ذيل الحيوانات - حكاية أفريقية

النص من التراث الافريقي:



قديماً، لم يكن للحيوانات ذيل . لم يكن الحصان يقدر أن يذُبّ الذباب . وكان السنجاب يجد مشقّة دون ذيل في القفز من غصن إلى غصن. ولم يكن الثعلب أكثر جمالاً منهما دون ذيل ، ولا الأسدُ أيضاً !

قرّر الأسد ، ملك الحيوانات الحكيم ، معالجة هذه الوضعية . فكّر
مدّة طويلة في طريقة يتوخّاها . وفي النهاية استدعى الأسد الثعلب لمشورته.
قال الثعلب متوقعا : " لا يمكن أن تحصل الحيوانات كلّها على الذّيل نفسه ."أجاب الأسد :" أعلم هذا أنا أيضاً . ولكن ، كيف أفصل بين الحيوانات  ؟"
فكّر الثعلب لحظة ثم أعلن : "الأمر بسيط . يحصل الذين يأتون الأوائل على الذيول الجميلة!" 
قال الأسد مُمْتثلا: " فكرة ممتازة ! اعْـدُ سريعاً في الغابة وأعلِم الحيوانات جميعاً بأن يحضروا عند الزوال على ضفة الجدول لتوزيع الذيول ."
نقل الثعلب الرسالة ، ثم عدا بسرعة نحو الجدول ليصل الأول.
تبعه مباشرة الحصان والسنجاب والقط والكلب . وهي الحيوانات التي تحضر دائماً الأولى عند توزيع شيء ما . ثم جاءت بقية الحيوانات : الفيل والخنزير والأرنب لتكون الأخيرة .
لمّا اجتمعت الحيوانات كلها في فُـرجة من الغابة ، جعل الأسد يوزّع الذيول . ابتدأ بنفسه . كان ذيلاً رائعاً ، طويلاً ، ذهبياً منتهياً بمنفضة ريش . بعد ذلك ، خصّ الأسد الثعلب والسنجاب بذيلين جميلين جداً وكثيفين . آثر الحصان ذيلا رائعا مختوماً  . وتحصّل الكلب والقط أيضاً على ذيلين جميلي المنظر .ولكن ّ الحيوانات التي حضرت الأخيرة وجدت نفسها محرومة . حصل الفيل على خيط ضئيل في طرفه بعض الحرير . انه متألّم لأنّه يحمل كذلك خرطوماً هابطاً . أمّا ذيل الخنزير فقد كان دقيقاً جداً مثل دودة الأرض ، عقده ليبدو أجمل .وبقي الأرنب بلا ذيل .
بدأ الكلب والقط يتعاركان لمعرفة من منهما له أجمل ذيل . وفي الأخير ، تمكّن الكلب من القط وقضم طرف ذيله فاقتلعه . فرّ القط إلى الشجرة .ومنذ هذا اليوم ، يفضل القط الهروب من الكلب. التقط الأرنب طرف ذيل القط وألصقه في مؤخرته ، وهذا ما يفسّر لماذا يبدو ذيل الأرنب قصيراً جداً .



حفل العشاء The Dinner Party

قصة قصيرة بقلم: مونا جاردنر  
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي   



    جرت أحداث هذه القصة في الهند. أقام السيد واينز- أحد كبار موظفي الإدارة الاستعمارية- حفل عشاء ضخم حضره لفيف
من كبار ضباط الجيش وموظفو الحكومة وبعض رجالات السلكالدبلوماسي برفقة زوجاتهم. كان من بين الحضور عالم أمريكي متخصص في علوم الطبيعة البيئية بحيواناتها ونباتاتها.  جلس الجميع في صالة الطعام الرحبة الفخمة التي كانت أرضيتها من رخام عار ليس فوقه بساط أو سجاد، وذات عوارض خشبية وأبواب زجاجية كانت مشرعة تفتح على شرفة واسعة.

احتدم نقاش حامي بين ضابط برتبة عقيد وفتاة في مقتبل العمر كانت تصر على ان النساء قد شببن عن الطوق وتخطين تلك المرحلة التي كانت فيها الواحدة منهن تقفز مذعورة على أقرب كرسي وهي تصرخ عندما تلمح فاراً صغيراً يجوس في المكان.  كان العقيد يكرر باستمرار أن ذلك ليس بصحيح. قال بصوت
واثق حاسم: " إن رد فعل المرأة الذي لا يتبدل أبداً عند تعرضها لخطب ما هو أن تصرخ. عادة ما يحس الرجل بأن عليه أن يصرخ هو أيضاً، بيد أنه يتمتع بما يساوي حبة الخردل وزناً من القدرة الإضافية على التحكم في أعصابه، وحبة الخردل هذه هي التي تصنع كل ذلك الفرق بين الرجال والنساء".

