السيد "س".. نجيب محفوظ

السيد "س".. نجيب محفوظ






عبثاً أحاول تذكر حياتي في مجراها المفعم بالوجود قبل ساعة الميلاد. تلك النبضة المنبثقة من تلاقي جرثومة متوترة ببويضة متلهفة في أول مأوى آمن يتاح لي. في أي غيب كنت أهيم قبل ذلك منطلقاً مع تيار متصل غير محدود من الذكور والإناث، تشارك في مهرجانه قوى عديدة من النبات والحيوان وعناصر الطبيعة من ماء وتراب وحرارة وبرودة، في تناغُـم مع دورة الأرض والشمس في حضن درب التبانة العظيم الماضي في حوار دائم مع دروب لا نهاية لها. لعل إشارات من ذلك الغيب تتجلى في أحلامي في صور
أفراح غامضة وكوابيس ثقيلة سرعان ما تتلاشى في كون النسيان العنيد مخلفة في النفس قلقاً يتلاطم مع الواقع ناشراً تساؤلات عديدة ودعوات مغرية للرقص والتنقيب. أما كهنة آمون فقد أخفوا أسرارهم، وأما كهنة الهند فقد أعلنوا سيطرتهم على مسيرة الماء البشري منذ أقدم العصور ولكن لا سبيل إلى اليقين في هذه المسألة، ولو سلّمت برأيهم لتعذّر عليّ معرفة الخطيئة التي اتركبتها في زمن سحيق، والتي يكفّر عنها شخصي الراهن بمعاناته المستمرة التي لا يجد لها تفسيراً. فلنؤجّل القول في ذلك إلى حينه ولنلقِ نظرة على يوم الميلاد. إنه يوم تخفق له أفئدة البشر وتحوطه بالبركات من خلال طقوس أبديّة. يجيء المخاض على أنغام أهازيج شجية، تنطرح المرأة على الفراش في جوّ مضمّخ بأنفاس الخلق، ترعاها يد الخبرة، وتحدق بها القلوب المترعة بالأشواق، هامسة بالإشفاق داعية بالسلامة، ترقبه إذن يد العناية بالفرج، مسبحة للخالق، منتظرة بين آونة وأخرى أن تنجاب الدماء الحارة والأنفاس المتلاحقة عن صرخة حياة جديدة، مكللة بالظفر، في لحظة صراع محتدم مع الموت المقدس. ومن حسن الطالع أن الأشهر التسعة المنقضية في الظلمات لم تتلاشَ في العدم، حفظتها من الضياع ذاكرة خاصة غير الذاكرة المرصودة للحياة اليومية. سجلت حياة النطفة المزهوة بتوحدها كما سجلت تحولها إلى علقة. وعليه فلم يندثر تقلبها بين السرور والألم، وما تلقّـت من انبساط وانقباض، من راحة وتوتر، من رضى وسخط، وما واكب نشأة العظام من اضطراب، واستقبال اللحم بنشوة سانحة، أما المخ والوعي فقد أضفيا جدية جاوزت حدود المقام. أصبح الغذاء من هموم الحياة اليومية، والفضاء غير المحدود مدعاة للتأمل، والزمن عبئاً لا يُستهان به، حتى متى يستمر ذلك؟ وما معنى هذه الحياة؟ ولكن تغير الأمر عند اقتراب الفترة من نهايتها، وما زامل ذلك من إحساس بالشيخوخة، فلن يهوّن أبداً الرحيل إلى المجهول، أهو العدم؟ أثمة حياة أخرى؟ ويأبى العقل أن يصدّق ذلك أو يتعلق بأمل مخادع، وما هي إلا خدعة سخيفة لا معنى لها. وما أن تلقفتني يد الدنيا حتى مُحي الماضي محواً تاماً فكأنه لم يكن. هنا ينقض الضوء والطقس والأنفاس والأصوات ويعلو البكاء لأول مرة. وتمر فترة لا أمان فيها وكأنني أهوي في فراغ، ويمر دهر حتى أُلفّ في الأقمطة وكأنما رجعت إلى موطني المنسي. وينسكب الدفء في فيَّ، ويحتويني حضن ستبقى ذكراه معي طويلاً. وتمر فترة يتذكرها الحالمون جنة وارفة متناسين متاعبها وأشجانها، من افتقاد الأمان والشبع أحياناً، واقتحام صوت مزعج أو مداعبة قاسية، ورضع الحزن مع لبن أم لا