ﻭﺳﺎﻡ ﻟﻠﺤﻤﺎﺭ


ﺟﺎﺀﺕ ﺑﻘﺮﺓ إلى ﺑﺎﺏ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺭﺍﻛﻀﺔ، ﻭﻗﺎﻟﺖ ﻟﺮﺋﻴﺲ ﺍﻟﺒﻮﺍﺑﻴﻦ: ﺃﺧﺒﺮﻭﺍ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺑﺄﻥ ﺑﻘﺮﺓ ﺗﺮﻳﺪ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻪ.ﺃﺭﺍﺩﻭﺍ ﺻﺮﻓﻬﺎ، ﻓﺒﺪﺃﺕ ﺗﺨﻮﺭ: ﻻ ﺃﺧﻄﻮ ﺧﻄﻮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺃﻭﺍﺟﻪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ.

ﺃﺭﺳﻞ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﺒﻮﺍﺑﻴﻦ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ: ﻣﻮﻻﻧﺎ... ﺑﻘﺮﺓ ﻣﻦ ﺭﻋﻴﺘﻜﻢ ﺗﺴﺄﻝ ﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺃﻣﺎﻣﻜﻢ.
ﺃﺟﺎﺏ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ﻟﺘﺄﺕِ ﻟﻨﺮﻯ ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎﻝ ﻫﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ.
ﻗﺎﻟﺖ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ: ﻣﻮﻻﻱ، ﺳﻤﻌﺖ ﺑﺄﻧﻚ ﺗﻮﺯﻉ ﺃﻭﺳﻤﺔ، ﺃﺭﻳﺪ ﻭﺳﺎﻣﺎً.
ﻓﺼﺮﺥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ﺑﺄﻱ ﺣﻖ؟ ﻭﻣﺎﺫﺍ ﻗﺪﻣﺖ؟ ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻚ ﻟﻠﻮﻃﻦ ﺣﺘﻰ ﻧﻌﻄﻴﻚ ﻭﺳﺎﻣﺎً؟
ﻗﺎﻟﺖ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ: ﺇﺫﺍ ﻟﻢ ﺃﻋﻂ ﺃﻧﺎ ﻭﺳﺎﻣﺎً ﻓﻤﻦ ﻳﻌﻄﻰ!؟
ﺗﺄﻛﻠﻮﻥ ﻟﺤﻤﻲ، ﻭﺗﺸﺮﺑﻮﻥ ﺣﻠﻴﺒﻲ، ﻭﺗﻠﺒﺴﻮﻥ ﺟﻠﺪﻱ، ﺣﺘﻰ ﺭﻭﺛﻲ ﻻ ﺗﺘﺮﻛﻮﻧﻪ، ﺑﻞ ﺗﺴﺘﻌﻤﻠﻮﻧﻪ، ﻓﻤﻦ ﺃﺟﻞ ﻭﺳﺎﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻨﻚ ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻠﻲّ ﺃﻥ ﺃﻋﻤﻞ ﺃﻳﻀﺎً؟!

ﻭﺟﺪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﻃﻠﺐ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ، ﻓﺄﻋﻄﺎﻫﺎ ﻭﺳﺎﻣﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ.
ﻋﻠﻘﺖ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ ﺍﻟﻮﺳﺎﻡ ﻓﻲ ﺭﻗﺒﺘﻬﺎ. ﻭ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﺎﺋﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺼﺮ، ﺗﺮﻗﺺ ﻓﺮﺣﺎً ﺍﻟﺘﻘﺖ ﺍﻟﺒﻐﻞ، ﻭﺩﺍﺭ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ:
- ﻣﺮﺣﺒﺎً ﻳﺎ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ.
- ﻣﺮﺣﺒﺎ ﻳﺎ ﺃﺧﻲ ﺍﻟﺒﻐﻞ.
- ﻣﺎ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ الانشراح؟ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺃﻧﺖ ﻗﺎﺩﻣﺔ؟

