المرآة المحدبة



دخلتُ مع زوجتي إلى غرفة الاستقبال في القصر القديم الذي ورثته عن جدودي. كانت تغمر المكان رائحة الغبار والرطوبة، مئات الجرذان والفئران قفزت في كل ناحية عندما أضأنا الجدران التي لم تعرف النور منذ قرن تقريباً، وعلى هذه الجدران التي أصبحت خضراء من القدم كانت معلقة صور جدودي. كان الهواء يعول ويصفر، وكأن أحداً يبكي في مدخن الموقد وفي بكائه شيء من اليأس، وكانت نقاط كبيرة من المطر تتساقط على زجاج النافذة القاتم فتحدث نغمة مزعجة تثير الاضطراب.

"أيها الجدود"- قلت لاهثاً- "لو كنت كاتباً لألفت قصة طويلة رائعة وأنا أنظر إلى صوركم هذه". كل واحد من هؤلاء الشيوخ كان له في فتوته قصة وأية قصة. أنظر مثلاً إلى هذه المرأة الهرمة- إحدى جداتي- لقد كانت قبيحة جداً ورغم ذلك لها تاریخ غريب ومسل في وقت واحد.
- هل ترين يا عزيزتي- قلت موجهاً الحديث لزوجتي- تلك المرآة المعلقة هناك في الزاوية؟
وارتدّت زوجتي إلى مرآة كبيرة في إطار من المعدن الأسود معلقة قرب صورة جدتي التي مر ذكرها.
- إن لهذه المرآة خصائص فريدة، فقد اشترتها جدتي بثمن باهظ ولم تفارقها حتى الموت، وكانت تنظر إليها ليل نهار ودون انقطاع حتى في فترة طعامها وشرابها. وفي الليل تضعها في السرير معها، وعند احتضارها طلبت وهي تلفظ النفس الأخير أن توضع المرآة معها في القبر. وقد حاولنا تنفيذ وصيتها إلا أن المرآة لم تدخل النعش لكبر حجمها!
ـ لقد كانت غنجة جدتك إذًا؟ قالت زوجتي باسمة.
قلت: لنفرض، ولكنها خصت هذه المرآة بعنايتها. ألا يوجد أحسن منها؟ كلا يا عزيزتي، هناك سر غريب، إن أسطورة تقول إن في المرآة شيطاناً، وكانت جدتي تهوى الشياطين. ولكن هذه سخافة لا يعول عليها، ولا شك في أن للمرآة ذات الإطار الأسود قدرة عجيبة. 
ثم أزلت الغبار عن المرآة ونظرتُ فيها؛ فانفجرتُ ضاحكاً، فأعاد الصدى ضحكي ضجة مزعجة، فالمرآة مشوهة لذلك غيرت ملامح وجهي، فأنفي أصبح ملصوقاً في وسط خدي الأيسر، أما ذقني ظهر ثلاثة ذقون في ثلاث جهات!
ـ لقد كان لجدتي ذوق غريب!
قلت وأنا أنظر لزوجتي، فتقدمت زوجتي من المرآة ونظرت فيها... وهنا أعجز عن وصف ما جرى!
لقد تغير وجه زوجتي وارتجفتْ أوصالها ثم صرخت بكل قواها، فسقطت الشمعة من يدها وانطفأت، وغمرنا الظلام، وبعد برهة سمعتُ حركة ناتجة عن سقوط شيء ثقيل... إنها زوجتي! فقدت الوعي وسقطت إلى الأرض.
وكان الهواء لا يزال شديداً، وعادت الجرذان إلى الجري والتنقل في الغرفة، فانتصب شعر رأسي من الخوف، ولم يهدأ روعي إلا عندما دخل ضوء القمر من بين ستائر النافذة، تقدمتُ من زوجتي وحملتها خارج غرفة الجدود. ولم تفق حتى مساء اليوم التالي، ولما عاد إليها الرشد صرخت قائلة:
-المرآة! أعطني المرآة! أين المرآة؟

وبقيتْ طوال الأسبوع الذي تلا هذه الحادثة لا تأكل شيئاً ولا تشرب شيئاً بل دائماً تسأل عن المرآة وتطلب إحضارها، ثم تبكي بغزارة وتشد خصلات شعرها بقوة وعنف. ولما أحضرت الطبيب أكد لي أن هذه الحالة إذا استمرت ستودي بها حتماً إلى التلف. عند ذلك تملكني الخوف على زوجتي المسكينة فركضت إلى غرفة الجدود وحملت لها مرآة جدتي القديمة، وحالما رأتها صرخت من الفرح ثم تناولتها بشغف وقبلتها، ووضعتها أمامها.

وها قد مضى عشر سنين وزوجتي لا تفارق المرآة لحظة واحدة!
وذات يوم سمعتها تقول وهي تنظر في المرآة: أممكن أن هذه أنا؟ نعم أنا دون أي شك! الكل يكذب سوى هذه المرآة! الرجال كاذبون، زوجي كاذب. آه لو أني أدركت حقيقة أمري قبل اليوم، إذاً لماذا تزوجت هذا الرجل الجلف، إنه ليس أهلاً لهذا الجمال السماوي الرائع! أود أن أرى أشرف الرجال وأعظم الفرسان يسجدون أمام قدمي الجميلتين.

تقدمتُ مرة خلف زوجتي وقد أمسكت المرآة، فذهلت من العجب؛ و كدت أفقد الرشد لما رأيت: رأيت أمامي امرأة ذات جمال ساحر جذاب لم أرَ مثله طوال حياتي، انسجام تام في الجمال وفي التكوين... ولكن ما الذي جرى؟ بل ما سبب ذلك؟ لماذا تظهر زوجتي القبيحة المفرطة في القبح والبشعة المفرطة في البشاعة في مثل هذا الجمال النادر في المرآة؟ لماذا؟
وفي أثناء هذه الدهشة التي استولت عليّ كنتُ وزوجتي لا نزال واقفين أمام المرآة دون أن ترفع عنها أعيننا. كان أنفي يصعد نحو خدي الأيسر وذقني يتضاعف ويتجه في كل ناحية. وظهر وجهي مثله مشوهاً وهو المنسجم التقاطيع بينما وجه زوجتي يكاد يبهر النظر رغم ما هو عليه من القبح والبشاعة!
وهنا تملكني شعور غريب مجنون، فانفجرتُ ضاحكاً كالمجنون أما زوجتي فقد تمتمت بصوت منخفض مسموع : رباه! كم أنا جميلة!



ترجمة: جواد صيداوي


أنطون بافلوفيتش تشيخوف 1860-1904

طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي كبير، ينظر إليه على أنه من أفضل كتَّاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس.
كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين.

بدأ تشيخوف الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو، ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء، واستمرّ أيضاً في مهنة الطب.
وكان يقول "إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".

 

 

Twitter Bird Gadget