القشور واللباب "البدائع والطرائف" ل جبران خليل جبران




ما شربت كأسا" علقمية..... إلا كانت ثمالتها عسلا"

وما صعدت عقبة حرجة......... إلا بلغت سهلا" أخضر

وما أضعت صديقا" في ضباب السماء إلا وجدته في جلاء الفجر

وكم من مرة سترت ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهما" أن في ذلك الأجر والصلاح،ولكنني لما خلعت الرداء رأيت الألم قد تحول إلى بهجة و الحرقة انقلبت بردا وسلاما".

وكم سرت ورفيقي في عالم الظهور فقلت في نفسي ما أحمقه وما أبلده, غير أنني لم أبلغ عالم السر حتى وجدتني الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف .

وكم سكرت بخمرة الذات فحسبتني وجليسي حملا" وذئبا", حتى إذا ما صحوت من نشوتي رأيتني بشرا" ورأيته بشرا".

أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا , متعامون عما خفي من حقيقتنا. فإن عثر أحدنا قلنا هو الساقط , وإن تماهل قلنا هو الخائر التلف, وإن تلعثم قلنا هو الأخرس , وإن تأوه قلنا تلك حشرجة النزع فهو مائت.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور((أنا)) وسطحيات ((أنتم))لذلك لا نبصر ما أسره الروح إلى ((أنا))وما أخفاه الروح في ((أنتم)).

وماذا عسى نفعل نحن بما يسارونا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟

أقول لكم , وربما كان قولي قناعا" يغشي وجه حقيقتي, أقول لكم ولنفسي إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا.

وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا .

فإن رأينا شرطيا" يقود رجلا" إلى السجن علينا ألا نجزم في أيهما المجرم. وإن رأينا رجلا" مضرجا" بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحصافة ألا نحتم في أيهما القاتل وأيهما القتيل . وإن سمعنا رجلا" ينشد وآخر يندب فلنصبر ريثما نتثبت أيهما الطروب .

لا يا أخي لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه , ولا تتخذ قول امرئ أو عملا" من أعماله عنوانا" لطويته. فرب من تستجهله لثقل في لسانه وركاكة في لهجته كان وجدانه منهجا"للفطن وقلبه مهبطا"للوحي ..ورب من تحتقره لدمامة في وجهه وخساسة في عيشه كان في الأرض هبة من هبات السماء وفي الناس نفخه من نفحات الله .

قد تزور قصرا" وكوخا" في يوم واحد , فتخرج من الأول متهيبا" ومن الثاني مشفقا" , ولكن لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لتقلص تهيبك وهبط إلى مستوى الأسف , وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال .

وقد تلتقي بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبك الأول وفي صوته أهازيج العاصفة وفي حركاته هول الجيش أما الثاني فيحدثك متخوفا"وجلا"بصوت مرتعش وكلمات متقطعة , فتعزو العزم والشجاعة إلى الأول , والوهن والجبن إلى الثاني , غير أنك لو رأيتهما وقد دعتهما الأيام إلى لقاء المصاعب , أو إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ, لعلمت أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة.

وقد تنظر من نافذة منزلك فترى بين عابري الطريق راهبة تسير يمينا" ومومسا" تسير شمالا", فتقول على الفور : ما أنبل هذه وما أقبح تلك ! ولكنك لو أغمضت عينيك وأصغيت هنيهة لسمعت صوتا" هامسا" في الأثير قائلا": هذه تنشدني بالصلاة وتلك ترجوني بالألم, وفي روح كل منهما مظلة لروحي .

وقد تطوف في الأرض باحثا" عما تدعوه حضارة وارتقاء, فتدخل مدينه شاهقة القصور فخمة المعاهد رحبة الشوارع , والقوم فيها يسارعون إلى هنا وهناك فذا يخترق الأرض , وذاك يحلق في الفضاء , وذلك يمتشق البرق, وغيره يستجوب الهواء , وكلهم بملابس حسنه الهندام ,بديعة الطراز , وكأنهم فيء عيد أو مهرجان .

وبعد أيام يبلغ بك المسير إلى مدينه أخرى حقيرة المنازل ضيقة الأزقة إذا أمطرتها السماء تحولت إلى جزر من المدر في بحر من الأوحال . وإن شخصت بها الشمس انقلبت غيمه من الغبار . أما سكانها فما برحوا بين الفطرة والبساطة كوتر مسترخ بين طرفي القوس . يسيرون متباطئين ويعلمون متماهلين وينظرون إليك كأن وراء عيونهم عيونا" تحدق إلى شيء بعيد عنك , فترحل عن بلدهم ماقتا" مشمئزا" قائلا" في سرك : إنما الفرق بين ما شاهدته في تلك المدينة وما رأيته في هذه لهو كالفرق بين الحياة والإحتضار . فهناك القوة بمدها وهنا الضعف بجزرة . هناك الجد ربيع وصيف وهنا الخمول خريف وشتاء . هناك اللجاجة شباب يرقص في بستان وهنا الوهن شيخوخة مستلقية على الرماد .

ولكن لو استطعت النظر بنور الله إلى المدينتين لرأيتهما شجرتين متجانستين في حديقة واحدة . وقد يمتد بك التبصر في حقيقتهما فترى أن ما توهمته رقيا" في إحداهما لم يكن سوى فقاقيع لماعة زائلة . وما حسبته خمولا" في الأخرى كان جوهرا" خفيا" ثابتا".

لا ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها, ولا المرئيات بقشورها بل
بلبابها , ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم .

لا ولا الدين بما تظهره المعابد وتبنيه الطقوس والتقاليد , بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنيات .

لا ولا الفن بما تسمعه بأذنيك من نبرات وخفضات أغنيه , أو من رنات أجراس الكلام في قصيدة , أو بما تبصره بعينيك من خطوط وألوان صورة . بل الفن بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والخفضات في الأغنية . وبما يتسرب إليك بواسطة القصيدة مما بقى ساكتا" هادئا" مستوحشا" في روح المشاعر, وبما توحيه إليك الصورة فترى وأنت محدق إليها ما هو أبعد وأجمل منها .

لا يا أخي , ليست الأيام والليالي بظواهرها , وأنا السائر في موكب الأيام والليالي , لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بقدر ما يحمله إليك الكلام من طويتي لساكنه . إذن لا تحسبني جاهلا" قبل أن تفحص ذاتي الخفية , ولا تتوهمني عبقريا" قبل أن تجردني من ذاتي المقتبسة. لا تقل هو بخيل قابض الكف قبل أن ترى قلبي,أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعز إلى كرمي وجودي . لا تدعني محبا" حتى يتجلى لك حبي بكل ما فيه من النور والنار , ولا تعدني خليا" حتى تلمس جراحي الدامية .........................




جبران خليل جبران: فيلسوف وشاعر وكاتب ورسام لبناني، ولد في 1883 في بلدة بشري شمال لبنان وتوفي في نيويورك 1931 بداء السل. هاجر وهو صغير مع أمه وإخوته إلى أمريكا عام
1895 حيث بدأ مشواره الأدبي. اشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم نشره سنة 1923 وهو كتاب النبي.
كانت عائلة جبران فقيرة، لذلك لم يستطع الذهاب للمدرسة، بدلاً من ذلك كان قسيس يأتي لجبران إلى المنزل ويعلمه الإنجيل والعربية والسريانية.
أسس جبران خليل جبران الرابطة القلمية مع كلِّ من ميخائيل نعيمة، عبد المسيح حداد، ونسيب عريضة.
تفاعل جبران مع قضايا عصره، وكان من أهمها التبعية العربية للدولة العثمانية والتي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص جبران على توضيح موقفه بكونه ليس ضِدًا للإسلام الذي يحترمه ويتمنى عودة مجده، بل هو ضد تسييس الدين سواء الإسلامي أو المسيحي.

كتبه بالعربية:
الأرواح المتمردة 1908
الأجنحة المتكسرة 1912
دمعة وابتسامة 1914
المواكب 1918
العواصف (رواية).
البدائع والطرائف: مجموعة من مقالات وروايات تتحدث عن مواضيع عديدة لمخاطبة الطبيعة نشر في مصر عام 1923.
عرائس المروج
نبذة في فن الموسيقى

كتبه بالإنكليزية:
المجنون 1918
السابق 1920
النبي 1923
رمل وزبد 1926
يسوع ابن الإنسان 1928
آلهة الأرض 1931
التائه 1932
حديقة النبي 1933
الأعلام للزركلي.

وكانت أمنية جبران أن يُدفن في لبنان، وقد تحقق له ذلك في 1932. دُفن جبران في صومعته القديمة في لبنان، فيما عُرف لاحقًا باسم متحف جبران.
وأراد أن تكتب هذه الكلمة على قبره:
«أنا حي مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك»

أحقا مات؟



اضطر الركاب المغادرون روما ، في القطار الليلي السريع ، للتوقُّف حتى يبزغ الفجر ، في محطة صغيرة في (فابريانو) ، ليواصلوا رحلتهم في قطار محلي صغير ، ذي طراز قديم ليقلهم إلى (سيلومونا) .

بحلول الفجر ، في واحدة من عربات الدرجة الثانية ، هواءها
فاسد ، تعجُّ بالدخان ، كان خمسة أشخاص قد أمضوا ليلتهم هناك . انضمت إليهم امرأة ضخمة ، مستغرقة في حزن عميق ، بدت وكأنها كتلة بلا ملامح ، ومن ورائها زوجها يلهث ويئن، رجل ضئيل الجسم ، ذو وجه نحيف ، له عينان صغيرتان ومشعتان ، بدا خجولاً ومضطربا .
ما إن أخذ مقعده ، وشكر بلطف الراكب الذي ساعد زوجته ، وأفسح لها مكانا ، التفت إلى زوجته محاولاً إصلاح وضع شالها ، وبأدب جم سألها :
- هل أنت على ما يرام عزيزتي ؟
لم تجِبْه ، سحبت شالها ثانية نحو عينيها وكأنها تريد إخفاء وجهها.

تمتم الرجل بابتسامة حزينة : - تعب كلها الحياة .

شعر بأهمية توضيح الأمر لبقية المسافرين ، فزوجته تستحق الشفقة لأن الحرب أخذت منها ولدها الوحيد . شاب يافع في العشرين من عمره ، كرَّسا له حياتهما تماما ، حتى أنهما غادرا منزلهما في (سيلومونا) ليلحقا به في روما إبان دراسته هناك . بعد ذلك سمحا له بالتطوع للحرب ، بعد أن أكد لهما بأنه لن يرسل للجبهة على الأقل في الأشهر الستة الأولى من انضمامه ، لكنهما وعلى غير توقع، تسلما منه برقية ، مفادها أنه يتوجَّب عليه الذهاب إلى الجبهة في غضون ثلاثة أيام ، ويطلب منهما أن يأتيا لوداعه .

كانت المرأة تتململ تحت شالها الكبير، وأحيانا تدمدم مثل حيوان بري ، واثقة من شعورها بأن إيضاحات زوجها تلك لن تحظى بأي تعاطف ، من قبل هؤلاء الأشخاص الذين هم في الأغلب في نفس محنتها .

قال أحدهم بعد أن استمع لزوجها باهتمام شديد :

- عليك أن تشكر الله ، لأن ابنك لن يذهب للجبهة إلا الآن ، سيدي. إن ابني قد ذهب إلى هناك منذ أول يوم اندلعت فيه الحرب ، عاد إلينا مرتين جريحًا ، وعاد أدراجه ثانية إلى الجبهة !!!

