أنّا كارنينا ل تولستوي
ملخص ودراسة تحليلة د. أيمن أبو الحسن

                                                         غلاف أول نسخة من آنا كارنينا. موسكو، 1878.


تطفو على سطح الحدث في الرواية نماذج بشرية متنوعة، معظمها مريض مرض الطبقية، مرض النبل، مرض الإرث
الثقيل، والنماذج البشرية، هذه هي غالباً نماذج مهتزة غير سوية، تتفاعل في داخلها صراعات كثيرة، أبرزها ما بين القلب والعقل أو بين الحب والواجب، وما بين القشور واللباب.

تعد هذه الرواية من أكثر الروايات إثارة للجدل حتى اليوم، ولأن تولستوي يناقش فيها إحدى أهم القضايا الإجتماعية التي واجهت كافة المجتمعات الإنسانية، خاصة الأوروبية بُعَيْدَ الثورة الصناعية، وما نتج عنها من اهتمام بالمادة، وما ظهر من أمراض تتعلق بالمال لدى الطبقات الأرستقراطية آنذاك.

أحداث الرواية:
" يقولون إن النساء يحببن فى الرجال حتى رذائلهم.. وأنا أكره فيه فضائله!. لا أستطيع أن أعيش معه! لكن ماذا أفعل .. لقد كنت شقية.. وكنت أعتقد أن الإنسان لا يمكن أن يكون أكثر شقاء مما كنت، لكن الحالة الفظيعة التى أجتازها الآن تفوق كل ما تصورت، أتصدق إني أكرهه برغم علمي بأنه رجل طيب ! بل رجل رائع! وإني لا أساوي أصبعاً من أصابعه؟.. إنى أكرهه بسبب كرمه....

هذه هي اللحظة الحرجة في أهم رواية عرفتها البشرية، ربما أصبحت آنا أشهر إمرأة فى التاريخ، رغم إنها شخصية روائية .. ولكن لم يهتم العالم كله بإمرأة مثلما إهتم بآنا.. بل ربما دخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية بعدد الأفلام التى صورت هذه الرواية وتجاوزت 15 فيلما على مستوى العالم بمختلف ثقافاته وإختلاف مفهومه للشرف والخيانة الزوجية وتباين الأديان والمعتقدات.

آنا كارنينا هي طاغية الجمال، " ولا أغالي إن جهرت برأيي في
        سحرك وجاذبيتك.. فلسحرك سلطان عظيم.. ولقد ذهلت عن نفسي طيلة اجتماعي إليك. وكان شغفي بك كثيراً.. وإعجابى بمحاسنك ومناقبك أكثر وأشد..؟ ليس فقط الجمال الظاهر رغم تمتعها بكل عناصره المبهره .. لكن ايضاً سحر الحضور الذى يستحوذ على من يراها .. هي شخصية فاتنة، ساحرة وجميلة بذلك الجمال الظالم ...كانت خارقة الجمال." في اللحظة التى إلتفت أليها، إستراحت على وجهه عيناها الغبراوان، اللتان زادتها سواداً كثافة أهدابهما، وإبتسامة خفيفة ترف على شفتيها الحمراوين، إن طبيعتها تطفح بشئ يظهر –برغم إرادتها – فى بريق عينيها وفي إبتسامتها..." لقد أفاض وأسرف تولتسوي ربما إلى حد التبذير... فى وصف جمال آنا وسحرها " حتى لتراها وتحسها إنسانة حقيقية تراها .. وتشم عطرها .. هي أجمل وأرق وألطف نساء الدنيا.. وإلى ذلك فهي زوجة أهم رجل فى الدولة، ولها إبن آيه في الذكاء والجمال... أين الصراع ؟؟ وأين الدراما؟؟؟ لب القضية أنها لا تطيق الكذب، هي إنسانة صادقة مع نفسها.. مخلصة .. ولذلك عندما تقع فى الحب.. لا تخفي حبها.. بل تطالب زوجها العظيم بالطلاق، لم تفعل ما تفعله معظم أو كل الزوجات الخائنات.. أن يمتلكن عشيق أو أكثر فى الخفاء.. هي تحدت المجتمع؛ وستدفع الثمن.

تبدأ القصة، بزيارة آنا لشقيقها، إثر خلاف كاد أن يعصف بأسرته، حيث إكتشفت زوجته، أنه يخونها مع المربية، وتنجح آنا فى إنهاء تلك العاصفة بما لها من سحر لا يقاوم على كل من تقترب منه، ولكنها تقع للمرة الأولى فى حياتها فى حب الضابط الفارس "فرونسكي".