تصفو لها الحياة دائماً، وغزو أمراض عدة تفسد مذاق الحياة. ثم تتطفل الحضارة بثقلها لتصبّ الوافد الجديد في قالب مهذب، يسيطر فيه على أجهزته المختلفة، ويتعلم المشي والكلام، ويُستعان على ذلك بالحوافز والردع، ولا بأس بالزجر بل والضرب، وتلوح السعادة كخيال لا يتحقق أبداً. وما إن يقوم على رِجلين، وربما قبل ذلك، حتى يلحق به آخر فيشعر شعوراً خفياً بأنه أصبح موضة قديمة، وأنه يُدفع دفعاً إلى دخول عالم جديد هو عالم التربية الواعية الهادفة. ويتناسى الجاحدون عهده، ويفكرون في طريقة مهذبة للتخلص منه، فيعرّفونه بالله، بجحيمه قبل جنته، وشياطينه قبل ملائكته، فلم أدرك مزايا الجنة ولكني ارتعدت أمام رعب الجحيم، ولم أتذوق حلاوة الملائكة ولكني تجرعت غصص الشياطين، وأحدق بي عالم مُنذر بالويلات. وألفت النهر والصفع واللعن والعصا، وبذلت قصارى جهدي لأنعم بأبسط المطالب وأتفادى من العدوان. وأُحمل ذات يوم إلى المدرسة فأضيف إلى عذاب الأهل عذاب الأغراب، وأتساءل أي حياة هذه، وهل لو كنت خُيّرت كنت اخترتها؟ وإنه لما يبعث على الضحك أن أتذكّر تلك الفترة في زمن قادم باعتبارها الفردوس المفقود. ولكن مهلاً فلعل هذا الحكم لا يخلو من صدق، فما خلا من ضحكة صافية أو لعبة جديدة أو هيام عذب بأصحاب ومواسم وحلوى وسينما وغناء بالإضافة إلى ساعات صفو وهناء في رحاب الأسرة. وحتى في أشد حالات الضيق هناك الخيال ألوذ به فيرحل بي إلى عوالم غريبة، ويخلق الحياة في الجماد، ويبدع الحكايات، ويتلقى من الوجود صوراً للأشياء والنساء والرجال والعلاقات سينضجها الزمن ويحولها إلى معانٍ ما كانت تخطر بالبال. وبفضل ذلك كله أتدرب على تمثيل أدوار لم يأن زمانها بعد، فأقوم برحلات إلى بلاد الواق الواق، وأخوض معارك ضارية، وأتزوج، وأتاجر وأربح أموالاً طائلة، وأصلي وأصوم فأضمن الجنة، ولكن أيضاً أتشاجر فيشج رأسي، وأعشق قريبة تكبرني بعشرة أعوام، وأتحايل لأغويها فآكل علقة مناسبة. مَن علّمك هذا الكلام يا ولد؟ خبر أسود، وأنت في البيضة، وأتوسل إليها دامع العين بألا تشكوني إلى أمي، ولكن من علّمك ذلك؟ في السينما رأيت أشياء ومن شباك بدروم جارتنا الفقيرة رأيت أيضاً، ألا تعرف جزاء من يتلصص على الناس؟ توبة... توبة. ولا تتاح النجاة حتى أوافق على حمل رسالة سرية إلى أخي!! ويجدّ جديد، فتحصل أمور، وتلوح أعراض، ويتكلم مدَّعو الحكمة من الأصحاب، إنه البلوغ. الشعر لا ينبت لغير ما سبب، والصوت لا يخشوشن لمجرد التغيير، وتمتلئ النظرات البريئة بدماء الغرض والهوى، وتحل بالبدن قوة مجهولة ماكرة غادرة، تضغطه بدغدغة حادة، وتسكب في الشرايين ناراً، يستهين بزواجر الجحيم ونواهيه، يحول بيني وبين الله والطاعة والعهود، ولم تعد الأشياء هي الأشياء ولكنها تنقلب موضوعات للرغبة والحلم والسطو ومرتعاً للخيال النهم. وربما تحصل أمور من نوع آخر وفي نفس الوقت، كردة فعل، وتفكير حاد يُروي ظمأه من ندى السحاب الأبيض المشغوف بالتعالي، فيخفق خفقة لم يخفق مثلها مذ كان فكرة هائمة في عالم الغيب، ويستوي الحب أمامه كنجمة متألقة في سماء مكفهرة تحوطه العناية الملائكية وتسبح في السماوات السبع، تمطر وابلاً من الأفراح والآلام، فتنبت في الأرض