أضاف آخر :

- وماذا بوسعي أن أقول ، لي ولدان في الجبهة الآن ولأخي ثلاثة.

تجرَّأ الزوج ، وقال :

- قد تكون على حق . بالنسبة لنا الوضع مختلف ، إنه ابننا الوحيد .

- وما الفرق ؟ قد تفسد ابنك الوحيد بالاهتمام المفرط به ، لكن يستحيل أن تحبه أكثر لو كان لديك غيره . الحب الأبوي ليس خبزًا يمكن تقسيمه إلى قطع توزع بالتساوي بين الأبناء . إن الأب يعطي لكل واحد من أبنائه كل حبه ، من غير تفضيل ، بغض النظر عمَّا إذا كانوا واحدا أو عشرة . إنني عندما أعاني من أجل أبنائي الاثنين ، فأنا لا أعاني نصف المعاناة لكل منهما ، بل أعاني الضعف....

تنهَّد الزوج المحرج وقال :

- حقًا ، لكن لنفرض – ونتمنى أن لا يحدث هذا لك – أنَّ أبًا له ولدان في الجبهة وفقد أحدهما ، سيبقى له ولد آخر يعينه
ويواسيه ، لكن من ليس له إلا ولد وحيد فـــ ..........

- نعم ، يتبقى لديه أخر ليعينه ويواسيه ، .... لكن ذلك الذي
يبقى ، يتوجب على والده أن يعاني من أجله أيضا أما في حالة الأب ذي الولد الواحد ، فلو مات ذلك الولد، فبوسع الأب أن يموت أيضا ، ويضع نهاية لمحنته . فيا ترى أي الحالتين أسوأ ؟ ألا تتفق معي أن حالتي أسوأ من حالتك ؟

قاطعهما مسافر ثالث ، رجل بدين ذو وجه مشوب بحمرة ، وعينين محمرتين ، كان يلهث ويكاد يتفجر من عينيه المتورمتين' عنف داخلي ، لا يستطع جسده الواهن احتواءه ، قائلا:

- هراء .

كرر الكلمة ، محاولا تغطية فمه بيده ، كما لو كان يريد إخفاء موضع سنيه الأماميتين المفقودتين ، وأردف : -

- هل ننجب أبناءنا من أجل مصلحتنا ؟

حملق فيه بقية المسافرين بضجر، وأجابه ذلك المسافر - الذي لديه ابن في الجبهة منذ أول يوم نشبت فيه الحرب - قائلاً :

- أنت على حق ، أطفالنا ليسوا لنا ، إنهم للوطن .

وهنا ردَّ عليه الرجل البدين بقوَّة :

- هراء، وهل نفكر في الوطن عندما ننجبهم، أبناؤنا ولدوا لأنهم ..... حسنا .... لأنهم لا بد و أن يولدوا ، وعندما يأتون إلى الحياة ، فإنهم يأخذون حياتنا معهم ... تلك هي الحقيقة . نحن
لهم ، لكنهم ليسوا لنا ، وعندما يبلغون العشرين ، فإنهم يكونون تماما ، ما كنا عليه في تلك السن ، نحن أيضا كان لكل منا أب
و أم ، ولكن كانت هناك أشياء أخرى كثيرة : ألأصدقاء ،
السجائر ، الأوهام ، العلاقات الجديدة .... والوطن. من يا ترى منا عندما كنا في العشرين ، كان يسمع لأبيه وأمه عندما يقولان له (لا) . الآن وفي سننا هذه ، حب الوطن ما زال كبيرا ، بالطبع ، ولكن أكبر منه ، حبنا لأطفالنا ، هل يوجد منا من يمانع أن يكون مكان ابنه في الجبهة لو استطاع إلى ذلك سبيلا ؟

ساد صمتٌ مطبق ، بيْد أن كل شخص أومأ برأسه موافقًا .

واستطرد الرجل البدين :

- لماذا إذن لا نأخذ بعين الاعتبار مشاعر أطفالنا ، عندما يبلغون العشرين ؟ أليس من الطبيعي في هذه السن أنهم يعدُّون حبهم للوطن أعظم من حبهم لنا ؟ إنني أتحدث عن الأولاد الصالحين . أليس من الطبيعي أن تكون المسألة على النحو التالي : أبناؤنا ينظرون إلينا على أننا أولاد كبار لم يعد بوسعنا الحراك وعليه
لا بدَّ أن نبقى في منازلنا ، فطالما أن الوطن حاجة فطرية ، مثله مثل الخبز فيجب على كل منا أن يأكل منه كي لا يموت جوعا ، فلا بد أن يكون هناك من يدافعون عنه . لقد هبٌ أبناؤنا لذلك عندما بلغوا العشرين ، لذا فهم لا يريدون منا دموعا، وإذا ماتوا فسوف يموتون سعداء مبتهجين ، إنني أتحدث عن الأولاد الصالحين ، وماذا يمكننا أن نرجو أكثر من ذلك لشاب مات سعيدا من غير أن يطوله الجانب القبيح من الحياة ، السأم ، التفاهة ، خيبات الأمل . نعم ما الذي نرجوه له أكثر من ذلك؟ يجب أن يكف كل شخص عن البكاء ، ويضحك بملء فيه، كما أفعل أنا ، أو على الأقل يشكر الله كما أفعل أنا أيضا لأن ابني قبل أن يموت بعث إلي رسالة يقول فيها بأنه سيموت راضيًا لأنه أنهى حياته بأفضل طريقة كان يرغبها ، ولهذا السبب ، وكما ترون فأنا لم أرتد أي لباس حداد من أجله .