ﺷﺮﺣﺖ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎﻟﺖ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﺧﺬﺕ ﻭﺳﺎﻣﺎُ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﻫﺎﺝ ﺍﻟﺒﻐﻞ، ﻭﺑﻬﻴﺎﺟﻪ ﻭﺑﻨﻌﺎﻟﻪ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ، ﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ.
ﻭﺃﺧﺬ ﻳﺼﺮُﺥ ﻋﻨﺪ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺼﺮ: ﺳﺄﻭﺍﺟﻪ ﻣﻮﻻﻧﺎ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ.
الحراس: ﻣﻤﻨﻮﻉ.
ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻭﺑﻌﻨﺎﺩﻩ ﺍﻟﻤﻮﺭﻭﺙ ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﺣﺮﻥ ﻭقعد ﻋﻠﻰ ﻗﺎﺋﻤﻴﻪ ﺍﻟﺨﻠﻔﻴﻴﻦ، ﺃﺑﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺟﻊ ﻋﻦ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺼﺮ.
ﻧﻘﻠﻮﺍ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ .
ﻓﻘﺎﻝ: ﺍﻟﺒﻐﻞ ﺃﻳﻀﺎً ﻣﻦ ﺭﻋﻴﺘﻲ، ﻓﻠﻴﺄﺕِ ﻭﻧﺮﻯ؟

ﻣَﺜُﻞ ﺍﻟﺒﻐﻞ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﺃﻟﻘﻰ ﺳﻼﻣﺎً ﺑﻐﻠﻴﺎً، ﻗﺒّﻞ ﺍﻟﻴﺪ ﻭﺍﻟﺜﻮﺏ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ ﻭﺳﺎﻣﺎً.
فسأله السلطان: ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺪﻣﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﻭﺳﺎﻡ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺒﻐﻞ: ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻱ، ﻭﻣﻦ ﻗﺪﻡ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻗﺪﻣﺖ؟!!! ﺃﻟﺴﺖ ﻣﻦ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﺪﺍﻓﻌﻜﻢ ﻭﺑﻨﺎﺩﻗﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮﻩ ﺃﻳﺎﻡ ﺍﻟﺤﺮﺏ؟ ﺃﻟﺴﺖ ﻣﻦ ﻳﺮﻛﺐ ﺃﻃﻔﺎﻟﻜﻢ ﻭﻋﻴﺎﻟﻜﻢ ﻇﻬﺮﻩ ﺃﻳﺎﻡ ﺍﻟﺴﻠﻢ؟ ﻟﻮﻻﻱ ﻣﺎ ﺍﺳﺘﻄﻌﺘﻢ ﻓﻌﻞ ﺷﻲﺀ.

ﻓﺄﺻﺪﺭ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻗﺮﺍﺭﺍً، ﺇﺫ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺒﻐﻞ ﻋﻠﻰ ﺣﻖ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ﺃﻋﻄﻮﺍ ﻣﻮﺍﻃﻨﻲ ﺍﻟﺒﻐﻞ ﻭﺳﺎﻣﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ.

ﻭ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﻐﻞ ﻋﺎﺋﺪﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﺑﻨﻌﺎﻟﻪ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻓﺮﺡ ﻗﺼﻮﻯ، ﺍﻟﺘﻘﻰ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﺭ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ: ﻣﺮﺣﺒﺎً ﻳﺎ ﺍﺑﻦ ﺍﻷﺥ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺒﻐﻞ: ﻣﺮﺣﺒﺎً ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻌﻢ، ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺃﻧﺖ ﻗﺎﺩﻡ ﻭﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﺃﻧﺖ ﺫﺍﻫﺐ؟
حكى له البغل حكايته. ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ: ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻷﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﺳﺄﺫﻫﺐ ﺃﻧﺎ ﺃﻳﻀﺎً ﺇﻟﻰ ﺳﻠﻄﺎﻧﻨﺎ ﻭﺁﺧﺬ ﻭﺳﺎﻣﺎً.
ﻭﺭﻛﺾ ﺑﻨﻌﺎﻟﻪ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺼﺮ.