أزهاراً وأنغاماً، وتستجيب للغة خفيّة، فتثب هنا وهناك وراء المستحيل، في عالم مسحور فيه كل شيء إلا الأمل، مُجِدّة وراء موسيقى الكلمات وحمرة أوراق الورد وفضية شعاع القمر وحكمة صوت الموت. وبعد عناء طويل يجيء الشك على غير ميعاد، ملوحاً بسياط محملة أطرافها بالرصاص، كلما ألهبته تحدى العرف والأب والأم وأركان المعبد، وبشيء من التردد يرمي بنفسه في بئر الجنون الأحمر، وينهل من شراب مزاجه الشهد والسم، ليمحق المكر والخداع، بإشباعه حتى الموت، وتركه جثة من الخمود والأسى. هكذا... هكذا... هكذا. وبوحي من حظ حسن تتراءى مرآة عاكسة للزمن بلا حلم أو خيال. كان من الممكن أن يحدث غير ذلك فيما هي إلا احتمالات تطاول احتمالات، ولكلّ قصته. من أجل ذلك تمتلئ المدارس والمعاهد وتمتلئ السجون. وأمضي في سبيلي طاوياً في زاوية أرجو لها النسيان. أصبحت كائناً جاداً، أحيي الأهل صباحاً والأصحاب مساء، وأتلقى في اهتمام بالغ حظي من تراث البشر وخبرتهم. وتهل علينا متاعب من نوع جديد. ما رأيك هذا الدرس يتطلب عمراً لإتقانه؟ أجل.. وهناك أيضاً الأزمة الجديدة، صدقت ونحن مدعوون غدا لاجتماع هام، صدقني لا مناص من أن يذهب هذا الجيل كله إلى الجحيم، وماذا عن مستقبلنا نحن؟ لا شيء يعادل ما نبذل من جهد. ورغم كل شيء تبدأ الحياة العملية متعثرة محدودة الأمل، محفوفة بحياة سياسية غاية في القلق والاضطراب، وحياة جنسية لا تقل عنها قلقاً واضطراباً. وتتعدد الطرق هنا أيضاً. كان يمكن بشيء من الانتهازية أن يقبل وجه أكثر إشراقاً وأقل جدارة. وكان يمكن التمادي في التجارب المُـــرّة حيث يفضي الطريق إلى السجن أو الصعلكة. ولكن قادتنا الرغبة الحميمة في البقاء إلى الرشد المتواضع فاستقررنا فوق كرسي الروتين تحت مظلة من نسيج العنكبوت، ورضينا بلون تقليدي من الحب أفضى بنا إلى نوع تقليدي من الزواج، ورحنا نعبر الجسر الذي عبره قبلنا الملايين، نعمل بلا حماس، ونشهد بعين الأسى تبلُّد عواطفنا ونقار الأسر النامية وصراع الجنسين المعروف، وتطوف بنا مسرات لا يُستهان بها، مثل الأبوة الدافئة، وانتصارات صغيرة تتحقق برضا المدير أو نجاح نكتة مكشوفة أو كسب عشرة طاولة وإحراز فوز سياسي مؤقت، وهكذا... وهكذا... وهكذا. وتصحو ذات عيد ميلاد فإذا بالشباب قد ولّى وصمتت أهازيجه، وجاء عصر العقل مصحوباً بالعناء الاقتصادي، والدروس الخصوصية، وجزية الطب والدواء، والشجار لأتفه الأسباب، والبكاء على الأطلال، وارتفاع ضغط الدم لأول مرة، وأكثر من جراحة إجهاض تحت شعار تنظيم الأسرة، وإقبال شركات التأمينات مشكورة للمشاركة في الرزق المحدود. ويحفل سيرك الأبناء بألعابه المتنوعة، فهذا ابن يهيم في ملعب الكرة، ويرتكب الثاني حماقة كادت تغرق السفينة كلها، أما الثالث فقد استبدل بإله الآباء والأجداد خواجا غير مفهوم اللغة، وأخيراً فقد أطلق الرابع لحيته وقذف الجميع بتهمة الكفر. وانهالت عليّ التهم من كل جانب، رجعي... جاهل... تقليدي... كافر. ونفّست شريكتي عن بلواها بتحميلي مسؤولية كل شيء، نتيجة التدليل والدلع، ربنا يعاقبك على أنانيتك وزيغان عينك وسوء معاملتك لي. ولم أصدق أذنيّ، ورحت أذكر أغاني عبد الوهاب في ضوء القمر على شاطئ النيل، والسعي