أزاح معطفه الخفيف ليريهم أنه لا يرتدي تحته سترة حداد ، كانت شفته المزرقَّة ترتجف فوق موضع سنيه المفقودتين . عيناه الشاخصتان مغرورقتان ، أنهى حديثه بإطلاق ضحكة مدوية بدت كأنها تنهيدة .

ووافقه الآخرون بقولهم :

- حقًا..، حقًا.

جلست المرأة العجوز تستمع وهي متكوِّمة في زاوية تحت شالها ، تستمع ، إنها منذ ثلاثة أشهر تحاول أن تجد في كلمات زوجها وأصدقائها شيئا ما فيه مواساة وعزاء عن حزنها العميق ، شيئا ما يريها كيف يكون بوسع امرأة أن تذعن لفكرة إرسال ولدها ليس حتى إلى الموت ولكن إلى أيِّ مكان فيه خطر محتمل على حياته . ومع ذلك لم تجد ولو كلمة واحدة من بين كل ما قيل تشفي علتها . وتعاظم حزنها لعدم رؤيتها أحدا كما ظنت يشاركها مشاعرها .

غير أن الوضع تغير الآن ، فكلمات هذا الرَّاكب ، حيرتها
وصدمتها ، جعلتها تكتشف فجأة بأن الآخرين ليسوا هم الذين على خطأ ، ولم يفهموها ، بل هي نفسها التي لم تستطع أن ترقى بنفسها إلى مستوى هؤلاء الآباء والأمهات ، الذين لديهم الرغبة ليكيفوا أنفسهم ، من غير بكاء، ليس فقط على مغادرة أبنائهم بل حتى على موتهم .

أطلت برأسها ، وسحبت نفسها ، تحاول الاستماع باهتمام شديد إلى كل التفاصيل التي سيسردها الرجل البدين لمرافقيه عن الطريقة التي سقط بها ابنه بطلا من أجل مليكه ووطنه ، سعيدا من غير
ندم ، بدا لها لحظتها وكأن قدمها زلَّت بها في عالم لم تحلم به
قط ، كانت مسرورة جدا لسماعها بقية الركاب ، يهنئون ذلك الأب الشجاع الذي استطاع برباطة جأش الحديث عن سقوط ابنه ميتًا في سبيل الوطن .

فجأة ، كأنها لم تسمع شيئًا من كل ما قيل ، وكأنما أوقظت من منام ، التفتت نحو الرجل البدين سائلةً إياه :

- هل حقًا مات ابنك ؟

حملق فيها الجميع ،التفت إليها الرجل العجوز بدوره مثبتًا على وجهها نظرة عينيه الكبيرتين المتورِّمتين الشاخصتين ، لوهلة حاول أن يجيبها ، لكن الكلمات خذلته ، نظر إليها محدقًا ، وكأنه فقط عند ذلك السؤال الغبي، اكتشف فجأة أن ابنه قد مات فعلاً ، وذهب إلى الأبد ، نعم إلى الأبد ، انكمش وجهه ، وصار مشوَّهًا بشكل مفزع ، في عجلة خطف منديلا من جيبه و وسط حيرة الجميع ، انخرط في بكاء مرير ..

                                                                                                                                                
                                                                       
لويجي بيرانديلو (Luigi Pirandello) (ولد 1867 - توفي 1936) مسرحي وكاتب وشاعر إيطالي.
 حائز جائزة نوبل للآداب لعام 1934. 
ولد في جزيرة صقلية، ودرس الفلسفة في كل من روما وبون.


 