ﺻﺎﺡ ﺣﺮﺍﺱ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﻓﻴﻪ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﺍ ﺻﺪﻩ ﺑأي ﺸﻜﻞ ﻣﻦ ﺍﻷﺷﻜﺎﻝ، ﻓﺬﻫﺒﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ: ﻣﻮﺍﻃﻨﻜﻢ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﻳﺮﻳﺪ ﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺑﻴﻦ ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ.
ﻫﻼ ﺗﻔﻀﻠﺘﻢ ﺑﻘﺒﻮﻟﻪ ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ؟
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ﻣﺎﺫﺍ ﺗﺮﻳﺪ ﻳﺎ ﻣﻮﺍﻃﻨﻨﺎ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ؟
ﻓﺄﺧﺒﺮ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺭﻏﺒﺘﻪ.
ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻭﻗﺪ ﻭﺻﻠﺖ ﺭﻭﺣﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻔﻪ: ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ ﺗﻨﻔﻊ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﻭﺍﻟﺮﻋﻴﺔ ﺑﻠﺤﻤﻬﺎ ﻭﺣﻠﻴﺒﻬﺎ ﻭﺟﻠﺪﻫﺎ ﻭﺭﻭﺛﻬﺎ، ﻭﺇﺫﺍ ﻗﻠﺖ ﺍﻟﺒﻐﻞ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﺍﻷﺣﻤﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻭﺍﻟﺴﻠﻢ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﻔﻊ ﻭﻃﻨﻪ. ﻣﺎﺫﺍ ﻗﺪﻣﺖ ﺃﻧﺖ ﺣﺘﻰ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺤﻤﺮﻧﺘﻚ ﻭﺗﻤﺜﻞ ﺃﻣﺎﻣﻲ ﺩﻭﻥ ﺣﻴﺎﺀ ﻭﺗﻄﻠﺐ ﻭﺳﺎﻣﺎً؟ ﻣﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻠﻂ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺨﻠﻄﻪ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﻭﻫﻮ ﻳﺘﺼﺪﺭ ﻣﺴﺮﻭﺭاً: ﺭﺣﻤﺎﻙ ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻱ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﺇﻥ ﺃﻋﻈﻢ ﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﻘﺪﻡ ﺇﻟﻴﻜﻢ ﻣﻦ ﻣﺴﺘﺸﺎﺭﻳﻜﻢ ﺍﻟﺤﻤﻴﺮ.
ﻓﻠﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ الآلاف ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻤﻴﺮ ﻣﺜﻠﻲ ﻓﻲ ﻣﻜﺘﺒﻜﻢ، ﺃﻓﻜﻨﺘﻢ ﺗﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺍﻟﺠﻠﻮﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺮﺵ؟! ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻄﺘﻜﻢ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻟﻮﻻ ﺍﻟﺤﻤﻴﺮ؟! ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺭﻋﻴﺘﻜﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻤﻴﺮ، ﻟﻤﺎ ﺑﻘﻴﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻳﻮﻡ ﻭﺍﺣﺪ.

ﻋﻨﺪﻫﺎ ﺃﻳﻘﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻤﺎﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻋﻠﻰ ﺣﻖ، ﻭﻟﻦ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻭﺳﺎﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻨﻚ ﻛﻐﻴﺮﻩ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻧﻔﺘﺢ ﻟﻪ ﺧﺰﺍﺋﻦ ﺍلإﺳﻄﺒﻞ، ﻟﻴﻐﺮﻑ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻐﺮﻑ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻤﻴﺮ!!!


 

 

ﻋﺰﻳﺰ ﻧﻴﺴﻴﻦ 1915-1995

اسمه الحقيقي محمد نصرت نيسين. ولد في

جزيرة قرب اسطنبول. واستخدم اسم عزيز

نيسن الذي عرف به فيما بعد كاسم مستعار

للحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في

تركيا، ورغم ذلك فقد دخل السجون مرات

عديدة.
 

يعتبر عزيز نيسن واحداً من أفضل كتاب الكوميديا السوداء في

العالم أو ما تسمى بالقصص المضحكة المبكية، والمضحك

المبكي في حياته أنه وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم

كمبدع فذ إلا أن بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل.

توفي عزيز نيسن في تموز عام 1995


 

من أعماله:

* لا تنسى تكة السروال


* خصيصياً للحمير


* أسفل السافلين


* الطريق الطويل


* الفهلوي (زوبك)


* مجنون على السطح




مسرحيات:

* إفعل شيئاً يا مت


* وحش طوروس


* ثلاث مسرحيات أراجوزية


* هل تأتون قليلاً


* امسك يدي يا روفني

 

* هيا اقتلني يا روحب


* حرب المصفرين وماسحي الجوخ


* جيجيو


* خمس مسرحيات قصيرة






 

 

الألم


عُرف غريغوري بتروف ولسنوات طويلة ببراعته الفائقة في حرفة الخراطة، لكنه في نفس الوقت كان الأكثر حمقاً وسذاجة في إقليم (غالتشينيسكوي)، فلكي ينقل زوجته المريضة إلى المستشفى، كان عليه أن يقود الزلاجة لمسافة عشرين ميل في جو شتائي عاصف، عبر طريق شديدة الوعورة. 

ولم تكن تلك بالمهمة اليسيرة حتى بالنسبة لسائق البريد الحكومي. كانت الرياح القارصة تضرب في وجهه مباشرة، وسحب الثلج تلتف في دوامات حوله في كل اتجاه، حتى أن المرء لا يدري إن كان هذا الثلج يتساقط من السماء أم يتصاعد من الأرض، بينما الرؤية معدومة تماماً لكثافة الضباب الثلجي، فلم يكن يرى شيئاً من الحقول والغابات وأعمدة التلغراف. وعندما كانت تضربه ريح قوية مفاجئة، كان يصاب بالعمى التام، فلا يعود يبصر حتى لجام الحصان، ذلك الحيوان البائس الذي كان يزحف ببطء وهو يجر قدميه في الثلج بوهن شديد. وكان الخراط قلقاً متوتراً ومتعجلاً لا يكاد يستقر في مقعده وهو يسوط ظهر الحصان.

كان غريغوري يغمغم طول الوقت متحدثاً إلى زوجته:
- لا تبكي يا ماتريونا. قليل من الصبر يا عزيزتي. سنصل المستشفى وعندها كل شيء سوف يكون على ما يرام... سيعطيك بافل ايفانيتش بضع قطرات، أو سأطلب منه أن يعمل لك الحجامة، أو ربما يتكرم ويرضى أن يدلك جسدك بالكحول. سيبذل كل ما في وسعه دون شك. نعم سيصرخ وينفعل لكنه في النهاية يبذل جهده. إنه رجل مهذب ولطيف. فليعطه الله الصحة. حالما نصل هناك ويرانا سيندفع من غرفته كالسهم ويبدأ بإطلاق السباب والشتائم. وسوف يصرخ ("كيف؟ لماذا هكذا؟ لماذا لم تأتوا في الوقت المناسب؟ أنا لست كلباً كي أبقى عالقاً هنا في انتظار حضراتكم طوال اليوم. لماذا لم تأتوا في الصباح؟ هيا اخرجوا، لا لن أستقبلكم. تعالوا غداً).
فأرد عليه قائلاً "يا حضرة الطبيب المبجل بافل إيفانيتش، نعم يمكنك أن تسب وتلعن وتشتم... وليأخذك الطاعون...أيها الشيطان....".