المرهق لاختيار هدية إحياء لذكرى الزواج، وسهر الليالي إلى جنب فراش المرض. رغم ذلك كله سارت القافلة بسلام على قدر الإمكان. ارتفعتُ درجة بعد درجة وكبر الراتب وتغير المكتب والحجرة، ولولا الغلاء المتصاعد وهزائم الحروب المتعاقبة لمضيت برأس مرفوع مكلل بهالة روتينية وشمخة بيروقراطية، ولكن ذل الحاجة والتورط في الأعمال الإضافية خرق للائحة ومعاناة الأبناء ومرارة شكواهم من قلة المصروف، كل ذلك أطفأ مشاعل المجد وأحل روح التسول مكان زهو العظمة. حتى الخادمة اضطررنا للاستغناء عنها أو أنها بالحري استغنت هي عنا، ولم أجد إلا المواعظ ألقيها يمنة ويسرة، لا خيار فإما النجاح وإما الموت، الترف من سوء الخلق أعرضوا عن الدنيا تُقبل عليكم، سيدنا محمد عاش على التمر واللبن، والدولة الرومانية سقطت لانغماسها في مطالب الجسد، كذلك الدولة الإسلامية. ويردون عليّ ومعهم أمهم، ألقِ مواعظك على الحكّام، على أصحاب الملايين، على اللصوص والخطّافين والطفيليين، نحن نريد لقمة وبدلة وأقل مصروف معقول، أي مدير أنت؟ ما جدوى خدمتك الطويلة في حكومة لا ترعى حقها لموظفيها، تنفق على الحفلات بغير حساب وتضن عليكم بالمليم. وأتساءل ما العمل؟ يجيب ألا تتوقف حياتنا وإلا ضعنا، الأسهل أن ندبر حياتنا في حدودنا المتاحة من أن نحاسب الحكام والمسؤولين، ونعرّض أنفسنا لمخالبهم الحادة المفترسة، فلا الإسلام يهمهم ولا الإلحاد ولا يعبدون إلا المال والجاه، وأنا رجل ضعيف، بدأ الشيب زحفه إلى شعري قبيل الأوان، ولا غاية لي في دنياي إلا أن أبلغ بكم بر الأمان، فساعدوني يرحمكم الله كي ننجو من الغرق. وفي زحمة الغياهب تعترض سبيلي تلك المرأة اللعوب وتغمز لي بعينها، يا للهول! هل بقي فيّ شيء ما زال يلفت نظر الحسان؟ في وقدة الاشتعال داعبتني نسمة متألقة بالزهو، وفرحة واردة من الغيب، حتى اختلت في مشيتي وأصررت على حلق ذقني كل صباح، وعند حساب التكاليف المطلوبة بحدها الأدنى حضرني ملاك الرحمة، ألا يلزمني تقديم هدية، أو اكتراء أي مكان ولو ليوم واحد، وإعداد عشاء وشراب كالأيام الخالية؟ وكبحت أهوائي بقوة لا تُـتاح إلا للمفلسين، وهربت معتلاً بمختلف الأعذار، وخرجت من التجربة موسوماً بنظرة احتقار لا تزول مثل الوشم، وأشاعت الغندورة في كل مكان بأنني مصاب بداء خفي كريه الرائحة، وكلما صادفتني في طريق هتفت بي كيف حالك يا أقرع؟ فأحمد الله على أنني رأيت برهان ربي في الوقت المناسب. وهكذا... وهكذا... وهكذا. وأصحو ذات يوم لأجد أن الكهولة أيضاً قد ولت، وأنني أتخذ الإجراءات المعهودة تمهيداً للإحالة على المعاش وأنني أودّع بصفة نهائية التعاليم المالية ولائحة المخازن والمشتريات. وبقدرة الرحمن الرحيم انحلّت عقدة الأزمة فتخرج الأبناء ومضى كلّ في سبيله. ووجدت وشريكتي نفسنا بين يدي الشيخوخة بلا دفاع، فبالإضافة إلى الضغط أصبحت ذا كلى عليلة وعانيت مُرَّ أرق مستمر، أما الشريكة فقد خلعت ثوب الأنوثة وباتت بين بين، وخانها عضوان هامان هما القلب والجهاز الهضمي واصطبغت بصفرة ضاربة إلى الزرقة، ونبتت لها شعيرات عند طرف أنفها واستغرقتها الصلاة والصوم. ومهما يكن من أمر فحالنا خير من حال كثيرين، ألم أتم رسالتي على خير وجه