونكاية في الرجال القابضين عليه من كل جانب تنحى جانباً بخفة ليتجنب بقعة الماء التي في الطريق.
إنه الفضول ولكن حتى هذه اللحظة لم أدرك ما يعنية أن تدمر رجلاً راشداً معافاً.
حين رأيتُ الرجل يخطو جانباً ليتفادى بقعة الماء أنجلى لي الغموض وتبين لي الخطأ الذي لا يوصف في إنهاء حياة، بينما هي قوية وفي أوجها. هذا الرجل لم يكن يحتضر، كان حياً تماماً مثلما نحن أحياء. كل أعضاء جسده كانت تعمل، احشاءه تهضم الطعام، بشرته تجدد نفسها، أظفاره تنمو، انسجته تتشكل، كل شيء يُنجز بحماقة مهيبة، أظفاره كانت ستستمر في النمو حين يُشنق، وحين كان يسقط في الهواء في عشر ثوان من الحياة. عيناه رأتا الحصى الأصفر والجدران الرمادية، وعقله كان يتذكر- يدرك- يعقل... يعقل حتى بشأن بقعة الماء.
هو ونحن كنا جماعة من الرجال نسير سوياً، نرى- نسمع- نشعر- نفهم العالم نفسه.
ثم وفي دقيقتين وفي لقطة مفاجئة واحد منا سيكون قد ذهب، عقل يغيب، عالم ينقص.

تنتصب المشنقة في أرض صغيرة مفصولة عن ساحة السجن الرئيسية، مكسوة بأعشاب طويلة شائكة، كانت بناء من الآجر مثل سقيفة بثلاث جوانب، بألواح خشبية في قمتها. ومن الأعلى دعامتان ولوح مستعرض بحبل متدلي.
كان الجلاد ينتظر بجانب آلته وهو سجين بشعر أشيب يرتدي لباس السجن الأبيض، حيانا ببضع انحناءات متذللة حين دخلنا، وبكلمة من فرانسيس جذب الحارسان السجين بقوة أكثر من ذي قبل ودفعاه إلى المشنقة وساعداه ليصعد السلم. ثم صعد الجلاد وربط الحبل حول عنق السجين.

وقفنا منتظرين، نبعد خمس ياردات عنه، وقد تشكل الحراس في دائرة محكمة حول المشنقة، ثم وحين احكمت العروة حول عنقه بدأ السجين يهتف بصلواته إلى ربه وكان دعاءً عالياً مردداً "رام! رام! رام! رام!" لم يكن لجوجاً ولا هلعاً أو طالباً للنجاة، بل ثابتاً وعلى وتيرة واحدة، مثل أجراسٍ تُقرع. والكلب يتجاوب معه بنباح حزين، والجلاد ما يزال واقفاً على منصة المشنقة، يجهز كيساً من القطن مثل كيس الطحين، ليسربله على وجه السجين. لكن الصوت المكتوم بقطعة القماش تلك بقي مستمراً مرة بعد مرة "رام! رام! رام! رام! رام!"
[5]
نزل الجلاد ووقف مستعداً ممسكاً الرافعة. مرت لحظات والدعاء الثابت والمكتوم الصادر من السجين ما زال مصِّراً "رام! رام! رام!". 
لم يتداع للحظة.
كان المراقب مطرقاً رأسه يحث الأرض بعصاه، ربما كان يعّد الصلوات، مانحاً السجين رقماً ثابتاً منها، خمسين ربما أو مئة. الجميع امتقعت الوانهم. الهنود استحالوا للون رمادي أشبه بقهوة رديئة وواحد أو اثنين من الحراس حاملي الحراب كانو يتمايلون. نظرنا إلى الرجل المحكوم والمكمم على المنصة منصتين لصلواته، كل صلاة كانت لحظة أخرى من لحظات الحياة دارت نفس الخاطرة في فكرنا جميعاً.
"ياااااه... اقتلوه سريعاً... لينتهي الأمر... أوقفوا ذلك الصوت البغيض!!".

فجأة اتخذ المراقب قراره رافعاً رأسه عالياً، ثم صنع حركة سريعة بعصاه صائحاً... تشاااااالو!"
كان هناك صوت خشخشة ثم لحظة صامتة، أنقضى أمر السجين والحبل كان يلتف على نفسه. أنطلق الكلب وعدا بسرعة إلى خلف المشنقة، ولكن حين وصل هناك توقف لبرهه عوى ثم تراجع الى زاوية من الأرض، وقف بين الحشائش ناظراً إلينا بتهيب.
ذهبنا حول المشنقة لنعاين جثة السجين، كان يتدلى وأصابع قدميه متصلبة إلى الأسفل، يدور ببطء هامداً كالصخرة.
وصل المراقب وتفحص بعصاه الجسد العاري, الذي انقلب بخفة، "إنه على ما يرام"... قالها ثم نهض من تحت منصة المشنقة متنفساً الصعداء، وقد اختفت النظرة المزاجية من وجهه فجأة. نظر إلى ساعة معصمة "الثامنة وعشر دقائق، حسناً، هذا كل شئ لهذا الصباح، حمداً لله".

فك الحراس الحراب وانطلقوا بعيداً، وتسلل خلفهم الكلب برزانة، شاعراً بسوء تصرفه.
مضينا مبتعدين عن مكان المشنقة، مارين بالزنزانات ورجالها المنتظرين، داخل الساحة الرئيسية الكبيرة للسجن. كان السجناء، وتحت حراسة الجنود المسلحين، قد بدأو في الحصول على إفطارهم. تراصوا في صفوف طويلة، كل رجل كان يحمل قدراً معدنياً صغيراً، فيما كان جنديان يغرفان لهم أرزاً. بدت لحظة حميمية أليفة بعد عملية الإعدام، إحساس بالارتياح بدا علينا بعد أن انجزت المهمة، شعور بالرغبة في الغناء، في الركض وإطلاق الضحكات المكبوتة، جميعنا دفعة واحدة أخذنا نتحدث مبتهجين.
الشاب الآيروسي سائراً بجانبي أومأ ناحية المكان الذي جئنا منه بابتسامة العارف قائلاً: أتعلم يا سيدي... صديقنا (قاصداً الرجل الميت) حين سمع بأن إستئنافه قد رُفض، بال على أرضية زنزانته من الخوف.
لطفاً سيدي خذ واحدة من سجائري، الا تعجبك علبتي الفضية الجديدة سيدي؟ اشتريتها من بائع متجول بروبيتين وثمان آنات، طراز أوروبي أنيق.

ضحك البعض، على ماذا؟... لا أحد يبدو مهتماً.
كان فرانسيس يسير جانب المراقب مثرثراً، "حسناً سيدي مرَّ كل شيء على نحو مُرضٍ، انتهى كل شئ بنقرة إصبع!"... هكذا (وأصدر صوتاً بإصبعه)، "لكن ليس في كل الأحوال، رأيتُ حالات كان الطبيب يُجبر على شد قدمي السجين ليتأكد من موته عمل غاية في البشاعة".
التفت المراقب ناحيته وعلق: اوه عمل سيء فعلاً. آخ... يا سيدي أنه أسوأ حين يعاندون! أذكر رجلاً كان يتشبث بقضبان زنزانته حين حاولنا إخراجه لتنفيذ الحكم، واحتاج الأمر منا إلى ستة حراس لإزاحته، كل ثلاثة كانوا يسحبون ساقاً، محاولين إقناعه قائلين له: يا صديقنا العزيز... فكر في كل المشاكل التي تسببها لنا! لكنه لم يكن يصغي ،آخ... كان مثيراً للمشاكل بحق!
وجدت أنني اضحك بصوت مرتفع قليلاً، الجميع كان يضحك، حتى المراقب ابتسم بطريقة متسامحة، "من الأفضل أن تخرجوا جميعاً لتناول بعض الشراب" قال بلطف: لدي زجاجة ويسكي في السيارة، يمكننا أن نشربها.

عبرنا إلى الطريق من خلال بوابات السجن الكبيرة، وفجأة صرخ قاض بورمي "يسحبونه بساقيه!" وأطلق ضحكة عالية. بدأنا جميعنا نضحك بصوت مرتفع مرة أخرى، في تلك اللحظة بدت حكاية فرانسيس مضحكة على غير العادة. شربنا جميعاً أوروبيين أو السكان الأصليين على السواء، وبمحبة وألفة. والرجل الميت يبعد عنا مئة ياردة.

الهوامش:
[1] بورما : هي مينامار حالياً.
[2] درافيد:عرق من الاعراق الهندية تصل نسبتها الى 25% من السكان.
[3] آيردلي: نوع من الكلاب الانجليزية، والبرايا نوع من الكلاب الهندية.
[4] آيروسي: أوروبي آسيوي.

[5]رام: هو آلهة هندوسية مقدسة.

جورج أورويل:

كاتب وروائي بريطاني (25 يونيو 1903 - 1 يناير 1950). اسمه الحقيقي آرثر بلير، أما جورج أورويل فهو الاسم المستعار الذي اشتهر به. ولد في قرية مونتاري بولاية البنجاب الهندية، في أسرة متوسطة الحال.



أشهر رواياته:

  • 1984.
  • مزرعة الحيوانات.
  • الشنق.
  • الأيام البورمية.



 

Twitter Bird Gadget