ساط الخراط ظهر الحصان، ومن دون أن ينظر إلى المرأة العجوز الراقدة في العربة خلفه واصل حديثه مع نفسه "يا حضرة الطبيب المبجل، أقسم بالله، ولن أقول إلا الصدق، وها هو الصليب أرسمه على صدري أمامك بأنني انطلقت قبل طلوع الفجر، ولكن كيف يمكنني أن أكون عندك في الوقت المناسب وقد أرسل الرب هذه العاصفة الثلجية؟ تلطف وانظر بنفسك..إن أفضل الجياد لن تتمكن من السير في هكذا جو، وحصاني هذا الكائن البائس التعيس كما ترى بنفسك ليس حصاناً على الإطلاق. عندها سيقطب بافل ايفانيتش حاجبيه ويصرخ (نحن نعرفكم، أنتم دائماً بارعون في اختلاق الأعذار، وعلى الأخص أنت يا غريشكا. فأنا أعرفك حق المعرفة، وأقسم بأنك توقفت في نصف دزينة من الحانات قبل أن تأتي عندي). لكني سأقول له: أيها المحترم، هل أنا كافر أم مجرم حتى أتنقل بين الحانات بينما زوجتي المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ لعنة الله على الحانات وأصحابها وليأخذهم الطاعون جميعاً. سيأمر بافل ايفانيتش عندها بنقلك إلى داخل المستشفى، فاركع عند قدميه. بافل ايفانيتش، أيها المحترم، نشكرك من صميم قلوبنا، وأرجو أن تسامحنا على حماقاتنا وسلوكنا الأرعن، وألا تكون قاسياً معنا نحن الفلاحون. نعم نحن نستحق منك لا الشتيمة فحسب بل حتى الرفس، وقد كنا سبباً في خروجك وتلويث قدميك في الثلج. سينظر بافل ايفانيتش نحوي كأنه يريد أن يضربني وسيقول (ألا يجدر بك أيها الأحمق أن تشفق على هذه المسكينة وترعاها بدلا من أن تسكر وتأتي لتركع عند قدمي؟ والله أنت تستحق الجلد). نعم، نعم... أنت على حق في ذلك. أنا أستحق الجلد يا بافل ايفانيتش، فلتصب السماء لعناتها على رأسي، ثم ما الضير لو ركعت عند قدميك، فأنت أبونا وولي نعمتنا، ويحق لك يا سيدي أن تبصق في وجهي لو بدر مني ما يضايقك، وأقسم بالله على ذلك. سأفعل كل ما تريده وتأمرني به... إذا استرجعت زوجتي العزيزة ماتريونا صحتها. وإذا أردتَ أصنع لك علبة سجائر فاخرة من أفضل أنواع الخشب، كرتان للعبة الكروكيت، أو أروع قناني خشبية للعبة البولينج... ولن آخذ منك قرشاً واحداً. في موسكو تكلف علبة السجاير أربع روبلات، لكني سأصنعها لك دون مقابل. عندها سيضحك الطبيب ويقول (حسنا، حسنا... يبدو أنك سكران حتى الثمالة). كما ترين يا عزيزتي فأنا أعرف كيف أتعامل مع أبناء الطبقة العليا. ليس هنالك من سيد يستعصي عليّ. فقط أدعو من الله ألا أفقد الطريق. أنظري كم عنيفة هي الريح. لا أكاد أفتح عيني من شدة اندفاع الثلج".

ولم يتوقف الخراط عن حديثه المتواصل مع نفسه، في محاولة منه على ما يبدو للتخفيف من ضغط المشاعر الحادة عليه. كانت الكلمات كثيرة على لسانه، وكذلك الأفكار والأسئلة في رأسه. جاءه الحزن مفاجئاً، دون توقع أو انتظار، وعليه الآن أن يتخلص منه. لقد عاش حياته في سكينة وسلام دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى، وفجأة، دون سابق إنذار، جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبه، فوجد السكير المتسكع نفسه في موقع المسئول، مثقلاً بالهموم، ويصارع الطبيعة.

وراح غريغوري يتذكر كيف ابتدأت المشكلة ليلة أمس عندما عاد إلى البيت سكراناً بعض الشيء، وكالعادة انطلق يشتم ويهدد بقبضتيه، فنظرت إليه زوجته كما لم تنظر إليه من قبل.عادة ما تشف نظرات عينيها عن الذل والاستكانة الشبيهة بنظرات كلب أشبع ضرباً. لكنها هذه المرة نظرت إليه بتجهم وثبات، كما ينظر القديسون في الصور المقدسة أو كما ينظر الموتى. من نظرة الشر الغريبة تلك بدأت المشكلة. وفي حالة من الذهول والاستغراب استعار حصاناً من أحد الجيران كي ينقل زوجته العجوز إلى المستشفى لعله باستخدام المساحيق والمراهم، يستطيع بافل ايفانيتش أن يعيد التعبير الطبيعي لنظرة عينيها.


ويستمر الخراط في حديثه مع نفسه فيقول "حسناً، اسمعيني يا ماتريونا، لو سألك بافل ايفانيتش فيما إذا كنت قد ضربتك، يجب أن تنفي ذلك وسوف لن أضربك بعد اليوم، أقسم على ذلك. وهل ضربتك يوماً لأني أكرهك؟ لا، إطلاقاً. إنما دوماً أضربك وأنا فاقد الوعي. أنني حقاً أشعر بالأسف من أجلك. لا أظن أن الآخرين سيبالون مثلي، فها أنت ترين، إنني أفعل المستحيل في هذا الجو الثلجي العاصف كي أصل بك إلى المستشفى. فلتتحقق مشيئتك أيها الرب، وإن شاء الله لن نخرج عن الطريق. هل يؤلمك جنبك عزيزتي؟ ألهذا أنت لا تتكلمين؟ إني أسألك، هل يؤلمك جنبك؟"
لاحظ خلال نظرة خاطفة إلى العجوز بأن الثلج المتجمع على وجهها لا يذوب. والغريب أن الوجه نفسه بدا مسحوباً، شديد الشحوب، شمعياً، جهماً ورصيناً. صرخ قائلا: أنت حمقاء، حمقاء... أقول لك ما في ضميري أمام الله، لكنك مع ذلك تصرين على... حسناً، أنت حمقاء، وأنا قد أركب رأسي... ولا آخذك إلى بافل ايفانيتش.

أرخى اللجام بين يديه وبدأ يفكر. لم يكن في مقدوره أن يستدير تماماً لينظر إلى زوجته. كان خائفاً. وكان يخشى أيضاً أن يكرر أسئلته عليها دون أن يحصل على جواب. أخيراً، وليحسم الأمر، ومن دون أن يلتفت إليها رفع يده وتحسسها. كانت باردة، وعندما تركها سقطت كأنها قطعة خشب. ندت منه صرخة.
- إذن فهي ميتة، يا للمصيبة.

لم يكن آسفاً قدر انزعاجه. وفكر كيف أن الأشياء تمر سريعة في هذا العالم. لم تكن المشكلة قد ابتدأت وإذا بها تنتهي بكارثة. لم يسنح له الوقت كي يعيش معها ويكشف لها عن أسفه قبل موتها. عاش معها أربعين عاماً لكنها مرت في ضباب وعتمة مطبقة. لم يكن هنالك من مجال للأحاسيس الجميلة وسط السُكر والعربدة والشجار المتواصل والفقر المدقع. ولكي تغيظه فقد ماتت في اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالأسف عليها، وبأنه لا يستطيع العيش من دونها وأنه كان قاسياً معها وقد أساء لها كثيراً.
قال لنفسه متذكراً "كنت أبعثها كي تدور في القرية تستجدي الخبز. كان يمكن أن يطول العمر بها لعشر سنوات أخرى. المصيبة أنها ماتت وهي تعتقد بأني ذلك الإنسان... يا أمنا المقدسة. ولكن بحق الشيطان أين أنا ذاهب الآن؟ ما عاد بي حاجة إلى الطبيب، ما أحتاجه الآن قبراً كي أدفنها".

استدار بالزلاجة وهو يلهب ظهر الحصان بسوطه، وقد ازداد الجو سوءً حتى انعدمت الرؤية تماماً. ومن حين لآخر كانت تضرب وجهه ويديه أغصان الأشجار وتخطف من أمام عينيه أجسام سوداء.
"لو أعيش معها مرة أخرى".
وتذكر بأن ماتريونا قبل أربعين عاماً كانت مليحة الوجه مرحة الروح، وهي من عائلة ميسورة الحال، وقد رضي أهلها أن يزوجوها له بعدما شاهدوا وعرفوا مدى براعته في مهنة الخراطة. كانت كل الأسباب لحياة سعيدة متوفرة لهما، لكن المشكلة أنه في ليلة عرسه شرب حتى الثمالة ومن يومها وهو سكران طول الوقت ولم يستيقظ أبداً. نعم فهو يتذكر عرسه، ولكنه لا يتذكر شيئاً مما حدث بعد ذلك وطوال حياته، باستثناء أنه كان يسكر ويضطجع عند الموقد ويتشاجر. هكذا ضاعت منه أربعون سنة.

بدأت الغيوم الثلجية البيضاء تتحول تدريجياً إلى اللون الرمادي مما ينبئ عن قرب الغسق. عاد يسأل نفسه "إلى أين أنا ذاهب؟ مطلوب مني أن أفكر بدفن الجثة... بينما أنا الآن في طريقي إلى المستشفى... كأنني فقدت عقلي!".
واستدار بزلاجته ثانية. كان الحصان يشخر وراح يتعثر في خببه، فعاد الخراط يجلده من جديد. وكان يسمع صوت ارتطام خلفه، ومن دون أن يلتفت كان يعرف بأنه صادر عن رأس العجوز وهو يضرب بحافة المقعد.
ازداد الثلج عتمة، واشتدت برودة الريح.
"لو أعيش معها مرة أخرى، سأشتري مخرطة جديدة، وأشتغل... وأجلب لها الكثير من النقود".
أفلتت يداه اللجام. بحث عنه. حاول أن يلتقطه، فلم يستطع. قال لنفسه "لا يهم. يستطيع الحصان أن يتولى الأمر بنفسه، فهو يعرف الطريق. يمكنني أثناء ذلك أن أنام قليلاً قبل أن أتهيأ للجنازة وصلاة الميت".
أغلق الخراط عينيه وغاص في إغفاءة. بعدها بفترة قصيرة  شعر بأن الحصان قد توقف عن السير. فتح عينيه فرأى أمامه شيئاً معتماً يشبه كوخاً أو كومة من القش. أراد أن ينهض ليكتشف ذلك الشيء، لكنه أحس بأنه عاجز تماماً عن الحركة، ووجد نفسه دون ضجة أو مقاومة يستسلم لنوم هادئ عميق.


عندما استيقظ، وجد نفسه في غرفة فسيحة، مطلية الجدران، وضوء الشمس يتوهج عند الشبابيك. ورأى ناساً حوله، فكان شعوره الأول أن يعطي الانطباع بأنه سيد محترم ويعرف كيف يلتزم بالسلوك السليم الذي يفرضه الموقف. قال مخاطبا إياهم:
- الصلاة على روح زوجتي أيها الأخوة. لابد من إعلام القس بذلك...
قاطعه أحدهم بصوت حازم:
- حسناً، حسناً... ولكن لا تتحرك.
صرخ الخراط مندهشا وهو يرى الطبيب أمامه:
- بافل إيفانيتش! ولي نعمتنا المبجل.
أراد أن يقفز ليركع على ركبتيه أمام الطبيب، لكنه شعر بأن ساقيه وذراعيه لا تستجيب له. صاح مرعوباً:
- أين ساقيَّ ؟ وأين ذراعيَّ يا سيدي ؟
- قل لهما وداعاً. كانت متجمدة تماماً فاضطررنا إلى بترها. هيا...هيا...علام تبكي؟ لقد عشت حياتك، واشكر ربك على ذلك. أنت الآن في الستين على ما أعتقد، وأظن أن هذا يكفي بالنسبة لك.
- أنا حزين، حزين جداً...وأرجو أن تسامحني يا سيدي. كم أتمنى لو أعيش خمس أو ست سنوات أخرى.
- لماذا؟
- الحصان ليس لي، ويجب أن أعيده لأصحابه... ويجب أن أدفن زوجتي... أوه يا إلهي... كم تنتهي الأشياء بسرعة مذهلة في هذا العالم. سيدي... بافل ايفانيتش، سأصنع لك علبة سجائر من أجود أنواع الخشب، وكذلك كرات للكروكيت...

غادر الطبيب الجناح وهو يلوح بيده. كان كل شيء قد انتهى بالنسبة للخراط.


ترجمة: رافع الصفار

قصة للأديب الروسي: أنطون تشيخوف
أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860 - 1904)
طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. بدأ تشيخوف الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو ولم يترك الكتابة حتى أصبح من اعظم الادباء واستمر أيضاً في مهنة الطب وكان يقول " ان الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".


Twitter Bird Gadget