ورغم الظروف الشرسة المتحدية؟! ولكن للأسف جدت أمور لم تكن في الحسبان فاثنان من الأبناء وجدا عملاً مجزياً في الخارج فودعناهما بقلب حزين، وأصبح أحد الاثنين الباقيين زبوناً مزمناً للشرطة والنيابة، أما الأخير فقد تورط فيما لم يجرِ لي في بال وحكم عليه بعشرين سنة. وربما استطعت أن تتصور حالي ولكنك ستعجز تماماً عن تصور حال شريكتي. إنها لا تكف عن الدعاء على الدولة برمتها، ونابت عن ابنها السجين في تكفير المجتمع كله، وأرادت أن تحج لتدعو على الدولة في بيت الله الحرام ولكن من أين لي المال الذي أحقق به رغبتها؟! وجعلت أهرب من البيت إلى الصحاب في المقهى، ونازعتني نفسي إلى زيارة الأماكن التي شهدت طفولتي وأحلامي السعيدة، وتتابع أمام عينيّ شريط حياتي بجميع ما حفل به من تناقضات وعِبر، وكلما شيعت صديقاً أو زميلاً إلى مثواه الأخير لاح لي يومي وهو يقترب، وقلت لامرأتي إن خير ما تفوز به في هذه الحياة هي الحكمة، فإذا عرفناها عرفنا الرضا وسلمنا بأنه لا شيء في الحياة يستحق الحزن أو الأسف، فلنسلم أمرنا لله فكل ما جاءنا من عنده. ولم يمهلني المرض لمعاشرة الحكمة طويلاً، فانطرحت على الفراش بلا حول ولا قوة وقال لي كل شيء إنها النهاية.
وتساءلت ترى ما مذاقك أيها الموت، وكيف تحل إذا حللت، وعلى أي حال نترك الدنيا المليئة بالإغراء والخداع. وذات صباح دهمتني هذه اللحظة الفريدة المقدسة، فقدت الوزن والتوازن وانغمست في شعور كامل الجدة لم ينبض به الوجدان من قبل، قلت إنني سأسبح أو أطير وإنني أستقبل عالماً لم يُطرق من قبل، وإن الضوء هادئ لدرجة السحر وإنه بلا نهاية، وإنني مستسلم بلا اكتراث أو ألم أو ضيق وإن أهازيج البشر تعزف من حولي. وانفلت من الجسد إلى الحقيقة المطلقة، وتجلى لي ما قبل الميلاد وعبوري بالدنيا والمستقر الأخير منظراً واحداً جامعاً متكاملاً كالوردة الكاملة لا يخفى لها أريج ولا سر فثملت بالاستنارة والسعادة الحقيقية، ولم يبقَ معي من ذكريات الدنيا إلا المثل الشعبي الذي يقول: "اللي تحمل همه ما يجيش أحسن منه".




نجيب محفوظ روائي مصري حائز على جائزة نوبل في الأدب 1988. وُلد في 1911، وتوفي في 2006. كتب نجيب محفوظ منذ
بداية الأربعينيات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها ثيمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم. من أشهر أعماله الثلاثية وأولاد حارتنا التي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقتٍ قريب. بينما يُصنف أدب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، فإن مواضيع وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديبٍ عربي حولت أعماله إلى السينما والتلفزيون.

2 comments:

  1. قصة حياة إنسان من المهدِ إلى اللحد. صوَّرتْ واقع كل عربي ما زالت حياته غارقة في روتينها منذ أزمان وأزمان... ولا شيء تغير... ويبدو أنه لن يتغير. {إن الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}... وحدهم أحرار الفكر يمكنهم التغيير

    ReplyDelete
  2. شكرا لك انا من محبي كتب نجيب محفوظ اشكرك كثيؤرا على هته التدوينة الرائعة.

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget