محاكمة روح

قبل ما يقارب الثمانية آلاف عام من يومنا هذا قامت قرب مدينة

اللاذقية السورية، مملكة تدعى اوغاريت تركت للبشرية إرثاً 

حضارياً رائعاً لا سيما في رأس شمرا أحد نواحيها. كانت دولة

صناعية زراعية، عريقة بتاريخها.

دامت قرابة خمسة آلاف سنة من سنة

 6000 حتى 1190 ق.م.

أخذ هذا النص عن واحدة من آثارها

 الموجودة في متحف اللوفر بباريس

 (قاعة اوغاريت)، وهو عبارة عن

 أسطورة تكشف عالماً من الطيبة. وهي

 محاكمة علنية للروح حسب معتقداتهم بعد

تأهيلها للعالم الآخر، في جلسة محاكمة علنية لروح أحد

المتوفين قبل أن تلتحم نفسه بجسده مرة أخرى ليعيش السعادة

والخلود في العالم الأبدي الجديد.

سأله قاضي محكمة الأرواح: أيها الروح هل كذبت؟
قال: نعم كذبت على زوجتي في مدح جمالها وجودة طهيها.
- هل عذّبت حيوانًا؟
- كلا..! عدا العصفور الذي أعجبني صوته فحبسته لمدة يومين ثم أطلقته.
- هل أسلت مرة دماء حيوان دون ذنب؟
- كثيراً يا سيدي... حين كنت أقدمه قرباناً للإله كي أطعم الفقراء.
- هل كنتَ سبباً في دموع إنسان؟
- نعم... أمي حين مرضتُ بين يديها!.
- هل لوّثت مياه النهر؟
- نعم حين سبحت فيه مرة وأنا في وقت عمل .
- هل قتلتَ نباتاً أو زهوراً؟
- نعم... حين اقتلعت زهرة لحبيبتي .
- هل سرقت ما ليس لك؟
- نعم... سرقت قلب وحب جيراني من غير ملّتي وديانتي.
- هل تعاليتَ على غيرك بسبب علوّ منصبك؟
- كنت أرى نفسي أضعف الخلق أمام عظمة الرب.
- هل ارتفع صوتُك أثناء حوار؟
- لم أكن أحاور سوى ربي باكياً هامساً .
- هل خاض لسانك في شهادة زور؟
- قلت زوراً حين سترت على جارة لي.
- هل قبلتّ رشوة ؟
- نعم، كثيراً جداً... قبلات من طفلتي لتلبية طلباتها.
- وماذا فعلت عملاً صالحاً أيضاً؟
- كنتُ مرة عيناً لأعمى، وأخرى يداً لمشلول، وساقاً لكسيح، أباً ليتيم. قلبي نقيّ، يداي طاهرتان، غنيت وضحكت وقهقهت ورقصت وعزفت على الناي في فرح جار لي من غير الأوغاريتيين.

- مبروك أيها الروح: لقد نجحت في المرحلة الأهم.
قال القاضي وهو يقفل المحضر تحت نظرات الاستغراب من الروح. - يا سيدي القاضي ألن تسألني عن إيماني، عبادتي، صلاتي، صيامي، نسكي؟
- لا أيها الروح الطاهرة... تلك قضية لا سلطة لأحد عليها، تلك يحددها الرب وحده فقط. يحددها الرب وحده.

نظرة


كان غريباً أن تسأل طفلة صغيرة مثلها، إنساناً كبيراً مثلي لا تعرفه- في بساطة وبراءة- أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقداً حقاً . ففوق رأسها تستقر "صينية بطاطس بالفرن" وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة. وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه ، حتى أصبح ما تحمله كله مهدداً بالسقوط ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل. وتلمست سبلاً كثيرة وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية. ثم أضبطهما معاً فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيراً في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريباً، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى رأسها وقد حجبه الحمل. كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة "ستّي" و لم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، و لا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش الذي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.

وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنتظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلاً حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء علي ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون .
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيراً، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، و ألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة .





يوسف إدريس علي (1927- 1991):
مفكر وأديب مصري كبير، قدم للأدب العربي عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وشعر ومسرحيات. ترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية منها 65 قصة ترجمت إلى الروسية. 
كتب عدة مقالات هامة فى الثمانينيات بجريدة الأهرام صدرت فى كتاب فقر الفكر وفكر القصة.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عام 1966. هو واحد من أشهر الأطباء الذين تركوا الطب ليمتهنوا الأدب. كان يتلمس الألغام الإجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها بقلمه وظل يتمتع بحيوية الرفض لكل ما يحد من حرية الإنسان في كل ما يكتب.
جدير بالذكر انّ الأقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسين كانت ما تزال في مراحلها وخطواتها الأولى، ثمّ جاء يوسف إدريس ورسّخها وثبّت أقدامها ونقلها من المحليّة إلى العالميّة.
إختار يوسف إدريس مواضيع مسحوبة من حياة الإنسان العربي المهمّش. إدريس خلق أقصوصة عربيّة، بلغة عربيّة مصرية قريبة من لغة الإنسان العادي وبذلك نقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي. وبالنسبة لشخصيات قصصه نلمس أنّه ثمّة نمطين من أنماط الشّخصيّة القصصيّة يركز إدريس عليهما وهما على النحو التالي:
1. شخصيّة المرأة باعتبار أنّ المرأة عنصراً مسحوقاً ومهمّشاً أكثر من غيره، فنذر حياته للدّفاع عنها وللكتابة من أجلها .
2. الشّخصيات الرّجوليّة وهي شخصيّات، بمعظم الحالات، من قاعدة الهرم، من الشريحة المظلومة في مصر. فشخصياته معظمها تمثيل للإنسان المصري الذي يعيش على هامش الحياة المصرية بكل مستوياتها .


أعماله:
مجموعات قصص قصيرة

- أرخص ليالي. وهي أوّل مجموعة قصصية.
- جمهورية فرحات.
- أليس كذلك.
- قاع المدينة.
- لغة الآي آي.
- بيت من لحم.
- آخر الدنيا.
- البطل.
- النداهة.
- أنا سلطان قانون الوجود.
- حادثة شرف.
- مشوار.
- أحمد المجلس البلدي. 
 
 
روايات

- العيب.
- الحرام.
- العسكري الأسود.
- البيضاء. 
- ملك القطن.
- المهزلة الأرضية.
- الجنس الثالث.
- الفرافير.
- المخططين.
- البهلوان.


Twitter Bird Gadget