الراهب وسيدة القصر قصة ل غي دو موباسان





قالت الجدة لأحفادها ذات مساء:
والآن هيا يا أعزائي وليذهبْ كل منكم إلى فراشه، فقد حانت ساعة نومكم.
ونهض الأطفال الثلاثة، الصبيُّ والبنتان، فأقبلوا على جدتهم يقبلونها، وعلى الراهب الذي اعتاد زيارة القصر مساء كل يوم خميس، يُودّعونه، فجذب الطفلتين إليه واحتواهما بساعديه وضمّهما إلى صدره، وطبع قُبلة حانية على رأسيهما وتركهما برفق، فغادرت المخلوقات الصغيرة الغرفة، الصبي في المقدمة وخلفه سارت الأختان! قالت الجدة للراهب:
إنك تُحب الأطفال أيها الأب!!
أجابها:
أحبهم جدًا يا سيدتي.
نظرت إليه قائلة:
أو لم تدرك أن من الصعب عليك أن تعيش وحيدًا؟
قال: بلى، أحيانًا!!
وأطرق صامتًا ثم قال بعد قليل:
ولكني لم أخلق للحياة التي اعتاد الناس أن يحيوها!
وهل تعرف عن هذه الحياة شيئًا؟!
نعم.. أعرف عنها الكثير.. ولكني اخترت المهنة التي لا أصلح لغيرها!
وراحت المرأة العجوز تواصل النظر إليه قائلة:
هيا وحدّثني عما تعرفه عنها.. أخبرني ما الذي جعلك تعزف عن
طيبات الحياة التي أوجدها الله لنا عزاء وسلوى؟! ما الذي دعاك إلى الرغبة عن الزواج والحياة العائلية؟! إنك لست متصوفًا أو متعصبًا، كما أنك لست بالمتزمت أو المتشائم.. أم تُرى أن حادثًا جللاً حل بساحتك جعلك تترهّب؟!
ونهض الرجل وتوجه إلى حيث النار المتوهجة في الموقد الكبير وقد بدت على وجهه علائم التردد والإحجام عن الجواب!
كان فارع القامة أشيب الشعر، وقد أثقلت السنون كاهله. لقد أمضى قرابة عشرين عامًا راهبًا وجارًا للعائلة.. عرفه أهل القرية بالطيبة والعطف ورقة الحس ودماثة الخلق ولطف المعشر، وكان مستعدًا لأن يضحك استعداده للبكاء مما أضر بمكانته قليلاً لدى بعض القرويين البسطاء!!
واستمرت سيدة القصر تحثه على الكلام قائلة:
لك أن تبوح بالسر الذي دفعك إلى الرهبنة.
قلتُ لك يا سيدتي إنني لم أُخلق للحياة التي اعتادها الناس، ولقد
أدركت هذا في الوقت المناسب، وكثيرًا ما كنت أجدُ الباعث الذي
يُبرهن لي صواب ما ذهبت إليه.
كان والداي اللذان هما في سعة من الرزق وبسطة في العيش
يعملان في التجارة منشغليْن بها ومنصرفين عني إليها، وفي الوقت نفسه ينظران إلى مستقبلي بتفاؤل وطموح، ولهذا فقد أرسلاني إلى مدرسة داخلية وأنا بعدُ صغير!! ليتهما أدركا مبلغ تعاسة الصغار وهم يجدون أنفسهم فجأة بعيدين عن بيوتهم وأترابهم ومراتع طفولتهم. إن الحياة الرتيبة التي يعيشونها وهم محرومون من العطف والحب قد تلائم البعض، ولكنها قد تصبح مدعاة للشقاء لدى البعض الآخر!! 