السيد "س".. نجيب محفوظ

السيد "س".. نجيب محفوظ






عبثاً أحاول تذكر حياتي في مجراها المفعم بالوجود قبل ساعة الميلاد. تلك النبضة المنبثقة من تلاقي جرثومة متوترة ببويضة متلهفة في أول مأوى آمن يتاح لي. في أي غيب كنت أهيم قبل ذلك منطلقاً مع تيار متصل غير محدود من الذكور والإناث، تشارك في مهرجانه قوى عديدة من النبات والحيوان وعناصر الطبيعة من ماء وتراب وحرارة وبرودة، في تناغُـم مع دورة الأرض والشمس في حضن درب التبانة العظيم الماضي في حوار دائم مع دروب لا نهاية لها. لعل إشارات من ذلك الغيب تتجلى في أحلامي في صور
أفراح غامضة وكوابيس ثقيلة سرعان ما تتلاشى في كون النسيان العنيد مخلفة في النفس قلقاً يتلاطم مع الواقع ناشراً تساؤلات عديدة ودعوات مغرية للرقص والتنقيب. أما كهنة آمون فقد أخفوا أسرارهم، وأما كهنة الهند فقد أعلنوا سيطرتهم على مسيرة الماء البشري منذ أقدم العصور ولكن لا سبيل إلى اليقين في هذه المسألة، ولو سلّمت برأيهم لتعذّر عليّ معرفة الخطيئة التي اتركبتها في زمن سحيق، والتي يكفّر عنها شخصي الراهن بمعاناته المستمرة التي لا يجد لها تفسيراً. فلنؤجّل القول في ذلك إلى حينه ولنلقِ نظرة على يوم الميلاد. إنه يوم تخفق له أفئدة البشر وتحوطه بالبركات من خلال طقوس أبديّة. يجيء المخاض على أنغام أهازيج شجية، تنطرح المرأة على الفراش في جوّ مضمّخ بأنفاس الخلق، ترعاها يد الخبرة، وتحدق بها القلوب المترعة بالأشواق، هامسة بالإشفاق داعية بالسلامة، ترقبه إذن يد العناية بالفرج، مسبحة للخالق، منتظرة بين آونة وأخرى أن تنجاب الدماء الحارة والأنفاس المتلاحقة عن صرخة حياة جديدة، مكللة بالظفر، في لحظة صراع محتدم مع الموت المقدس. ومن حسن الطالع أن الأشهر التسعة المنقضية في الظلمات لم تتلاشَ في العدم، حفظتها من الضياع ذاكرة خاصة غير الذاكرة المرصودة للحياة اليومية. سجلت حياة النطفة المزهوة بتوحدها كما سجلت تحولها إلى علقة. وعليه فلم يندثر تقلبها بين السرور والألم، وما تلقّـت من انبساط وانقباض، من راحة وتوتر، من رضى وسخط، وما واكب نشأة العظام من اضطراب، واستقبال اللحم بنشوة سانحة، أما المخ والوعي فقد أضفيا جدية جاوزت حدود المقام. أصبح الغذاء من هموم الحياة اليومية، والفضاء غير المحدود مدعاة للتأمل، والزمن عبئاً لا يُستهان به، حتى متى يستمر ذلك؟ وما معنى هذه الحياة؟ ولكن تغير الأمر عند اقتراب الفترة من نهايتها، وما زامل ذلك من إحساس بالشيخوخة، فلن يهوّن أبداً الرحيل إلى المجهول، أهو العدم؟ أثمة حياة أخرى؟ ويأبى العقل أن يصدّق ذلك أو يتعلق بأمل مخادع، وما هي إلا خدعة سخيفة لا معنى لها. وما أن تلقفتني يد الدنيا حتى مُحي الماضي محواً تاماً فكأنه لم يكن. هنا ينقض الضوء والطقس والأنفاس والأصوات ويعلو البكاء لأول مرة. وتمر فترة لا أمان فيها وكأنني أهوي في فراغ، ويمر دهر حتى أُلفّ في الأقمطة وكأنما رجعت إلى موطني المنسي. وينسكب الدفء في فيَّ، ويحتويني حضن ستبقى ذكراه معي طويلاً. وتمر فترة يتذكرها الحالمون جنة وارفة متناسين متاعبها وأشجانها، من افتقاد الأمان والشبع أحياناً، واقتحام صوت مزعج أو مداعبة قاسية، ورضع الحزن مع لبن أم لا تصفو لها الحياة دائماً، وغزو أمراض عدة تفسد مذاق الحياة. ثم تتطفل الحضارة بثقلها لتصبّ الوافد الجديد في قالب مهذب، يسيطر فيه على أجهزته المختلفة، ويتعلم المشي والكلام، ويُستعان على ذلك بالحوافز والردع، ولا بأس بالزجر بل والضرب، وتلوح السعادة كخيال لا يتحقق أبداً. وما إن يقوم على رِجلين، وربما قبل ذلك، حتى يلحق به آخر فيشعر شعوراً خفياً بأنه أصبح موضة قديمة، وأنه يُدفع دفعاً إلى دخول عالم جديد هو عالم التربية الواعية الهادفة. ويتناسى الجاحدون عهده، ويفكرون في طريقة مهذبة للتخلص منه، فيعرّفونه بالله، بجحيمه قبل جنته، وشياطينه قبل ملائكته، فلم أدرك مزايا الجنة ولكني ارتعدت أمام رعب الجحيم، ولم أتذوق حلاوة الملائكة ولكني تجرعت غصص الشياطين، وأحدق بي عالم مُنذر بالويلات. وألفت النهر والصفع واللعن والعصا، وبذلت قصارى جهدي لأنعم بأبسط المطالب وأتفادى من العدوان. وأُحمل ذات يوم إلى المدرسة فأضيف إلى عذاب الأهل عذاب الأغراب، وأتساءل أي حياة هذه، وهل لو كنت خُيّرت كنت اخترتها؟ وإنه لما يبعث على الضحك أن أتذكّر تلك الفترة في زمن قادم باعتبارها الفردوس المفقود. ولكن مهلاً فلعل هذا الحكم لا يخلو من صدق، فما خلا من ضحكة صافية أو لعبة جديدة أو هيام عذب بأصحاب ومواسم وحلوى وسينما وغناء بالإضافة إلى ساعات صفو وهناء في رحاب الأسرة. وحتى في أشد حالات الضيق هناك الخيال ألوذ به فيرحل بي إلى عوالم غريبة، ويخلق الحياة في الجماد، ويبدع الحكايات، ويتلقى من الوجود صوراً للأشياء والنساء والرجال والعلاقات سينضجها الزمن ويحولها إلى معانٍ ما كانت تخطر بالبال. وبفضل ذلك كله أتدرب على تمثيل أدوار لم يأن زمانها بعد، فأقوم برحلات إلى بلاد الواق الواق، وأخوض معارك ضارية، وأتزوج، وأتاجر وأربح أموالاً طائلة، وأصلي وأصوم فأضمن الجنة، ولكن أيضاً أتشاجر فيشج رأسي، وأعشق قريبة تكبرني بعشرة أعوام، وأتحايل لأغويها فآكل علقة مناسبة. مَن علّمك هذا الكلام يا ولد؟ خبر أسود، وأنت في البيضة، وأتوسل إليها دامع العين بألا تشكوني إلى أمي، ولكن من علّمك ذلك؟ في السينما رأيت أشياء ومن شباك بدروم جارتنا الفقيرة رأيت أيضاً، ألا تعرف جزاء من يتلصص على الناس؟ توبة... توبة. ولا تتاح النجاة حتى أوافق على حمل رسالة سرية إلى أخي!! ويجدّ جديد، فتحصل أمور، وتلوح أعراض، ويتكلم مدَّعو الحكمة من الأصحاب، إنه البلوغ. الشعر لا ينبت لغير ما سبب، والصوت لا يخشوشن لمجرد التغيير، وتمتلئ النظرات البريئة بدماء الغرض والهوى، وتحل بالبدن قوة مجهولة ماكرة غادرة، تضغطه بدغدغة حادة، وتسكب في الشرايين ناراً، يستهين بزواجر الجحيم ونواهيه، يحول بيني وبين الله والطاعة والعهود، ولم تعد الأشياء هي الأشياء ولكنها تنقلب موضوعات للرغبة والحلم والسطو ومرتعاً للخيال النهم. وربما تحصل أمور من نوع آخر وفي نفس الوقت، كردة فعل، وتفكير حاد يُروي ظمأه من ندى السحاب الأبيض المشغوف بالتعالي، فيخفق خفقة لم يخفق مثلها مذ كان فكرة هائمة في عالم الغيب، ويستوي الحب أمامه كنجمة متألقة في سماء مكفهرة تحوطه العناية الملائكية وتسبح في السماوات السبع، تمطر وابلاً من الأفراح والآلام، فتنبت في الأرض أزهاراً وأنغاماً، وتستجيب للغة خفيّة، فتثب هنا وهناك وراء المستحيل، في عالم مسحور فيه كل شيء إلا الأمل، مُجِدّة وراء موسيقى الكلمات وحمرة أوراق الورد وفضية شعاع القمر وحكمة صوت الموت. وبعد عناء طويل يجيء الشك على غير ميعاد، ملوحاً بسياط محملة أطرافها بالرصاص، كلما ألهبته تحدى العرف والأب والأم وأركان المعبد، وبشيء من التردد يرمي بنفسه في بئر الجنون الأحمر، وينهل من شراب مزاجه الشهد والسم، ليمحق المكر والخداع، بإشباعه حتى الموت، وتركه جثة من الخمود والأسى. هكذا... هكذا... هكذا. وبوحي من حظ حسن تتراءى مرآة عاكسة للزمن بلا حلم أو خيال. كان من الممكن أن يحدث غير ذلك فيما هي إلا احتمالات تطاول احتمالات، ولكلّ قصته. من أجل ذلك تمتلئ المدارس والمعاهد وتمتلئ السجون. وأمضي في سبيلي طاوياً في زاوية أرجو لها النسيان. أصبحت كائناً جاداً، أحيي الأهل صباحاً والأصحاب مساء، وأتلقى في اهتمام بالغ حظي من تراث البشر وخبرتهم. وتهل علينا متاعب من نوع جديد. ما رأيك هذا الدرس يتطلب عمراً لإتقانه؟ أجل.. وهناك أيضاً الأزمة الجديدة، صدقت ونحن مدعوون غدا لاجتماع هام، صدقني لا مناص من أن يذهب هذا الجيل كله إلى الجحيم، وماذا عن مستقبلنا نحن؟ لا شيء يعادل ما نبذل من جهد. ورغم كل شيء تبدأ الحياة العملية متعثرة محدودة الأمل، محفوفة بحياة سياسية غاية في القلق والاضطراب، وحياة جنسية لا تقل عنها قلقاً واضطراباً. وتتعدد الطرق هنا أيضاً. كان يمكن بشيء من الانتهازية أن يقبل وجه أكثر إشراقاً وأقل جدارة. وكان يمكن التمادي في التجارب المُـــرّة حيث يفضي الطريق إلى السجن أو الصعلكة. ولكن قادتنا الرغبة الحميمة في البقاء إلى الرشد المتواضع فاستقررنا فوق كرسي الروتين تحت مظلة من نسيج العنكبوت، ورضينا بلون تقليدي من الحب أفضى بنا إلى نوع تقليدي من الزواج، ورحنا نعبر الجسر الذي عبره قبلنا الملايين، نعمل بلا حماس، ونشهد بعين الأسى تبلُّد عواطفنا ونقار الأسر النامية وصراع الجنسين المعروف، وتطوف بنا مسرات لا يُستهان بها، مثل الأبوة الدافئة، وانتصارات صغيرة تتحقق برضا المدير أو نجاح نكتة مكشوفة أو كسب عشرة طاولة وإحراز فوز سياسي مؤقت، وهكذا... وهكذا... وهكذا. وتصحو ذات عيد ميلاد فإذا بالشباب قد ولّى وصمتت أهازيجه، وجاء عصر العقل مصحوباً بالعناء الاقتصادي، والدروس الخصوصية، وجزية الطب والدواء، والشجار لأتفه الأسباب، والبكاء على الأطلال، وارتفاع ضغط الدم لأول مرة، وأكثر من جراحة إجهاض تحت شعار تنظيم الأسرة، وإقبال شركات التأمينات مشكورة للمشاركة في الرزق المحدود. ويحفل سيرك الأبناء بألعابه المتنوعة، فهذا ابن يهيم في ملعب الكرة، ويرتكب الثاني حماقة كادت تغرق السفينة كلها، أما الثالث فقد استبدل بإله الآباء والأجداد خواجا غير مفهوم اللغة، وأخيراً فقد أطلق الرابع لحيته وقذف الجميع بتهمة الكفر. وانهالت عليّ التهم من كل جانب، رجعي... جاهل... تقليدي... كافر. ونفّست شريكتي عن بلواها بتحميلي مسؤولية كل شيء، نتيجة التدليل والدلع، ربنا يعاقبك على أنانيتك وزيغان عينك وسوء معاملتك لي. ولم أصدق أذنيّ، ورحت أذكر أغاني عبد الوهاب في ضوء القمر على شاطئ النيل، والسعي المرهق لاختيار هدية إحياء لذكرى الزواج، وسهر الليالي إلى جنب فراش المرض. رغم ذلك كله سارت القافلة بسلام على قدر الإمكان. ارتفعتُ درجة بعد درجة وكبر الراتب وتغير المكتب والحجرة، ولولا الغلاء المتصاعد وهزائم الحروب المتعاقبة لمضيت برأس مرفوع مكلل بهالة