لم يشارك العالم الأمريكي في النقاش، بل اكتفى بمراقبة ما يتبادله المتناقشون من حجج وآراء. فجأة لاحظ أن تعابير وجه زوجة مضيفهم بدأت تتبدل. تسمرت نظرتها للأمام دون حراك، وبدا على عضلات وجهها تقلص طفيف. أشارت بحذر إلى صبي هندي كان يقف خلفها ويقوم بخدمة الضيوف بأن يقترب منها، وهمست في أذنه ببضع كلمات قليلة. اتسعت عينا الصبي من الدهشة وانصرف من الغرفة على عجل.

لم يلحظ أحد من الضيوف – عدا العالم الأميركي- ما حدث
للتو، ولا عودة الصبي الهندي وهو يحمل صحناً به لبن ويضعه في الشرفة بعيداً عن أبواب الغرفة المشرعة.

خطر للعالم الأميركي على الفور أن هنالك حية من نوع الكوبرا في الغرفة، إذ أن الهنود يضعون صحن اللبن كطعم لإخراج الكوبرا. جال ببصره في الغرفة وثبت نظره على أكثر الأماكن احتمالاً، وهي العوارض الخشبية، بيد أن الكوبرا لم تكن معلقة
هنالك. جال ببصره في ثلاثة أركان في الغرفة، وارتد  إليه بصره خاسئاً وهو حسير، بينما وقف الخدم في ركن الغرفة الرابع استعداداً  لتقديم طبق الوجبة التالي. لم يتبق أي مكان آخر يمكن للكوبرا أن تختبيء فيه عدا تحت الطاولة. خطرت بباله للحظة عابرة أن ينتفض قائماً ويصيح برفاقه منبهاً لهم، بيد أنه تذكر أن أي حركة مفاجئة ستخيف الكوبرا وتحفزها للهجوم والعض.

قال للجميع بهدوء بالغ: "أود أن أعرف أيكم أقدر على السيطرة على نفسه. سوف أعد من واحد إلى ثلاثمائة. سيستغرق ذلك خمس دقائق. يجب أن يظل كل واحد منكم في مكانه دون أدنى حركة. من سيتحرك قيد أنملة سوف يغرم خمسين روبية. هل أنتم مستعدون؟.!"

تسمر الجالسون حول الطاولة في أماكنهم كالخشب المسندة، بينما مضى العالم الأميركي يعد كان يقول "...مائتين وثمانين..." عندما لمح بطرف عينه الكوبرا وهي تخرج من تحت الطاولة
وتزحف نحو صحن اللبن. صرخ الجميع عندما قفز من كرسيه وجرى ليغلق باب الشرفة ويؤمن الموقف.
سر مضيف الحفل وقال بزهو عظيم: " لقد صدقت يا أيها العقيد. لقد أثبت لنا رجل للتو أي الجنسين أكثر قدرة علي السيطرة التامة على نفسه" .

أسرع العالم الأميركي  بالرد وهو يرنو بنظره إلي زوجة المضيف: "دقيقة من فضلك. يا سيدة واينز. كيف عرفت أن الكوبرا موجودة في الغرفة؟"



رسمت المرأة على وجهها ابتسامة صغيرة قبل أن تجيبه قائلة: "لأن الكوبرا كانت تزحف على قدمي".


Mona Gardner مونا جاردنر   (1900 – 1981):

 أديبة اميركية ولدت في سياتل بولاية واشنطن في الولايات
المتحدة، وكانت تكتب رواياتها وقصصها القصيرة عن ما تراه وتسمعه في البلدان التي زارتها مثل جنوب أفريقيا، الهند، تايلاند، ماليزيا وهونج كونج، بل سمت إحدى رواياتها "هونج كونج". نشرت قصصها القصيرة في كثير من المجلات الأدبية المشهورة مثل نيويوركر وغيرها.
القصة القصيرة حفل العشاء كتبتها عام1941، تحمل الكثير من المعاني والآراء المسبقة عن تفوق الرجل على المرأة.











بلوندو الإسكافي

أقصوصة من الادب الفرنسي 
ترجمة:   زيد الشهيد



لا أحد من الباريسيين لا يعرف "الاسكافي بلوندو" الذي يتخذ من دكانٍ في شارع "كرتيسى دوتيرير" مأوى للعمل والسكن .. يُصلح ما اهترأ من الأحذية ويهزأ ممّن لا يتمتع بالحياة .. يحسب دنياه
فسحةً للبهجة والنبيذ الفاخر حباً يعلو فوق عديد الرغبات , مستعداً لمشاركة من يبغي منادمته صارفاً نهاره مدندنا ًومغنياً ، داعياً
جيرانه للاستمتاع ..لهذا لم يكن يوما كمداً ولا حزيناً باستثناء مشكلتين مازال يتذكرهما : الأولى يوم عثر على قدر حديدي في جدار متهالك, فوجده مليئا بكمية وفيرة من مال لعملة قديمة , قديمة جداً ؛ ذهباً وفضة .. ولأنه وقف عاجزاً عن تقدير قيمتها الهائلة فقد سبّبت لديه قلقاً .. صار شغله الشاغل ذلك القدر المليء بالقطع البراقة  , لذا طفق يفكر : " إن لم يكن المال رهن الاستعمال في هذا الوقت فمتى إذا يمكنني شراء الرغيف أو النبيذ .. ثم أنّي لو أخذته إلى الصاغة لبيعه فإنهم إمّا أن يتحايلون عليًَ ويخدعوني فيسرقوه عندها أخسر هذا الكنز أو أنهم سيطالبونني بنسبة كبيرة من الشراكة به مدّعين أنهم اكتشفوه أيضا . وعندها لن أحظى حتى بنصف قيمته . اعتراه ألم ممض وشعور انّ الأعين ستلاحقه أينما أخفاه فصار ما أن يخرج من مأواه لقضاء عمل ما حتى يقفل عائداً , مسرعاً كي ما يتفقده ويطمئن لوجوده . لقد تسربت إلى دواخله أذرع القلق والتوجس ووقف حائراً , مرتبكاً.. حتى جاء اليوم الذي شعر أنّه استعاد ثقته بنفسه فانبرى يحاورها : "لم أستفد من كل هذا , ولم تفدني هي . فقط ولّدَت لدي القلق والتفكير المرهق .وهذا سيجعل من يراني يساوره اليقين أنّ شيئاً ما يحدث لي .لم يجلب لي القدر سوى الحظ التعيس ."

تلك اللحظة إنبثقت في أعماقه بؤرة انشراح وقرار ارتياح استدار بتأثيرها إلى القِدر , حاملاً إيّاه , ومتوجهاً به إلى نهر " السين " ... هناك ؛ من منتصف الجسر رما به إلى الأعماق ، مختتماً كل بواعث الهواجس والارتباك .

أما المشكلة الثانية التي أفسدت عليه مزاجه وساعات إرتياحه فهي حضور ذلك النزيل الجنتلمان واتخاذهِ البيت المقابل للمأوى. كان الرجل يمتلك قرداً نزقاً ، عابثاً استطاع ارتكاب آلاف الحماقات والمخادعات المثيرة للإزعاج بينما وقف بلوندو غير قادرٍ على الشكوى للنزيل الوقور .

يقف القرد في شرفة البيت متطلعاً لما يفعله الإسكافي في مأواه وما يصنعه من قَطع السير الجلدية وإلصاقها ؛ ترميم الأحذية وترقيعها .. وحالما يبرح المسكين مكانه بغية تناول وجبة الغداء
أو العشاء أو قضاء بعض المتطلبات في الخارج حتّى يهب القرد هابطاً ، داخلاً المأوى ؛ ماسكاً السكين وقاطعاً بها ما يقع بيده من سيور وقِطع جلدية ،، تماماً كما كان يشاهد بلوندو يفعل .

إزاءَ ذلك لم يعد بلوندو الإسكافي ، المسكين يجرؤ على ترك محله لغرض إطعام نفسه أو الانصراف لتمشية بعض أعماله دون أن يخبئ جلوده ويخفيها ..

ولقد حدث لمرات عديدة أن نسي القطع الجلدية دون إخفائها في خزانته حتى إذا عاد وجد القرد قد عبث بها تقطيعاً وتمزيقاً ...

تنامى الغضب في قلبه وعظم .. وجد أنّه عاجزٌ عن إيذاء هذا المخلوق العابث خشية صاحبه . لكنه استمر محتدماً بالغيظ ، مصممّاً على إيجاد وسيلة كفيلة بالانتقام لنفسه ِ .

كان القرد يُقلِّد كل ما يؤديه الإسكافي .. إذا شحذ الإسكافي السكين شحذ القرد السكين بعده . وإذا أسند الحذاء بين ركبتيه جاء القرد بعده ، آخذاً الحذاء بين ركبتيه .. هذا ما شاهده بلوندو ؛ وهذا ما دفعه إلى دراسة الموضوع وتحقيق فعل الانتقام .

أخيراً وضع المخطط ؛ وقرر التنفيذ !

أمسك بالسكين فشحذها حتى غدا نصلها حادّاً كشفرة الحلاقة .. وما أن أبصر القرد يتطلِّع إليه من شرفة بيت صاحبه حتى أمسك السكين وراح يمررها قريباً من حنجرتهِ شمالاً ويميناً ليجلب انتباهه ... مارس ذلك لوقت ٍ كافٍ . وإذْ تأكدَ أنّ القردَ لاحظ الحركة بإمعان غادر مأواه لتناول غذائه .

وكالعادةِ هبط القرد مسرعاً ؛ مندفعاً برغبةٍ وشوق لممارسة اللعبة الجديدة التي أتقن النظر إليها ليتقن إداءها ... أمسك السكين .. وضعها بموازاة حنجرته ممررّاً إيّاها شمالاً ويميناً ؛ تماماً كما فعل بلوندو ..... ثم أنّه راح يقربها أكثر فأكثر إلى حنجرته ؛ بذات السرعة التي شاهد الإسكافي يؤدّيها ... ولم يَفَه إلاّ على السكّين تقطع حنجرته فتتّقهقر أنفاسه ؛ ويسقط مضرَّجاً بالدماء .


بونفنتور دي بيرير  Bonaventure Des Périers:
 (1500 – 1544) ولد من عائلة نبيلة . تسببّت كتاباته في خلق أعداء كثيرين له ممّا اضطره لترك باريس والاستقرار في مدينة ( ليون ) .. قضى منتحراً بسيفٍ غرزه في أحشائه .

تُرجم النص من كتاب _STORIES FROM MANY LANDS إصدار مؤسسة LONGMAN الطبعة الأولى 1984 .




قصة قصيرة


كنت في شاطئ ليدو (liido) في كسمايو مسترخياً عند
 زورقي المركون قرب الصخور الصماء على يمين أشجار النخيل الباسقات، وكنت مستمتعاً بزرقة الماء ومتأملاً بجمالية المكان
وشاعرية الموقف وبُعد الأفق الذي يتداخل بالتأني مع زرقة الماء عند منتهى البصر، كنت في مزاج عالي، وفي مشارف لحظة نادرة من الصفاء العميق إذ أطّلّت عليّ نجمة تدثرت بالجمال وتخمّرت بالبهجة! تحركتْ نحوي بإثارة مفتعلة وخطى ثابتة ترسم أصابعها الجميلة على رمال الشاطئ بلوحة بانورامية رائعة يجملها رزانة عجيبة ومشية لاريث فيها ولاعجل.

جلستْ بهدوء متكأة على كرسي خشبي مبلّل برذاذ الماء المتناثر على الهواء لحظة تحطم الأمواج على الصخور، وعلى صفح الجبال الممتدة على طول الساحل في أقصى زاوية من المكان الرومانسي المخصص للملكات بالأصالة، كشفتْ وجهها ورقبتها عن الخمار؛ فبدا وكأنه البدر في ليلة حالكة الظلام وحركات خصلات شعرها الفاحم زادت المكان جمالاً وبهاء وكأنه ضوء ماسي أخّاذ.

نظرتُ إليها برومانسية موغلة في البدائية وكأني أرعى أبلي في ريف طجحبور أو أعالي سهول نغال ولست سائحاً في منتجع
يرتاده العاشقون، وممن تجولوا العالم واستجمموا سواحل المتعة وشطآن الحب، وبعد معركة رهيبة في داخلي عزمت أن أوجّه إليها التحية كمناورة إستراتيجية وتلطيف للأجواء وكمقدمة لقصة قد تطول! لم تلتفتْ إليّ ولم تأبه لفضولي بل عزفتْ بوتر اللامبالاة المدويّة وتوغلت في نظرها للأفق وكأنها تقرأ تفاصيل الطبيعة أو مصابة بجفاف العاطفة وخمول الذاكرة، حاولتُ عبثاً أن أتقرب إليها وأتواصل معها عاطفياً لكنها واجهت بتوسلاتي الروحية وإيحآتي الرومانسية مزيداً من الغباء الذهني والبرودة المحيّرة ! ليت الأمر توقف عند ذلك بل فسرتْ هذه الجرأة المقصودة حباً للاستطلاع وفضولاً طفولياً ومناورة لصعلوك يتودد إلى قلوب الغواني، وربما قالت في نفسها هي مجرد حركات صبيانية ونزوة شبابية يريد أن تقوده إلى سندريلا الزمان ومن تغار عليها الظباء ويخفي القمر طلعته استحساناً لأغيدها.

وبعد إلحاح مثير من لغة الجسد استقبلتني بابتسامة باهتة بلا عنوان أظهرت ثغرتها وكأنها شمس تجلّت من غمام! جمعتُ قوتي ولملمتُ أطراف مشاعري وأرسلتُ إليها زفيراً ساخناً
وجملاً متقطعة ماكرة تلبي الحاجة وتفي المقصود، ولا تفضح الصب وتحمل التشبيب في طياتها ! ادارتْ وجهها الصبوحي بـ 90 درجة بسبب حياء أنثى تقليدي، وطغى في تعابيرها أناقة الرضى التي مهدت حواراً لم يدم طويلاً بل أجهضه الزمن كعادته.

غادرتُ شاطئ ليدو وأنا أجر جنين الحب وخيبة الفراق بعد أن فرق النوى بيننا، وفي سحيق الجوى تذكرت أبيات لأبي حزم، وتمتمت بها وأنا أودع لؤلؤة تنمقت يد الجمال عليها، ولا أدري هل يجمعنا الزمن مرة أخرى أم هكذا يطبع البين صورته على حياتنا ويفرق شمل المحبين؟ وهل تمر حياتي وتجمّل أناقتها على مسيرتي ولو كعابر سبيل؟!


كيف أذم النوى وأظلمها *** وكل أخلاق من أحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به *** فكيف إذا حل بي نوى وهوى



استغربت ضعف قلبي وسرعة عاطفتي ولكن أيقنت أن حصان المشاعر جامح دائماً، وأن بعض الحب يبدأ من أول نظرة، وأن لوعة الحب يصعب مقاومتها.


التبسّم والموافقة الوجدانية كانا أبرز إنجازي في ذلك المساء الصعب، وقد جمعنا اتصال عاطفي رهيب ورحلة وجدانية سريعة قصيرة وشيقة، اتبعها فراق البين ولا غرو فأيام الربيع أقصر فصول السنة وأروعها.

أرخى الليل سدوله وسلمت جفوني إلى الكرى؛ ولكن طاردني طيفها وهاجمتني إلف المحبة بلا حبيبة تشاركني لوعة الحب ووصال العشق، وبت ليلتي وأنا أعيش نية الوصل مع حبيبة غائبة 
في رحم الغيب لا أعلم هل أتلذذ بهمس حروفها ونشوة كلماتها وعبق أريجها الفواح؟ أم خلق لغيري ليعيش مسرات لا تنتهي وحبور لا ينقطع، توجهت إلى غرفتي الكئيبة تحت قبة ليل مظلم عاطفياً، كنت مجتهداً لتظيم تراكم الحب في رفوف الذاكرة؛ لأجعل حبي الجديد ملئياً بالشجن والجمال، ولكن الذكريات الصادحة من بعيد مع صرير الرياح ونباح الكلاب في حيّنا الهادئ، وفي غرفة حالكة الظلام أغرد فيها وحدي كفينيق عنيد يغرد فوق هضبة ذات أشجار كثيفة قرب عين بيدوا المدرار تجعلك لاتنام ليلاً بل تؤثر الأعصاب والمشاعر كفنجان قهوة ترتشفه على مهل في كافتيريا متواضعة على أعتاب خريفها في حيّ حمرويني العتيد، أو كمفارش القات في الفنادق الجميلة في هرر حيث يستقبلك الجميع بابتسامة روتيتية صفراء وأغاني شجية ذات الأوتار الخماسية التي تذكرك كيف يقفز الحب عوائق الطبيعية والحياة، وكيف يتلذذون بنهم واضح صوت العندليب وهو يعزف عوده الطري ويردد مناجاته الشجية مع الحبيبة ويعاتب الجغرافيا ويتذمر عن الطبيعية في جو رومانسي حالم،
كم أنا مولع بالمقاهي التي تقدم تلك الأغاني كطريقة خاصة للاستقبال والاعتذار معاً، وكم أحب الاعتذار الذكي في وسط المعاناة المشوبة بومضات زمن الجميل وفي الأجواء الخاصة عاطفياً.

وبعد إسبوعين من المعاناة وتعلق غريب لشخصية غير معروفة اعترفت أني لفي أصعب الحال من حبها والتعلق بمعدوم قد يؤدي إلى شرب المنون صفواً، وبما أنني لم أزل أتمسك بخيط الحب عن الذات والوقوع بحب غامض المعاني استحال الوصال مع المعشوقة عزمت أن أستمع لصوت العقل وانقطعت عن الغزل وأسبابه إلى الأبد وعدت إلى رشدي.


 حسن محمود قُرَني:


كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.


Twitter Bird Gadget