إن الطفل إنسان ذو حساسية مفرطة، فإن وجد نفسه بعيدًا
عمن يُحب فإن هذه الحساسية قد تدمر أعصابه الغضة، وقد تتفاقم إلى ما هو أسوأ لتتحول إلى حالة مرضية تلازمه طوال حياته!! لم اكن أشارك أقراني في ألعابهم،كما لم يكن لي صديق من بينهم، كنت وحيدًا أعاني مرارة الحنين إلى البيت طول الوقت، وحين آوي إلى فراشي ليلاً كنت أطلق لدموعي العنان فأظل أبكي حتى يغلبني النوم، وغالبًا ما كنت أحاول العودة بخيالي إلى بيتي وأحداث طفولتي أستعيد ذكرياتها الحلوة، حتى استحوذت هذه الذكريات على نفسي، ولم أعد أستطيع إزاحتها عن ذهني فانهارت أعصابي، وصرت أرى في أي مشكلة مهما كانت تافهة مصدرًا لتعاسة لا حد لها!! والنتيجة أنني صرت ضيق الصدر عصبي المزاج منطويًا على نفسي ومكبوت العواطف. إن أعصاب الصغار سريعة التأثر. لذا ينبغي
لنا أن نجنبهم أي تعكير لصفو حياتهم حتى يشتد عودهم. إن العقاب الذي يناله الصغير في المدرسة دون وجه حق، مثلاً، قد يسبب له من العذاب النفسي والعقلي ما يُسببه فقد عزيز عليه. إن أي سوء مهما صغر يلحق بالطفل قد يسبب لنفسه المرهفة وذهنه الغض اضطرابًا عاطفيًا قد ينتج عنه بعد فترة قصيرة داء عضال!!
هذا تمامًا ما كنت أعانيه وقتئذ. لم أخبر أحدًا بالأمر، ولم أبُح به
لإنسان، وشيئًا فشيئًا ازدادت حساسيتي وتفاقمت حالتي وصارت
نفسي مثل جرح غائر مفتوح!!
وهكذا حتى بلغت السادسة عشرة من عمري وأنا خجول خائف
أشعر بالضعف، وأتجنب الاختلاط، وأعزف عن كل ما يدعو للتفوق والتقدم، ولم أكن أجرؤ على الكلام أمام الآخرين أو القيام بأي عمل في حضورهم، وتملكتني فكرة غريبة هي أن الحياة عندي ليست سوى معركة مريرة وصراع رهيب أنا فيها الطرف المغلوب على أمره!
وأنهيت دراستي وحصلت على إجازة طويلة ليتسنى لي في أثنائها التفكير في اختيار المهنة التي تناسبني! وفجأة وقع لي حادث بسيط مكنني من فهم نفسيتي وكشف لي الحالة غير السوية التي أعانيها، فأدركت الخطر الذي ينتظرني وصممت على تفاديه.
إن المدينة التي نعيش فيها صغيرة تقع على سهل واسع تحف به
الأحراش من كل صوب، ويقع منزلنا في شارعها الرئيس، وكنت قد تعودتُ أن أقضي معظم وقتي متجولاً في أرجاء الريف الجميل الذي (من طول ابتعادي عنه) اشتقت إليه كثيرًا. أما أبي وأمي فلا يزالان منغمسيْن في عملهما، ولم ألمس منهما أي اهتمام بمشكلاتي وآلامي وآمالي!! صحيح أنهما يُحبانني ولكن بعقليهما لا بقلبيهما، شأنهما في ذلك شأن سائر الناس الواقعيين، فعشت حبيس أفكاري وأحلامي وأوهامي غير مستطيع تحرير نفسي من مخاوف القلق التي تساورني!

أما الحادث الذي وقع لي، والذي أشرت إليه آنفًا، فخلاصته أنني
حينما كنت عائدًا إلى بيتي ذات مساء، بعد جولة استغرقت النهار
كله، شاهدت كلبًا صغيرًا يجري متجهًا نحوي، وما إن اقترب مني حتى توقف ثم صار يدنو شيئًا فشيئًا حتى جثا على الأرض يهز ذيله ويُحرك رأسه وهو ينظر إليّ، وحاولت إغراءه على الاقتراب مني وعدم الخوف، ومددت يدي أمسح بها على رأسه وجسمه مُلاطفًا حتى تشجع وانتصب واقفًا واضعًا يديه على كلتا كتفيّ، وبدأ يداعب وجهي بأنفه ولسانه. وما إن واصلت سيري حتى وجدته يتبعني كظلي. لقد أحببته وأحبني!! قد يبدو ذلك أمرًا مضحكًا، غير أن إحساسًا عجيبًا كان يساورني هو أنني وهذا المخلوق سيان في الضعف والعذاب والوحدة، وصار يلازمني في جولاتي اليومية وينام ليلاً عند قدمي سريري ويتناول طعامه بصحبتي!!
وفي يوم من أيام الصيف وفيما كنت أتمشى بمحاذاة الطريق
الريفي، شاهدت عربة كبيرة تجرّها أربعة جياد وهي منطلقة بأقصى سرعتها والحوذي يلهب ظهورها بسياطه، وسحب الغبار ترتفع من تحت عجلاتها الثقيلة فتحملها الريح بعيدًا خلفها. ويبدو أن المركبة بضجيجها وعجيجها قد أفزعت الكلب الذي كان في الجانب الآخر من الطريق، فأقبل متجهًا ناحيتي، ولكنه مرّ من أمام العربة المسرعة فصدمته حوافر الجياد وقذفت به بعيدًا أمامها، وحاول أن ينهض قبل أن تصل إليه العربة ولكنه لم يستطع، بل وقع مرة ثانية وسط غابة من قوائم الخيل التي تقاذفته كالكرة ثم تركته يتلوى في التراب حتى لفظ أنفاسه.
كان لهذا الحادث أثر بالغ في نفسي حتى أنني لازمت غرفتي مدة
طويلة لا أبرحها، ولما رآني والدي على هذه الحال قال لي: ماذا
عساك أن تفعل لو نزلت بك مصيبة حقيقية في مستقبل حياتك كأن تفقد زوجة أو طفلاً؟!

وبدأت أدرك حقيقة نفسي، وتبين لي السبب الذي تبدو فيه متاعب الحياة اليومية كوارث لا تُطاق في نظري. لقد كنت راغبًا عن كل ما يساور الناس الأسوياء من رغائب جسدية طبيعية، كما كنت بلا طموح. لذا قررت أن أكرس حياتي لمواساة المعذبين من الناس..
كنت أقول لنفسي: ما دمت غير مستطيع معاناة الألم بنفسي فلا
بأس من أن أجرب المعاناة في حياة الآخرين.. ورغم هذا فما زال
الخوف الغامض اللاشعوري يتملكني حتى أن مجرد رؤيتي لساعي البريد مقبلاً عليّ يبعث في نفسي قشعريرة تجتاح كياني!!
وأطرق الراهب صامتًا وهو يحدق في نار الموقد المتأججة، كما لو كان يقرأ في ثناياها غوامض الحياة التي عاشها.
وأخيرًا قال بصوت خفيض:
لقد كنت على حق! فإنني لا أصلح لهذه الدنيا يا سيدتي!
أما العجوز فقد قالت بعد صمت طويل:
أما أنا فإنني أدعو ربي ليمد في عمري كي أرعى أحفادي الذين
حُرموا أمهم وأباهم والذين لولاهم ما كان هنالك من سبب يدعوني للحياة!!
ونهض الراهب دون أن يتفوه بكلمة. وصحبته العجوز إلى باب القصر حيث غادر وسراجه في يده، ووقفت تراقب ظله وهو يتحرك ببطء حتى ابتلعه الظلام!!