وفي أول تصريح من الفارس عندما تسأله لماذا هو على نفس القطار؟ يجيب" تعرفين جيداً إني جئت لأكون حيث تكونين، إنه أمر لا حيلة لي فيه ." وكانت العاصفة في المحطة ضارية ولكنها بدت لآنا ممتعة لأنها سمعت الكلمة التى تتوق إلى سماعها – وإن خشيتها بعقلها- فتجيب إنه غير لائق هذا الذى تقول.. كفى .. كفى.. ولكنها بعد لحظات تقابل زوجها وتحدث نفسها: رباه لم تبدو أذناه بهذه الهيئة؟ ولأول مرة تنبهت إلى النفور الذى أحسته نحوه حين لقيته.. وهذه اللحظة هى بداية الصراع.. الذى سيصل إلى ذروته ... بعد أن تستقر فى طريق الحب الحرام تقول عن زوجها أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا، هل يستطيع شخص عنده ذرة من الإحساس أن يعيش فى بيت واحد مع زوجته التي تخدعه؟ بل إنه يخاطبنى ب" عزيزتى" إنه فاقد الضمير والشعور.. بل إنه ليس رجلاً، ليس إنساناً على الإطلاق..إنه دمية لا أكثر.. لو كنت مكانه لقتلت ومزقت زوجة مثلي !!! إنه لا يستطيع أن يفهم إني أصبحت زوجتك أنت؟ وتزيد فى أسباب مقتها له وتقول: إنه لا يعرف غير الطموح  وليس فى دنياه إلا المناصب، وما آراؤه السامية وولعه بالثقافة وتعلقه بالدين، غير بعض الوسائل إلى مطامعة، وبرغم كل ما قالته عن زوجها .. وبعد ولادة إبنتها غير الشرعية، وإصابتها بحمى النفاس التى أوشكت ان تودى بحياتها ... قالت بصدق من يغادر الحياة، لنفس الزوج: هناك إمرأة أخرى بداخلي .. هي التي أحبت فرونسكي .. أنا خائفة منها.. لقد حاولت أن
   أكرهك.. انا الآن على حقيقتي.. إني أحتضر.. ولا أريد سوى مغفرتك.. إني مخطئة ... وبعد أن تتعافى تماماً من الحمى تعود لفرونسكي وتعود لكراهيتها لزوجها. ثم تتخلى عن ابنها الرائع فى سبيل ذلك. 


فرونسكي الضابط والفارس الممشوق الفاتن للنساء، صاحب الإنتصارات المدوية فى دنيا الغرام، من أسرة نبيلة ومنصب حربي مرموق يعد بأفضل مستقبل لفارس مشهور، له دستوره الخاص فى شأن النساء:

- المجتمع.. قد يسخر من العاشق الذى يفشل في حبه لفتاة، أو لإمرأة غير متزوجة! ولكنه لا يسخر مطلقاً بل قد يصفق، للرجل الذى يطارد بحبه بكل إستهتار زوجة رجل آخر.. ويجعل هدفه الأول فى الحياة أن يغريها بالسقوط...

 - يحرم على الرجل أن يكذب على رجل مثله، لكنه يجيز له أن يكذب على إمرأة ، ويحرم على إمرأة أن تغش أحداً سوى زوجها، ويحرم على الإنسان أن يغفر الإهانة لكنه يجيز أن يهين غيره.

-من حق كل فرد في المجتمع أن يعلم بأمر علاقته بمدام كارنينا، ولكن ليس من حق أحد أن يتحدث عن ذلك علانية، وهو مستعد لإجبار من يتحدث على الصمت وعلى إحترام شرف المرأة التي يحبها..

 آنا أحبت فرونسكي حباً جماً.. ومقتت زوجها لأبعد مدى .. وهي صادقة مع نفسها ..لأنها بكل ما تملك من مشاعر تعشق إبنها أكثر من أي أم، وهذا هو قمة الصراع في هذه الرواية الخالدة .. الأبن والزوج في كفة.. والحب والحبيب في كفة أخرى .. وهي في المنتصف ..