روتينية وشمخة بيروقراطية، ولكن ذل الحاجة والتورط في الأعمال الإضافية خرق للائحة ومعاناة الأبناء ومرارة شكواهم من قلة المصروف، كل ذلك أطفأ مشاعل المجد وأحل روح التسول مكان زهو العظمة. حتى الخادمة اضطررنا للاستغناء عنها أو أنها بالحري استغنت هي عنا، ولم أجد إلا المواعظ ألقيها يمنة ويسرة، لا خيار فإما النجاح وإما الموت، الترف من سوء الخلق أعرضوا عن الدنيا تُقبل عليكم، سيدنا محمد عاش على التمر واللبن، والدولة الرومانية سقطت لانغماسها في مطالب الجسد، كذلك الدولة الإسلامية. ويردون عليّ ومعهم أمهم، ألقِ مواعظك على الحكّام، على أصحاب الملايين، على اللصوص والخطّافين والطفيليين، نحن نريد لقمة وبدلة وأقل مصروف معقول، أي مدير أنت؟ ما جدوى خدمتك الطويلة في حكومة لا ترعى حقها لموظفيها، تنفق على الحفلات بغير حساب وتضن عليكم بالمليم. وأتساءل ما العمل؟ يجيب ألا تتوقف حياتنا وإلا ضعنا، الأسهل أن ندبر حياتنا في حدودنا المتاحة من أن نحاسب الحكام والمسؤولين، ونعرّض أنفسنا لمخالبهم الحادة المفترسة، فلا الإسلام يهمهم ولا الإلحاد ولا يعبدون إلا المال والجاه، وأنا رجل ضعيف، بدأ الشيب زحفه إلى شعري قبيل الأوان، ولا غاية لي في دنياي إلا أن أبلغ بكم بر الأمان، فساعدوني يرحمكم الله كي ننجو من الغرق. وفي زحمة الغياهب تعترض سبيلي تلك المرأة اللعوب وتغمز لي بعينها، يا للهول! هل بقي فيّ شيء ما زال يلفت نظر الحسان؟ في وقدة الاشتعال داعبتني نسمة متألقة بالزهو، وفرحة واردة من الغيب، حتى اختلت في مشيتي وأصررت على حلق ذقني كل صباح، وعند حساب التكاليف المطلوبة بحدها الأدنى حضرني ملاك الرحمة، ألا يلزمني تقديم هدية، أو اكتراء أي مكان ولو ليوم واحد، وإعداد عشاء وشراب كالأيام الخالية؟ وكبحت أهوائي بقوة لا تُـتاح إلا للمفلسين، وهربت معتلاً بمختلف الأعذار، وخرجت من التجربة موسوماً بنظرة احتقار لا تزول مثل الوشم، وأشاعت الغندورة في كل مكان بأنني مصاب بداء خفي كريه الرائحة، وكلما صادفتني في طريق هتفت بي كيف حالك يا أقرع؟ فأحمد الله على أنني رأيت برهان ربي في الوقت المناسب. وهكذا... وهكذا... وهكذا. وأصحو ذات يوم لأجد أن الكهولة أيضاً قد ولت، وأنني أتخذ الإجراءات المعهودة تمهيداً للإحالة على المعاش وأنني أودّع بصفة نهائية التعاليم المالية ولائحة المخازن والمشتريات. وبقدرة الرحمن الرحيم انحلّت عقدة الأزمة فتخرج الأبناء ومضى كلّ في سبيله. ووجدت وشريكتي نفسنا بين يدي الشيخوخة بلا دفاع، فبالإضافة إلى الضغط أصبحت ذا كلى عليلة وعانيت مُرَّ أرق مستمر، أما الشريكة فقد خلعت ثوب الأنوثة وباتت بين بين، وخانها عضوان هامان هما القلب والجهاز الهضمي واصطبغت بصفرة ضاربة إلى الزرقة، ونبتت لها شعيرات عند طرف أنفها واستغرقتها الصلاة والصوم. ومهما يكن من أمر فحالنا خير من حال كثيرين، ألم أتم رسالتي على خير وجه ورغم الظروف الشرسة المتحدية؟! ولكن للأسف جدت أمور لم تكن في الحسبان فاثنان من الأبناء وجدا عملاً مجزياً في الخارج فودعناهما بقلب حزين، وأصبح أحد الاثنين الباقيين زبوناً مزمناً للشرطة والنيابة، أما الأخير فقد تورط فيما لم يجرِ لي في بال وحكم عليه بعشرين سنة. وربما استطعت أن تتصور حالي ولكنك ستعجز تماماً عن تصور حال شريكتي. إنها لا تكف عن الدعاء على الدولة برمتها، ونابت عن ابنها السجين في تكفير المجتمع كله، وأرادت أن تحج لتدعو على الدولة في بيت الله الحرام ولكن من أين لي المال الذي أحقق به رغبتها؟! وجعلت أهرب من البيت إلى الصحاب في المقهى، ونازعتني نفسي إلى زيارة الأماكن التي شهدت طفولتي وأحلامي السعيدة، وتتابع أمام عينيّ شريط حياتي بجميع ما حفل به من تناقضات وعِبر، وكلما شيعت صديقاً أو زميلاً إلى مثواه الأخير لاح لي يومي وهو يقترب، وقلت لامرأتي إن خير ما تفوز به في هذه الحياة هي الحكمة، فإذا عرفناها عرفنا الرضا وسلمنا بأنه لا شيء في الحياة يستحق الحزن أو الأسف، فلنسلم أمرنا لله فكل ما جاءنا من عنده. ولم يمهلني المرض لمعاشرة الحكمة طويلاً، فانطرحت على الفراش بلا حول ولا قوة وقال لي كل شيء إنها النهاية.
وتساءلت ترى ما مذاقك أيها الموت، وكيف تحل إذا حللت، وعلى أي حال نترك الدنيا المليئة بالإغراء والخداع. وذات صباح دهمتني هذه اللحظة الفريدة المقدسة، فقدت الوزن والتوازن وانغمست في شعور كامل الجدة لم ينبض به الوجدان من قبل، قلت إنني سأسبح أو أطير وإنني أستقبل عالماً لم يُطرق من قبل، وإن الضوء هادئ لدرجة السحر وإنه بلا نهاية، وإنني مستسلم بلا اكتراث أو ألم أو ضيق وإن أهازيج البشر تعزف من حولي. وانفلت من الجسد إلى الحقيقة المطلقة، وتجلى لي ما قبل الميلاد وعبوري بالدنيا والمستقر الأخير منظراً واحداً جامعاً متكاملاً كالوردة الكاملة لا يخفى لها أريج ولا سر فثملت بالاستنارة والسعادة الحقيقية، ولم يبقَ معي من ذكريات الدنيا إلا المثل الشعبي الذي يقول: "اللي تحمل همه ما يجيش أحسن منه".




نجيب محفوظ روائي مصري حائز على جائزة نوبل في الأدب 1988. وُلد في 1911، وتوفي في 2006. كتب نجيب محفوظ منذ
بداية الأربعينيات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها ثيمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم. من أشهر أعماله الثلاثية وأولاد حارتنا التي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقتٍ قريب. بينما يُصنف أدب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، فإن مواضيع وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديبٍ عربي حولت أعماله إلى السينما والتلفزيون.

الضريرة قصة ل ياسوناري كاواباتا


الضريرة

أمسك الرجل بيد إمرأته الضريرة، وقادها صعوداً على التل لمشاهدة دارٍ للإيجار.
- ما هذا الصوت؟
- إنه حفيف الريح في أجمَّة خيزران.
- بالطبع. لقد مرَّ وقت طويل منذ خرجتُ من الدار، ونسيتُ صوت حفيف وريقات الخيزران.. الدرج في الدار التي نقيم بها الآن ضيقٌ على نحو بالغ الفظاعة. وعندما انتقلنا إلى هناك لم أستطع في البداية إحتمال إزعاج ارتقائه. أما الآن وقد بدأتُ أشعر لتوي بأنني قد اعتدته، تقول لي إننا بسبيلنا
إلى البحث عن دار جديدة مجدداً. المرأة الضريرة يتعين عليها أن تعرف كل ركن ومنعطف في دارها. وهي تألفها كما تألف جسمها. وبالنسبة للشخص المبصر، فإن الدار تعد ميتة، ولكنها بالنسبة للشخص الضرير، إنها تضج بالحياة. إنها نبض. الآن هل سيتعين عليَّ الإرتطام بكل الأركان والتعثر في العتبة مجدداً في دارجديدة




ترك الرجل يد إمراته، وفتح البوابة المطلية باللون الأبيض.
قالت:
- إنها توحي بالعتمة، كما لو أن الأشجار قد ألقت بظلالها على الحديقة. والشتاء سيكون بارداً من الآن فصاعداً.
- إنها دارٌ على الطراز الغربي، لها جدران ونوافذ كئيبة، ولا بد أن بعض الألمان كانوا يقطنون هناك فلافتة الإسم تحمل إسم  "ليدرمان"
ولكن الرجل عندما فتح الباب الخارجي، ارتد راجعاً، كأنما فوجيء بضوء باهر.
- هذا رائع. إنه مبهر للغاية. لربما يكون الليل سائداً في الحديقة، لكن داخل الدار يكون شبيهاً بوقت الظهيرة.
كان ورق الحائط المخطط باللونين الأصفر والقرمزي برّاق اللون، كالأجواخ البيضاء والأرجوانية التي تعرض في 
الإحتفالات. وتوهجت الستائر كثيفة الحُمرة كأنوار كهربائية ملونة

- ها هنا أريكة ومدفأة ومائدة ومقاعد ومكتب ومصباح تزييني..
كل الأثاث ها هنا. تلمسي ذلك!
أوشكَ أن يُسقطها أرضاً، وهو يجعلها تجلس على الأريكة. لوَّحت بيدها كمتزلج على الجليد يعاني من الإرتباك، وارتدت متقافزة كنابض.
- هناك بيانو أيضاً.
أمسك بيدها، واجتذبها. فأوقفها على قدميها. جلست قبالة البيانو بجوار المدفأة، وبنشاط لمست المفاتيح، كأنها شيء مخيف.
- اصغ! إنه يعمل.
بدأت في عزف لحن بسيط، ربما كان لحن أغنية تعلمته عندما كانت فتاة صغيرة، وكان لا يزال بمقدورها أن ترى.
مضى إلى المكتب، وإلى جوار المكتب، اكتشف غرفة نوم بفراش مزدوج. ها هنا مجدداً كان هناك ورق حائط مخطط باللونين القرمزي والأبيض.. وهذه المرة كانت هناك بطانية خشنة ملفوفة حول حشية للرقاد مُلئت قشاً. وثب عليها، فأحس بها لينة ومتقافزة، وبدأ عزف زوجته يتردد مفعماً بمرح أكبر. لكنه استطاع كذلك سماعها تضحك كأنها طفلة، عندما كانت تخطىء بين الحين والآخر في عزف نغمة.. يا للحزن الذي يواكب العمى.

العمى الذي أشير إليه هنا لا يعني بالضرورة عمى العينين فحسب .............




                                                                            

ياسوناري كواباتا: المولود في 14 يونيو 1899 والمتوفى في 16 ابريل 1972 روائي ياباني أهله إبداعه النثري المكتوب بلغة شعرية راقية وغامضة للحصول على جائزة نوبل للأدب 1968؛ ليصبح بذلك أول أديب ياباني يحصل على الجائزة العالمية. ولا تزال أعماله مقروءة إلى اليوم.

Twitter Bird Gadget