انتهت ...




غي دو موباسان (Guy de Maupassant) (1850- 1893):

كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا.
درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية.
من أشهر قصصه : "كرة الشحم"، "بيير وجان" ومن أهم قصصه القصيرة: " العقد"، "الآنسة فيفي".
كان موباسان الرسام الأكبر للعبوس البشري ودوماً ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891 ومات في إحدى المصحات وهو بعمر ال43 سنة.

القلب الواشي


للكاتب الأمريكي إدجار ألان بو


- حقاً إنني عصبي.
- عصبي جداً جداً. بصورة مخيفة، هكذا كنت وما زلت! سوف تقولون إنني مجنون ولكن لماذا؟ لقد زاد المرض من حدة حواسي، لم يدمرها، أو يصبها بالتبلد. وتأتي في المقدمة حاسة السمع المرهف. إذ إنني كنت أسمع جميع الأشياء في السماء وفي الأرض. وكنت أسمع أشياء كثيرة. كيف إذن أكون مجنوناً؟ أصغوا! ولاحظوا كيف أستطيع أن أحكي لكم القصة كلها حكاية صحيحة وبهدوء.

من المستحيل أن أقول كيف دخلت الفكرة عقلي أول مرة؛ ولكن بمجرد أن خطرت لي، أخذت تطاردني نهاراً وليلاً. أما عن الهدف، فلم يكن ثمة هدف، وأما عن العاطفة فلم تكن ثمة عاطفة. فقد كنت أحب الرجل العجوز الذي لم يخطئ في حقي أبداً، ولم يتسبب لي في أية إهانة على الإطلاق. وبالنسبة لذهبه لم تكن بي أية رغبة فيه. أعتقد أنها كانت عيناه! نعم، لقد كانتا هاتين! فقد كانت إحدى عينيه تشبه عين نسر.
- وهي عين لونها أزرق شاحب وعليها غشاوة. وكلما كانت تقع عليَّ ، كان دمي يتجمد ؛ وهكذا تدريجياً.
- تدريجياً جداً.
- عقدت العزم على أن أنهي حياة الرجل العجوز، وهكذا أخلِّص نفسي من العين إلى الأبد.
والآن فإن هذا هو الأمر المهم. إنكم تتخيلونني مجنوناً. ولكن المجانين لا يعرفون شيئاً. ولكن كان ينبغي أن تروني أنا. كان ينبغي أن تروا كيف مضيت في العمل بحكمة وحذر وبعد نظر وخفاء!
ولم أكن أبداً أكثر عطفاً على الرجل العجوز مما كنت خلال الأسبوع السابق على قتلي إياه. ففي كل ليلة، في حوالي منتصف الليل، كنت أدير مزلاج بابه وأفتحه.