وقالت ذات يوم لزوجة شقيقها "أنا لا آذي أحداً غير نفسي .. فلست أملك حق إذاء الغير.. ثم قالت .. إني أحب إبني وفرونسكي بالتساوي فيما اعتقد.. أحب كلاهما أكثر مما أحب نفسي .. هذان هما المخلوقان اللذان أحبهما.. لكن كل واحد يطرد الآخر من حياتي.. ليس في وسعي أن أحصل عليهما معاً" .. و قد كان وإتخذت أخطر قرار ممكن إتخاذه من زوجة وأم، أن تترك الزوج والأبن وترحل مع الحبيب.. وهذه هي لحظة إنتحار " آنا" لأنها الأن وقعت تحت رحمة – ولا رحمة – المجتمع.. فلقد نبذها المجتمع وعاشت في وحدة قاسية بعد أن كانت تتمتع بحب الجميع وإنبهارهم بها أينما حلت .. وحرمت من إبنها .. ثم الطامة الكبرى وهي بداية نهاية تعلق "فرونسكى" بها بل زهده فيها وايضاً بداية إحساسه بأن علاقته بها تخنقه وتضيع عليه الفرص الثمينة في الترقي في الجيش والحصول على أعلى المناصب وهو حلم عمره، بل أنه بدأ يرى جمالها و " كأنه إكتسب طابع الاذى والخطر!!"


وبداية شعور آنا بتغير مشاعر فرونسكي .. وبرغم حسنها
   الباهر.. " كانت تعاني ما يعانيه مضارب فى البورصة" !! يصف لنا تلستوي مراحل إنهيار آنا فى إدمانها للمورفين الذى بدونه مستحيل أن تنام ولو للحظات.. كانت الآن قد تيقنت من "برود" ما قد بدأ يظهر ويتفاقم، ولم تكن تملك أن تفعل شيئاً، لم يكن فى وسعها أن تغير صلتها به .. بعد أن إستغنت عن كل الدنيا .. وكان المورفين هو الدواء لخاطر لعين يلح على ذهنها بإستمرار.. ما عساه أن يحدث لو كف عن حبها يوماً؟؟ وهو ما حدث بالفعل بعد قليل .. وأصبحت آنا فى تلك المرحلة التى تريد أن تختبر فيها سحرها على من تراه من الرجال .... كمضارب البورصة .... لترى هل خسرت قيمة أسهمها؟؟ وها هي تقرأ في عيني فرونسكي، الفتور والبرود والتجاهل، وأدركت بشكل يقيني، أنه إلى جانب الحب الذى يربطهما فقد نشب بينهما صراع شرير، رهيب، يتعذر عليها إقتلاعه من قلبه وقلبها أيضاً... وكل يوم يمر يزيد الشقة إتساعاً.. وإستقر في وجدانها أن فرونسكي يستشعر الأسف بل والندم بتورطه فى مأزق إرتباطه بها .. وكذا أضمر كلاهما لصاحبه الحقد والضغينة .. إقتناعاً من كل طرف أن الآخر هو المخطئ.. فقد ظل فرونسكى كما بدأ من البداية الفارس الوسيم المفتون بنفسه، العاشق للنساء .. كل النساء.. وهي تجاهد أن يكون لها وحدها .. وكلما تناقص حبه لها .. أيقنت أن هذا النقص إنما يصب فى حب إمرأة أخرى .... وبدأت الغيرة القاتلة بل الشك المدمر... وبدأت فى كل لحظة تلقي عليه اللوم لفقدانها إبنها، ولوضعها المخزي فى المجتمع .. وللمنفى الإجتماعي الذى تعيش فيه بعيد عن أي صداقات .... حتى أن إحدى صديقاتها المقربات إعتذرت عن إستقبالها فى بيتها ... لأن لها بنات على وشك الزواج .. وإستقبال آنا قد يعوق زواجهن ...

و يزيد إحساس آنا بالوحشة والتعاسة، حتى إنتهت إلى قناعة لا ريب فيها .. أن الحب قد إنتهى ... ولأنها أعطت لذلك الحب كل حياتها .. فإن حياتها إنتهت معه ... ولمعت فكرة الموت كمرادف لإنتهاء الحياة ..هو وسيلتها الآن لتنتقم من فرونسكي بالإنتحار.. وبدأت تصور لنفسها مدى لذة الألم الذي سوف يقاسيه بعد موتها ... والندم الذي سيندمه .. والحب الذى سيريقه على ذكراها... ولكن بعد فوات الأوانٍ.

ثم تأتى المشاهد التى تقترب من النهاية وتحدث آنا نفسها .. لقد
   ذهب... إنتهى كل شيئ.. وتعاودها ذكرى الظلمة التى سادت مخدعها بالأمس.. حين إنطفئت الشمعة، فملأ قلبها رعب بارد .. وشعرت بهلع من الوحدة .. ثم تكذب يقينها .. وتقول إنه سوف يعود .. وحتى لو لم يبرر موقفه .. سأصدقه.. لأني لو لم أفعل فلن يبقى أمامي غير شيئ واحد .. لست أجرؤ عليه... ولكنه لم يعد وأرسل برقية لها " لن أستطيع الحضور- فرونسكي" فأشلعت البرقية في صدرها رغبة الإنتقام وحدثت نفسها إذن فأنا أعرف ما ينبغي أن افعل... سأصارحه بكل شيئ قبل أن أختفي من حياته إلى الأبد .. ما كرهت في حياتى شخصاً كراهيتي الآن لهذا الرجل - نلاحظ الآن أنها بدأت بكراهيه زوجها وإنتهت بكراهية حبيبها - وعادت إلى المحطة .. كما بدأت من المحطة ...

واثارت ضحكات المسافرين سخطها وحنقها وحدثت نفسها  هل في الدنيا شيئ يسر به الإنسان؟ بل يضحك له؟ إنها لتود أن تصم أذنيها كي لا تسمع الضحكات.. ودوت صفارة القطار وفحيح البخار المحبوس- فى صدرها- وجلجلة السلاسل- وتحركت أحجار الرصيف!!! وتحرك القطار بمحاذاتها ودرجت على القضبان فى نعومة .. وأطلت شمس الغروب – النهاية - من نافذة القطار.. وهزت نسمة خفيفة ستائرها... فقالت آنا إلى أين كنت قد وصلت بتفكيري؟؟؟ إلى أني لست أجد لحياتى مخرجاً.. ينتشلني من تعاستي.. لقد خلقنا جميعاً تعساء.. ونحن نعرف ذلك ولكننا نتفنن في إختلاق الوسائل كي نخدع بعضنا البعض.. وقالت لنفسها مرة أخرى تخاطب القوة المجهولة التي نسجت عذابها .. كلا لن أدعك تستمرين فى عذابي!!

ثم عادت إلى ذكرى أول لقاء في نفس المكان .. وأدركت ما ينبغي ان تفعله.. ورسمت علامة الصليب.. وأعادت تلك الحركة، سلسلة كاملة من ذكريات الصبا والطفولة .. وفجأة إنقشعت من امامها الظلمة التي كانت تكتنف كل شيئ.. ولاحت لها الحياة بكل
  متعها الماضية المشرقة ثم القت بنفسها بين العجلات الثقيلة .. واصابها رعب قاتل .. أين أنا؟ ماذا أصنع؟ ولماذا؟ وحاولت أن تنهض.. تتراجع.. ولكن شيئاً هائلاً قاسياً صدم رأسها فصاحت .. يا إلهى إغفر لي.. واحست ان المقاومة باتت عقيمة .. والنور الذى قرأت على هديه الكتاب الحافل بالمتاعب والزيف والأحزان والشرور.. توهج لحظة .. أبهى مما كان.. فأضاء في وعيها كل ما كان غارقاً فى الظلام.. محجوباً عن بصيرتها .. ثم إختلج.. وبدأ يغيض ويتضاءل ... حتى إنطفأ إلى الأبد.

هكذا أنهى تولستوي اهم رواية فى تاريخ الأدب ويتركنا نبحث وندرس ونتعلم، ونستفيد من تجربة إنسانية عالمية، كل العالم بكل ثقافاته ودياناته ومعتقداته، تأثر بها .

هي إذن ضحية نفسها ، ظروفها، جمالها الفاتن، زوجها ،حبيبها، صدقها، ميول إنتحارية اصيلة فى نفسها، بإعتبار أن الانتحار ليس الهرس تحت عجلات القطار فقط .. الانتحار هو الإنخراط في علاقة غير مشروعة، وغير مقبولة إجتماعياً، الانتحار هو أن تتخلى أم عن إبنها مهما كان السبب، الانتحار هو ان ترفض زوجاً يكرس حياته لنجاحه الشخصي وأيضا لإسعادها وإحترامها لما يشبه التقديس؟