وقف أحمد أمام كشك السجاير والذي هو في نفس الوقت مركز توزيع الصحف واشترى إحدى الصحف ذات الوزن الثقيل، وأخرج فوراً صفحة الإعلانات وبدأ يقرأ إعلانات الوظائف علـَّه يجد وظيفة بعد أن ظل عاطلاً عن العمل 8 أشهر منذ تخرجه من
الجامعة وأصبح يخجل من النظر إلى والديه وهو لا يساهم بأي شيء في نفقات البيت. نظر إلى أول إعلان: (مطلوب سكرتيرة لشركة تجارية استثمارية.. المؤهلات: وجه وقوام جميل.. عدم وجود ارتباطات عائلية...استعداد للسفر والعمل حتى ساعات متأخرة ...الثياب ما قل ودل ! تلفون: .....)...هزّ أحمد رأسه وقال لا حول ولا قوة إلا بالله ده إعلان وظيفة والا...... طب اكتبوا على الأقل: تعرف تطبع والا كمبيوتر والا أي داهية... كده عيني عينك هيَّ الدنيا جرى لها إيه؟ ...
تعوَّذ من الشيطان ونظر إلى ثاني إعلان (مطلوب موظف إستعلامات يكون خريج جامعة ويجيد 3 لغات .. خبرة لا تقل عن 5 سنوات ..تلفون: ....)..هزّ أحمد رأسه ... الله .. هيَّ العالم اتجنت ولا ايه؟ بقى عاوزين خريج جامعة و3 لغات علشان يبقى موظف إستعلامات ؟؟ وأمال الواحد لو عاوز يبقى مدير لازم يكون معاه ايه؟ لا وفوق ده كله خبرة 5 سنوات.. طب الواحد هيجيب الخبرة منين لما محدش يرضى يشغله؟
تعوذ من الشيطان مرة ثانية وأكمل ...فجأة لمعت عيناه فرحاً وأحس أنه وجد ضالته في إعلان بالبنط العريض: (مؤسسة حكومية بحاجة الى عدد من الشباب الجامعيين لوظائف عن طريق إختبار شفهي أمام لجنة للمعلومات ..الإتصال....)... بدأ قلب أحمد يدق من الهيجان وتبدل يأسه أملاً في الحصول على الوظيفة التي يحلم بها وهو الخريج بتفوق، ولأن الأمر يخضع لاختبار ولجنة فلا مجال للوسايط "يعني الأفضل هو الذي سيفوز بالوظيفة".
ذهب أحمد إلى بيته وزف الخبر السعيد إلى أمه التي لم تتمالك نفسها عن إطلاق زغرودة عيار 21 مليمتر هزّ صوتها بيوت الجيران كلهم، وبدأت وكالة أنباء النسوة بنقل الخبر وكل واحدة تضيف عليه من عندها:
- آه يختي .. بيقولوا هيبقى مدير في أكبر بنك في البلد..
- لا بنك إيه؟ ده هيبقى سفير..
- اسكتي إنتي وهيَّ سفير إيه؟ ده هيبقى دكتور في المستشفى..
- دكتور إيه ياهبلة هو خريج طب؟
- وفيها إيه؟؟ مش بيقولوا جاب واسطة؟ يعني هـُمَّ كل الدكاترة درسوا الطب؟
- آه
- آه إزاي؟ ابن البيه اللي أنا باشتغل عنده راح أوروبا 6 أشهر رجع بعدها طبيب وتعين في مستشفى!!!
- لا يا حبيبتي..الواحد علشان يبقى دكتور لازم الأول يبقى وزير! هـُمَّ مش دايماً في التلفزيون بيقولوا معالي الوزير الدكتور فلان !!!!
واستمر نقاش الجارات حول طبيعة الوظيفة الجديدة لأحمد ولولا أن ميعاد الغداء قد حل وانصرفت كل واحدة لإطعام عائلتها لكان أحمد قد أصبح رئيس جمهورية دون أن يدري!
أما أحمد فقد كانت الأحلام الوردية تراوده وتخيل نفسه وقد أصبح موظفاً مرموقاً محترماً وراتب جيد يمكنه من مساعدة أهله والزواج.
نهض أحمد من السرير في يوم الإمتحان ... ارتدى أحسن بدلة لديه ...حلق ذقنه ... وضع العطر ... توكل على الله وخرج وأمه من ورائه تدعو له بالنجاح والتوفيق والنصر على العدوين!!
وصل إلى المؤسسة صاحبة الإعلان ونظر إلى البناية ...على الرغم من أن واجهة البناية قد أصبحت سوداء من تراكم الوساخة
والأتربة والدخان إلا أنها بانت له وكأنها قصر الأحلام من ألف ليلة وليلة.
دخل البناية واتجه نحو قاعة الإمتحان ...رأى صفاً طويلاً من الشباب الراغبين في الحصول على الوظيفة فسقط قلبه وكاد أن يغمى عليه ولكنه تمالك نفسه وقال في سره: "يعني إنت كنت فاكر إيه؟ هتكون وحدك في المسابقة؟ أمال هـُمَّ عاملين مسابقة ليه؟"
سجل اسمه عند الحاجب وانتظر دوره ... بدأ المتقدمون يدخلون واحداً تلو الآخر إلى قاعة الإمتحان...بعضهم يخرج متجهماً وبعضهم مبتسماً. خرج أحمد من شروده لدى سماعه اسمه، ودخل إلى القاعة فوجد لجنة مكونة من 3 أشخاص محترمين وكبار في السن .. سلم عليهم وجلس على كرسي موضوع أمام الطاولة التي تجلس اللجنة خلفها .. سأله أول عضو في اللجنة:
- إيه هيَّ مؤهلاتك يا بني؟
أجابه أحمد وشرح له كل شيء عن الشهادة التي يحملها وأنه تخرج الأول على دفعته وحاز على عدة جوائز تقديرية لاجتهاده في الدراسة ...هزّ العضو الآخر في اللجنة رأسه وقال:
- جميل، جميل جداً دا نتَ ما شاء الله ثروة للبلد دي وإحنا بنعتز بشباب مجتهد زيك..
فرح أحمد لهذا الثناء واستبشر به خيراً، وهنا خاطبه العضو الثالث في اللجنة قائلاً:
- والله إحنا هنا في المؤسسة حريصين على إننا ما نوظفش إلا الكفاءات العالية مش زي المؤسسات التانية اللي توظف كده من غير تدقيق, تصور حضرتك أنا أعرف واحد خريج لغة عربية بس علشان عنده واسطة عينوه مترجم اسباني!!!
أجابه أحمد:
- يا أفندم لولا إن فيه ناس محترمة زي حضراتكم كانت البلد خربت من زمان يا أفندم!!
قاطعه العضو الثاني في اللجنة قائلاً:
- شوف يا بني إحنا لاحظنا إن شباب البلد بتهاجر لبلاد برة وبتتبهدل علشان ما فيش فرص عمل جوة البلد يعني فكرك الدكتور أحمد زويل لو كان لقى شغلانة كويسة داخل البلد كان هاجر بره؟؟ أكيد لا و كنا إحنا استفدنا من خبراته بدل ما هو عايش كده بره وخيره للأجانب مش كده برضه؟
أجاب أحمد متحمساً:
- ربنا يخليكم ذخراً للوطن... إنتم يا أفندم دوركم مش أقل من أحمد عرابي ولا أقل من طلعت حرب ولا محمد علي باشا أنتم يا أفندم لازم يتعمل لكم تماثيل في وسط البلد يا أفندم ... آه والله .. تماثيل كل واحد 10 أمتار!!
هزّ الرجل الذي يجلس في الوسط "ويبدو عليه أنه رئيس اللجنة" رأسه، وقال:
- لا، لا، تماثيل إيه وبتاع إيه؟ إحنا بنعمل بواجبنا وبس وده أقل حاجة يمكن يعملها أي شخص بيحب وطنه ويحرص على طاقات الشباب فيه... أنا يا بني "وأعوذ بالله من كلمة أنا" بالنيابة عن أعضاء اللجنة أحب أهنيك وأقولك مبروك... إنت حصلت على الوظيفة وتقدر تستلم الشغل من بكرة لو حبيت ..
فرح أحمد ونهض من كرسيه وأخذ يصافح أعضاء اللجنة واحداً واحداً وهو يقول:
- الله أكبر...يحيا العدل... أهو كده التعيين ولا بلاش...ربنا ينصر دينكم ويعلي مراتبكم كمان وكمان يا رب.
وفجأة تذكر شيئاً ..سأل رئيس اللجنة:
- على فكرة أنا لسه ما عرفتش هيه إيه الوظيفة بالضبط؟
أجابه رئيس اللجنة:
- الله ...!! هو إنت ما قريتش الإعلان اللي ورا الباب؟
أجابه أحمد متلعثماً:
- لا وحياتك يا أفندم ...أنا آسف.. بس من كتر قلقي ما شفتش ولا حاجة وأنا محظوظ إني ما وقعتش من طولي وأنا داخل هنا..
ضحك رئيس اللجنة وقال:
- معلش حصل خير ...الوظيفة هي بواب البناية
- حضرتك بتهزر مش كده؟ دم حضرتك خفيف جداً يا أفندم!!!
- هزار إيه يا محترم؟؟ شايفني عيـِّل معاك في الروضة علشان أهزر معاك؟!!
- يا نهار إسود ...إنت بتتكلم جد بقى!!
- أكيد بجد طبعاً
- يا نهاركم مطيّن ...بقى عاملين إعلان في الجرايد ولجنة إمتحانات وشهادات جامعية علشان بواب؟!! إنتم جايين منين؟ من مستشفى المجانين!!!
- احترم نفسك واعرف إنت بتكلم مين، ولعلمك فيه 100 واحد يتمنوا إنهم يحصلوا على الوظيفة دي، والعتب علينا إحنا اللي اخترنا واحد فاشل زيك... امشي تفضل اطلع بره من غير مطرود... شباب صايع ما منوش فايدة وبعدين يزعلوا لما نستعين بخبرات أجنبية!!!
ونادى على الحاجب كي يدخل الشخص التالي الى القاعة .
وكل وظيفة وإنتم بخير !!!
محسن الصفار:
كاتب عراقي ساخر. ولد في عام 1968 درس الطب النفسي في اوكرانيا وتخرج سنة 1998 وانتقل بعدها إلى بيروت حيث عمل في المجال الإعلامي وقام بتأسيس شركة للإنتاج الإعلامي قامت بإنتاج العديد من الأفلام الوثائقية.
اشتهر بكتابة القصص والمقالات الساخرة في مختلف المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية له عدة كتب منها:
*عالم مجنون مجنون.
*مجنون يحكي وعاقل يسمع.
*وفاء لملك وعشقاً لمملكة.
*حكايات وعبر.
*طريف الأخبار في مقامات الصفار.
متزوج واب لطفلين هما تارا ويوسف كاتب أسبوعي في جريدة البلاد البحرينية ويعمل في مجال الاستشارات.