 - أوه، بهدوء شديد! ثم، عندما قمت بعمل فتحة تكفي لرأسي، أدخلت فانوساً داكن اللون ، مغلقاً جميعه، مغلقاً، بحيث لا يتسرب أي شيء منه إلى الخارج، ثم أُدخل رأسي. أوه، إنكم كنتم ستضحكون لو رأيتم كيف أنني كنت أُدخلها بخبث! وكنت أحركها ببطء.
- ببطء شديد جداً، حتى لا أُقلق نوم الرجل العجوز. واستغرق مني الأمر ساعة حتى أضع رأسي كله داخل الفتحة بقدر يمكِّنني من أن أراه وهو راقد في فراشه. ها، هل كان يمكن لرجل مجنون أن يكون في مثل هذه الحكمة؟ ثم، عندما كان رأسي داخل الحجرة تماماً، خفضت من ضوء الفانوس بحذر.
- أوه، بحذر شديد.
- بحذر (لأن المِفْصَلات كانت تَصِرُّ).
- خفضته بقدر يكفي فقط لسقوط شعاع وحيد على عين النسر. وهذا ما فعلته على مدى سبع ليالٍ طوال.
- كل ليلة تماماً في منتصف الليل.
- ولكنني كنت أجد العين مغلقة دائماً؛ ولذا فقد كان مستحيلا القيام بالعمل؛ لأنه لم يكن الرجل العجوز هو الذي يثير ضيقي، ولكن عينه الشـريرة. وكل صباح، عندما كان الصبح ينبلج، كنت أذهب بجسارة إلى الحجرة، وأتحدث بجرأة إليه، منادياً إياه باسمه بنغمة قلبية، واستفسر كيف قضى ليلته. وهكذا ترون أنه كان لابد من أن يكون عجوزاً عميق التفكير جداً، حقاً، حتى يشك في أنني كل ليلة، تماماً في الثانية عشـرة، كنت أرقبه بينما هو نائم.
وفي الليلة الثامنة كنت حذراً أكثر من المعتاد في فتح الباب. وكان عقرب الدقائق في ساعتي يتحرك أسرع مما تحركت يدي. ولم أشعر أبداً قبل تلك الليلة بمدى قوتي، بمدى حصافتي. وكدت لا أستطيع كبح شعوري بالانتصار، وأنا أفكر في أنني كنت هناك، أفتح الباب، شيئاً فشيئاً، بينما هو حتى لا يحلم بأفعالي السرية أو أفكاري. لقد كنت إلى حد ما أضحك بيني وبين نفسي من هذه الفكرة؛ وربما سمعني، لأنه تحرك على الفراش فجأة، كما لو كان قد رُوِّع فجأة. والآن، ربما تظنون أني انسحبت.
- ولكن لا. فقد كانت حجرته سوداء فاحمة من الظلام الدامس (لأن مصاريع النوافذ كانت محكمة الغلق ، خوفا من اللصوص)، ولذا كنت أعرف أنه لم يكن يستطيع أن يرى فتحة الباب، واستمررت في دفعه باضطراد، باضطراد.
وأدخلت رأسي، وكنت على وشك فتح الفانوس، عندما انزلق إبهامي على القْفل الصفيحي، وقفز الرجل العجوز في فراشه، وهو يصرخ.
- "من هناك ؟" وظللت بلا حراك تماما ولم أقل شيئاً. ولمدة ساعة كاملة لم أحرك عضلة، وفي هذه الأثناء لم أسمعه يرقد ثانية. فقد كان مازال جالساً في الفراش يتسمع.
- تماماً مثلما كنت أفعل أنا، ليلة بعد ليلة، وأنا أتسمع دقات ساعة الموت المثبتة على الحائط.
والآن سـمعت تأوهاً خفيفاً، وعرفت أنه تأوه الرعب من الموت. ولم يكن تأوه ألم أو أسى، أوه، لا! فقد كان الصوت المكتوم الخفيض الذي ينبع من أعماق الروح عندما يسيطر عليها الفزع. لقد كنت أعرف هذا الصوت جيداً. ففي ليال كثيرة، تماما في منتصف الليل، عندما كان العالم كله يغط في النوم، كثيراً ما كان يصدر عن صدري أنا، مُعَمِّـقاً، بصداه المخيف، الرعب الذي كان يُخَبِّلني. وأقول إنني كنت أعرف هذا جيداً. وكنت أعرف بماذا يحس العجوز، وكنت أشفق عليه، بالرغم من أنني كنت أضحك في أعماقي. كنت أعلم أنه كان يرقد متيقظاً منذ أول ضوضاء خافته، عندما كان يتقلب في الفراش. وبدأت مخاوفه منذ ذلك الحين تتزايد عليه. وكان يحاول أن يتخيل أنه لا مبرر لها ولكنه لم يستطع. وكان يقول لنفسه:
- "هذا لا شيء سوى الريح في المدخنة.
- إنه فقط فأر يجري على الأرض." أو "إنه مجرد صرصار ليل قد أصدر سقسقة واحدة." نعم ، لقد كان يحاول أن يريح نفسه بتلك الافتراضات؛ ولكنه وجد أن كل هذا بلا جدوى. كله بلا جدوى؛ لأن الموت، وهو يقترب منه، قد أخذ يخطو مسرعاً بظله الأسود الممتد أمامه، وأحاط بالضحية. ولقد كان التأثير الحزين للظل الذي لا يُرى هو الذي جعله يحس.
- بالرغم من أنه لم يكن يرى أو يسمع.
- بوجود رأسي داخل الحجرة.
وعندما طال انتظاري، بصبر شديد، دون أن أسمعه يرقد ثانية، قررت أن أقوم بعمل فتحة صغيرة.
- صغيرة جداً ، جداً ، في الفانوس. ولذلك فتحته.
- ولا يمكنكم أن تتخيلوا كيف فعلت ذلك خلسة ، خلسة.
- إلى أن، في النهاية، انطلق شعاع خافت وحيد، مثل خيط العنكبوت، انطلق من الفتحة وسقط على عين النسر.
لقد كانت مفتوحة.
- عن آخرها ، مفتوحة عن آخرها.
- واستولى عليَّ الغضب عندما وقعت عيني عليها. لقد رأيتها بوضوح تام.
- كلها أزرق باهت ، وذات حجاب بشع فوقها جعل النخاع نفسه يتجمد في عظامي! ولكنني لم أستطع أن أرى شيئاً آخر من وجه العجوز أو جسده، لأنني وجهت الشعاع، كما لو كان بالغريزة، تماماً على البقعة اللعينة.
والآن، ألم أقل لكم إن ما تظنونه خطأ أنه الجنون، ما هو إلا حدة في الحواس؟ 
- والآن، أقول، لقد وصل إلى أذني صوت سريع غير رنان، خفيض مثل الصوت الذي يصدر عن ساعة عندما نلفها في القطن. ولقد كنت أعرف ذلك الصوت جيداً، أيضاً. لقد كان صوت دقات قلب الرجل العجوز. ولقد زاد من غضبي، مثلما يحفز دق الطبلة الجندي على الشجاعة.
ولكن حتى ذلك الحين أحجمت وظللت ساكناً. وكنت لا أكاد أتنفس. وأمسكت بالفانوس بلا حراك. وحاولت بكل ما أوتيت من ثبات أن أحتفظ بالشعاع على العين. وفي تلك الأثناء ازدادت دقات القلب الجهنمية. وأخذت سرعتها تتزايد وتتزايد، وتعلو وتعلو كل لحظة. ولابد أن رعب الرجل العجوز بلغ منتهاه! فقد علا صوتها، كما أقول، وأخذ يعلو كل لحظـة! 
- هل تتابعونني جيداً؟ لقد قلت لكم إنني عصبي: وهكذا أنا بالفعل. والآن في ساعة الليل المخيفة، وسط الصمت المرعب في ذلك البيت القديم، فإن ضوضاء غريبة مثل هذه حفزتني إلى رعب لا يمكن السيطرة عليه. ومع ذلك، فلعدة دقائق تالية أحجمت ووقفت بلا حراك. ولكن الدقات أخذت تعلو، وتعلو!! وظننت أن القلب لابد من أن ينفجر. والآن ألـمَّ بي قلق جديد.
- وهو أن الصوت قد يسمعه أحد الجيران! فقد حانت ساعة الرجل العجوز! وبصرخة عالية، فتحت الفانوس وقفزت إلى داخل الحجرة. وصرخ مرة واحدة.
- مرة واحدة فقط.
وفي لحظة قمت بجره إلى الأرض وسحبت السرير الثقيل فوقه. ثم ابتسمت بمرح، عندما وجدت أن العمل قد تم إنجازه حتى ذلك الحين. ولكن، لدقائق عديدة، ظل القلب يدق بصوت مكتوم. وبالرغم من ذلك، فإن هذا لم يثر ضيقي؛ إذ إنه لا يمكن سماعه عبر الحائط. وأخيرا توقف. فقد مات الرجل العجوز. وأزحت السرير وفحصت الجثمان. نعم، لقد كان متحجراً، ميتاً مثل حجر. ووضعت يدي على القلب وتركتها هناك لدقائق عدة. لم يكن هناك نبض. فقد كان ميتاً كحجر. ولن تزعجني عينه أكثر من ذلك.
إذا كنتم مازلتم تظنون بي الجنون، فإنكم لن تظنوا هذا أكثر من ذلك عندما أصف لكم الاحتياطات الحكيمة التي اتخذتها لكي أخفي الجثمان. وبدأ الليـل يمضي، وأسرعت في العمل، ولكن في صمت. فقبل كل شيء قمت بقطع أطراف الجثة، ففصلت الرأس والذراعين والساقين.
ثم نزعتُ ثلاثة ألواح خشبية من أرضية الحجرة، ووضعتُ كل شيء بين قطع الخشب. ثم أعدتُ الألواح بمهارة شديدة، بخبث شديد، بحيث لا تستطيع عين بشرية. حتى عينه هو أن تلحظ أي شيء غريب. لم يكن هناك شيء ينبغي إزالته.
- لا بقع من أي نوع.
- لا بقعة دم على الإطلاق. فقد كنت حريصا على ذلك. فقد جمع حوض الاستحمام كل شيء.
- ها! ها!
وعندما انتهيت من هذه الأعمال، كانت الساعة الرابعة 
ـ وكانت الدنيا مازالت مظلمة مثل منتصف الليل. وعندما دقت الساعة، كانت هناك طرقة على باب الشارع. ونزلت لأفتحه بقلب مرح.
- إذ ماذا كان هناك الآن لأخشاه؟ ودخل ثلاثة رجال، قاموا بتقديم أنفسهم، بدماثة خلق تامة، بوصفهم ضباط شرطة. فقد سمع أحد الجيران صرخة خلال الليل؛ وثار الشك في وقوع عنف؛ فقد وصلت معلومات إلى مخفر الشرطة، وانتدبوا الضباط لتفتيش المكان.
وابتسمت...
- فماذا كان هناك لأخشاه؟ وقمت بالترحيب بالسادة المهذبين. وقلت إن الصرخة، كانت صرختي أنا في حلم. أما الرجل العجوز، فقد ذكرت أنه كان غائباً لأنه في الريف. وأخذت ضيوفي إلى جميع أنحاء المنزل. وطلبت منهم أن يفتشوا.
- يفتشوا جيداً. وقدتهم، أخيراً، إلى حجرته هو. وأريتهم كنوزه، سليمة، لم تعبث بها يد. وفي حماسة ثقتي، أحضرت مقاعد إلى الحجرة، وحبَّبت إليهم أن يستريحوا هناك، من تعبهم، بينما أنا في الشجاعة الجسورة لانتصاري التام، وضعت مقعدي فوق البقعة نفسها التي كانت تستريح فيها جثة الضحية.
واقتنع الضباط. فقد أقنعتهم طريقتي. فقد كنت غير مرتبك بصورة فريدة. وجلسوا، وبينما كنت أجيب عن أسئلتهم بمرح، كانوا يرغون ويزبدون بأشياء مألوفة. ولكن قبل مضي وقت طويل، أحسست بنفسي أُصبح شاحبا وتمنيت لو انصرفوا. فقد ألمَّ الصداع برأسي وتخيلت دقاً في أذني؛ ولكنهم كانوا مازالوا يجلسون ويزبدون. وأصبح الدق أكثر وضوحاً؛ واستمر وأصبح أكثر تميزاً؛ وتحدثت بحرية أكبر لكي أتخلص من هذا الإحساس؛ ولكنه استمر وأصبح أكثر تحديداً.
- إلى أن، في النهاية، وجدت أن الضوضاء لم تكن داخل أذنيَّ فحسب.
ولا شك أنني أصبحت حينئذ شاحباً جداً، ولكنني تحدثت بطلاقة أكبر وبصوت أعلى. ومع ذلك فقد ازداد الصوت ارتفاعاً.
- وماذا كان يمكنني عمله؟ لقد كان صوتاً سريعاً غير رنان، خفيضاً.
- يشبه كثيراً الصوت الصادر عن ساعة عندما تلف في قطن. ولهثت محاولا أخذ نَفَسي.
- ومع ذلك يسمعه الضباط. وتحدثت بسرعة أكبر.
- بحماس أعظم؛ ولكن الضوضاء ازدادت باضطراد ونهضت وجادلت بخصوص أمور تافهة، بصوت عال وبحركات عنيفة، ولكن الضوضاء أخذت في الازدياد باستمرار. لماذا لا ينصرفون؟ وأخذت أذرع أرض الحجرة ذهاباً وجيئة بخطوات ثقيلة، كما لو كانت ملاحظات الرجال قد أثارت غضبي.
ـ ولكن الضوضاء ازدادت باضطراد. أوه! ماذا يمكنني عمله؟ ورغيت وأزبدت وهذيت.
- وسببت! وأرجحت المقعد الذي كنت أجلس عليه وحككت بشدة على الألواح، ولكن الضوضاء علا صوتها على كل شيء وازدادت ارتفاعاً باستمرار. وأصبحت أعلى أعلى.
- أعلى! وكان الرجال مازالوا يرغون بلطف، ويبتسمون. هل كان من الممكن أنهم لا يسمعون؟ 
- لا، لا! إنهم يسمعون. 
- إنهم يشكُّون. 
- إنهم يعرفون. 
- لقد كانوا يسخرون من رعبي.
- هذا ما ظنته، وهذا ما أظنه. ولكنَّ أيَّ شيء كان أفضل من هذا العذاب! أي شيء كان من الممكن تحمله أكثر من هذه السخرية!
ولم أستطع تحمل هذه الابتسامات المنافقة أكثر من ذلك! وشعرت أنني لابد من أن أصرخ وإلا فإنني سأموت. 
- والآن مرة أخرى.
- اسمعوا! أعلى، أعلى، أعلى، أعلى! أيها الأشرار! صرخت، لا تخادعوني أكثر من ذلك! إنني أعترف بفعلتي 
- انزعوا الألواح الخشبية. 
- هنا، هنا 
- إنها دقات قلبه اللعين.




إدغار آلان بو Edgar Allan Poe (1809  - 1849 شاعر وكاتب قصص قصيرة وناقد اميريكي، وأحد رواد  الرومانسية الأمريكية. ولد في مدينة بوسطن. وأكثر ما اشتهر به قصص الفظائع والأشعار، وكان من أوائل كتاب القصة القصيرة، ومبتدع روايات المخبرين (التحري). وينسب إليه ابتداع روايات الرعب القوطي. كما يعزى إليه مساهماته في أدب الخيال العلمي. مات في سن الأربعين، وسبب وفاته ما زال غامضاً، وكذلك مكان قبره.

توفيت والدته قبل أن يبلغ عامه الثاني بعد أن تخلى والده عن العائلة. انتقل إثر ذلك ليعيش في كنف تاجر من أصل اسكتلندي في ريتشموند بولاية فيرجينيا. وقد أتاح له ذلك أن يتلقى تعليمه في أرقى اكاديميات ريتشموند، وأن يدخل الجامعة. لكن على الرغم من تفوقه الأكاديمي وجد نفسه مضطراً لقطع دراسته الجامعية نظراً لتخلي التاجر عنه. في عام 1927 عاد إلى مسقط رأسه بوسطن، حيث التحق بالجيش. وفي تلك الفترة أصدر مجموعته الشعرية الأولى، ثم أصدر الثانية بعد تسريحه من الجيش عام 1829. لكنه لم يحظ باهتمام يذكر.


قصصه:

  •  سقوط بيت أشر 1839

  •  القلب المليء بالقصص 1843

  • الخنفسة الذهبية (1843) وهي مجموعة قصص

  •  القط الأسود 1843

  •  بضع كلمات مع مومياء

  •  الغرائب

  •  الليلة الألف واثنين لشهرزاد 1850

  •  قصة من القدس 1850

  •  السقوط في الفوضى 1850

  •  الثمان أورانج أوتانات المقيدة أو الضفدع النطاط (1850

  •  ليجيا

  •  البندول والبئر

  • جرائم القتل في شارع المشرحة 1841

  •  لغز ماري روجيه 1843





أَشْعُر قصة ل مطانيوس ناعسي




مقدمة كتاب أَشْعُرُ للكاتب اللبناني مطانيوس ناعسي


وَالله، أَشْعُرُ في بَعْضِ الأحْيَانِ أَنَّني الأَضْعَفُ بَيْنَ بَنِي جِنْسِي، وَذَلِكَ مُذْ قَلَّصْتُ الهامِشَ بين قَوْلي وَفِعْلي إِلى أَقْصَى الحُدُود، وَهَذَّبتُ نفسي حتّى احترمتُها، وَقَرَّرْتُ "ممارسَةَ الحُبّ" نادِرًا، وَ"مُمارَسَةَ المَحَبَّةِ" دائمًا، وَأَلاّ أَخَاف رَبِّي، بَلْ أَنْ أُحِبَّه، وَأَنْ أُدَوِّنَ اسمي في سِجِلِّ الحَيَاة قَبْلَ مُغادَرَةِ "الحَفْلَة".
وَمُذ رَاهنتُ على الكَلِمَةِ في الزمَنِ الخاطِئ، وعلى الكتابَةِ في غياب القارئ، واكتشفتُ أنَّ الكَذِبَ نتِيجَةٌ وَلَيْسَ سَبَبًا، وأنَّه ملاذ الغبيّ.
وَآمَنتُ أنَّ الحقَّ ما زال سُلطانًا، والشيْطانَ لا يُصبح إنسانًا، والبَغْلَ لا يُمْسي حصانًا، وَأنَّ شوك الوردة ما كان يومًا لِحِمايَتِها، بل لإيلام مُحبّيها.
وَارْتَضَيتُ أَنْ أَكُونَ مُفْلِسًا، لا مال عِنْدِيَ أَخْسَرُه، ولا عقاراتِ أفقدها، وَصَدْرًا مَكْشُوفًا لِرِماحِ أَنْصَارِ العَمَى، وَلِسِهَامِ أَبْناء "الفَكَّة"، وَلِرَصَاصِ عُبَّادِ الليْرَات.
وَعَزمتُ على أَلاّ أُشْبِهَ قومي، أَلاّ أَكون مِثْلهم، وألاّ أرحلَ عنهم، وأن أبقى بينهم صوتًا صارخًا وَلَوْ في عَدَم، آكُلُ وَأَشْرَبُ لِكَي أَعيش، وَأَعيش لِكَي أُنَمّي إِنْسَانِيَّتي.
وَخَلَعْتُ عَنِّي عَبَاءَةَ الأَيّام، المُفَبْرَكَة مِنْ رُقَعِ الغايات والمَصَالح السمِيْكَة، وارتديتُ واحدةً شَفَّافَةً من صُنْعي، نَسَجْتُها بِخُيوطٍ من نُور، وَطَرَّزْتُها بِرَغَبَاتٍ من عِشْق، وَحَبَكْتُها بمَحَبَّة.
وَمُذ أَدْرَكْتُ أنَّ الفَرْدَ كَوْنٌ مُصَغَّر، وَالكَوْنَ فَرْدٌ مُكَبَّر، والبَشَرَ يُمَثِّلون والمُتَفَرِّجَ واحد، والعُقُولَ الصغيرةَ تَسْتَهْلكُ الكبيرة، والسعادةَ تَقَاطُعٌ وليست طريقًا، وَالظلْمَ وَلِيْدُ القُصُور، وَالعَدْلَ نَزِيْلُ القُبُور، وَأَذْنَابَ الكِلابِ المَسْعُورَةِ تَنْبُتُ فِي أَفْوَاهِها معْوَجَّة، وَأَلْسِنَتَها فَوْقَ عَوْرَاتِها مُلْتَفَّة، وَأَنَّ الزوَاجَ الناجِحَ يَقُوْمُ على التَّنازُلاتِ المُتَبَادَلَة، والفاشلَ على التنازُلاتِ مِن طَرَفٍ وَاحِد، وَالمُنْفَرِطَ على انعِدَامِ تلك الأخيرة بين الطرَفَين.
وَلاحَظْتُ أَنَّ الكِتابَ المَفْتُوحَ مَرْهُوْبٌ، و"الَمُسَكَّرَ" مَرْغُوْب، وماسحَ جوخ الرداء صار يَمْسَحُ أيضًا جِلْدَ الحذاء، وَالسبَاتَ في هكذا زمن يَقَظَة، واليَقَظَةَ سُبَات، وَأَنَّ كُلَّ شَيءٍ أمسى مَطْرُوحًا على بِسَاطِ التسَاؤلات.
واختَرْتُ الظلَّ سبيلاً إلى الأنوار، والـ حِلْ عَنِّي بديلاً عن الـ "P.R. وَرُحْتُ أَرى البِنَايَات أَشْجَارًا، وَالسَيّارَات أَزْهَارًا، وَالطَيّارات طُيُورًا، "وَالطرُقَات" أَنْهَارًا، وَالساحَات بِحَارًا، وَالمُشَاحَنَات أَشْعَارًا! وَأَحلمُ بِوَطَنٍ يُقيمُ فِيَّ وَأُقيمُ فيه، يُضيئُني وأُضِيْئُهُ، صَبَاحُهُ طَويلٌ طَويلٌ لا ينتهي، وَشُمُوسُهُ آلاف مؤلَّفَة.
ومُذ تخيّلتُ الوجود وعاءً، وما فيه طبخةً، يُحَرِّكُها الطاهي الأعظم، بمِلْعَقَة القَدَر، ويُغَطِّيها بالتاريخ، بانتظار نضجها، واكتمال نكهتها.
وَلَمَحْتُ خَلْفَ الخَيْرِ ظِلَّ شَرّ، وَخَلْفَ الحَقِّ وَجْهَ بَاطِل، وَوَراء الخَيَالِ فَجْرَ وَاقِع، وَالعَكْس صحيح.
وَفَطنتُ لادِّعاء التيْسِ الديمُقراطيَّة، والنوْرَسِ الوَطَنِيَّة، والدُبّ الرومانسيَّة، وَلِتَشابُهِ القمحِ والشعير، وَلِلْزمن الذي يَهْوَى فَعْسَ رُؤُوس الأَخْيَار، ما بين مِطْرَقَتِهِ وَسِنْدَانِ الأَشْرَار، وَلِبَلاغةِ صمت الجبال، وَإِلى أَنَّ الغارَ في هذه الأيّام يُكَلِّل الثرثار، والثعَالِبَ تَخْطفُ الأَنْظَار، وَالحَمِيْرَ تَعْزفُ على البْيَانُو، وَالتمَاسِيْحَ تَحْنُو، وَالضباعَ تُحِبُّ النهَار، والذئابَ تَهْوَى "الخُضَار"، والجرذانَ تطلُبُ "الكَافْيار"، وَالغِيْلانَ تَتْبَعُ الحِمْيَات، وَالزوَاحِفَ تُحَلِّقُ عَالِيًا في سَمَاوَاتِ النجاحات، فيما الضفادِع تَمْلأُها "أُغْنِيات".
ومُذ تساءلتُ عن رأي مُحيطٍ نتنٍ في عطرٍ طيّبِ الرائحةِ سقط فيه عفوًا، وعن وُجهةِ نظرِ الحيوانِ بالإنسان.
وحزنتُ حتّى الفرحِ، وبكيتُ حتّى الابتسامِ، لغيابِ دخيلٍ على الموتِ أصيلٍ في الحياة.
وبَدَأَتُ أَخافُ التكْنولوجْيا، وَأَسْتَعْمِلُها بِحَذَرٍ من دُونِ أَنْ أُحِبَّها، لِكَوْنها تَنْبعُ من الأَذْكِيَاء، لِتَرْوِيَ ظَمَأَ الأَقْوِيَاء، والأَثْرِيَاء، والخُبَثَاء، وَالجُبَنَاء، وَهِيَ تَجْرفُ في طَرِيْقِها الضعَفَاء، والفُقَرَاء، والأَتْقِيَاء، وَالأَشْقِيَاء، قَبْلَ أَنْ تَصُبَّ في أيدي الأَغْبِياء.
وأَيْقَنْتُ أَنَّ ابنَ الإنسانِ لَوْ عادَ إلى الأرضِ كإنسانٍ، لتَأَلَّب عَلَيْهِ الأَبْنَاءُ هذه المَرَّةَ، وَلأعادوا الكَرَّةَ، قَبْلَ غَيْرهم من طُلاَّبِ السماء.
وعلمتُ أَنَّ الدنيا قد بَالَغَتْ في عَجْنِي وفي خَبْزِي، لأَبْقَى في فُرْنِها إِلَى حينٍ، رَغِيفًا شَهِيًّا، مُحَمَّرًا، مُقَمَّرًا، يَخْشَى صُفُوفَ اللؤلؤ! وأنَّ العُمرَ طريقٌ جَبَليٌّ وَعِرٌ، كثيرُ المُنعطفاتِ، طبيعتُهُ خَلاّبَةٌ، نصعدهُ ركضًا، والحَيَاةَ أُغْنِيَةٌ عَالَمِيَّة، فَرِحَةُ النوتاتِ وَالنغَمَات، حَزِيْنَةُ المَعَاني والكَلِمَات.

نَعَم، أَشْعُرُ في بَعْضِ الأَحْيَانِ أَنَّني الأَضْعَفُ بين بَنِي جِنْسِي، وَأَشْعُرُ في مُعْظَمِ الأَحْيَانِ، وللأسباب عينها، أَنَّني الأَقْوَى بَيْنَهُم.


مطانيوس ناعسي:
 كاتب من شمال لبنان، وُلِدَ سنة 1965، في قرية "عين يعقوب"، مسقط رأس والده، وترعرع في جارتها "بزبينا"، مسقط...

رأس أمّه.
وهو أديب يأسر القلوب بسحر كلماته، ويُثير ذهول كلّ من يقرأ له، فنصوصه غنيَّة بالحِكَم البالغة، وبالمعاني المُبْتَكَرَة، كما بالرومانسيّة، ويكتب بأسلوب غنيّ بالصُوَر، وكأنَّه يحمل ريشة رسّام وليس قَلَمًا!
وهو مُفَكِّر متعمِّق، يبحث في شؤون الحياة، ويتبحَّر في شجون النفس البشريَّة.
باكورة أعماله المنشورة كانت رواية "حرف زائد" عالج فيها جمالية القناعة، وتفاؤل القيامة من الآلام كما تقوم عنقاء من رمادها. فمن فناء جسد "فادي" قام "ربيعٌ" غيّر معالم الحياة من حوله، فكان هو الرجل الذي أطلق النار على رأس الموت لتنتصر الحياة.
بعدها كانت روايته "نصفي الآخر" اليوتوبيا التي تفوَّق فيها على أي يوتوبيا عرفتها الفلسفة على مرّ العصور. فيها نظرة رجل آلمه الواقع فأحب أن يرسم بقلمه عالماً أجمل ينقل اليه كل من أحب مرافقته على متن سفينة الحلم والخيال ليزور مدينة السحر والضوء والحرية.
أما ثالث كتبه فكان "طوجو" مجموعة قصصية تناسب كل الأعمار، مع حفاظها على مرتبتها كمجموعة تربوية تثقيفية للناشئة بإمتياز.
وأخيراً وليس آخراً يأتي "أشْـــــــعُرُ" كتاب خواطر يرتدي حلة كتاب تعاليم مُعلمٍ أراد أن يُلقِّن تلاميذه ومريديه الدرس الأهم... "الحياة"، بكل ما فيها من تناقضات.
Twitter Bird Gadget