الخريطة…والطفل….


ترجمها عن التركية أحمد غنام

جلس الرجل صباح يوم الجمعة يقرأ جريدته، وهويحدث نفسه ويقول لن أسمح لأحدٍ اليوم أن يعكّر عليّ يوم عطلتي هذا، حتى جاء صغيره وهو يقول له: أبي متى سنذهب اليوم إلى السينما؟

نظر إليه أبوه وتذكر أنه وعده في الأسبوع الماضي أن يأخذه إلى السينما.

ولكنه اليوم كان مصمماً أن يستمتع بالعطلة هذه، فنظر في جريدته التي كان يقرؤها فرأى على إحدى صفحاتها صورة لخريطة العالم، فما كان منه إلا أن قطع صورة الخريطة إلى قطع صغيرة ونثرها أمام ولده قائلاً:

عليك أولاً أن تقوم بتجميع وإصلاح هذه الخريطة وبعدها نذهب إلى السينما، ثم عاد ليستمتع بقراءة جريدته وهو يقول:

إن أكبر أستاذ جغرافية لن يستطيع تجميع هذه الخريطة إلى المساء.

ولكن الطفل عاد بعد عشر دقائق، ووضع الخريطة أمام والده، وقال: 

هذه هي الخريطة جاهزة، هل أجهز نفسي للذهاب الآن؟!

فذهل الوالد مما رأى أمامه، وقال لطفله:

كيف نجحت في تجميعها بهذه السرعة؟!!!

فرد عليه الطفل قائلاً:

أنت يا أبي عندما أعطيتني صورة الخريطة، نظرت في الخلف فرأيت صورة إنسان فقلت في نفسي:

إن أنا أصلحت هذا الإنسان فإن خريطة العالم بطبيعتها ستنصلح.!!!

الموت في سامراء

 قصة قصيرة جداً ل غابرييل غارسيا ماركيز
  ترجمة صالح علماني


 رجع الخادم إلى بيت سيده وهو يرتجف خوفاً. 
ــ سيدي ــ قال ــ لقد رأيتُ الموت في السوق وقد أومأ إليّ متوعّداً. قدم إليه السيد حصاناً ونقوداً وقال له: 

ــ اهربْ فوراً إلى سامراء. 
هرب الخادم.
 وفي وقت مبكر من المساء، التقى السيد في السوق بالموت. 
فقال له:
 ــ هذا الصباح أومأتَ إلى خادمي إيماءة توعّد.
 فأجابه الموت: 
ــ لم تكن إيماءة توعد، وإنما استغراب. 
لأنني رأيته هنا، بعيداً جداً عن سامراء، حيث عليّ أن أقبض روحه هناك هذا المساء.




غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز ( Gabriel José García Márquez) :

( 1927- 2014) روائي وصحفي وناشر وناشط  




وسياسي كولومبي. عاش معظم حياته في المكسيك وأوروبا وقضى  معظم وقته في مدينة مكسيكو. نال جائزة نوبل للأداب عام 1982 وذلك تقديرا للقصص القصيرة والرويات التي كتبها.




ومن أشهر رواياته:


*مائة عام من العزلة 1967 :والتي بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة .

*خريف البطريرك، 1975.

*قصة موت معلن، عام 1981 .


*رائحة الجوافة عام 1982 .
*الحب في زمن الكوليرا، عام 1986 .

من ترح إلى فرح



أبو فياض وهذا هو لقبه، شاب في الثلاثينيات، أمّي لا يميز بين الألف والعصا كما يقال، ولا يتقن من الأعمال سوى حمل الأثقال، يكلفه تجار السوق بنقل البضائع من وإلى مخازنهم، وما يحصّله
من مال مقابل تسخير عضلاته، ينفق منه على عائلته الصغيرة المكونة من والدته، وزوجته الشابة، وطفله حديث الولادة...
وذات يوم، عاد أبو فياض، من عمله متعباً، هرعت زوجته كعادتها، فأحضرت " طشت" الماء الساخن وابتدأت تدلك قدميه..
وفجأة..
انقلب الرجل فوقها، وبصعوبة تمكنت زوجته بمساعدة حماتها، من الخلاص، وعندما قلبتاه على ظهره، لاحظتا الزبد وقد تجمع فغطى فمه،  فأخذت المرأتان تولولان.
تجمع الجيران، ثم تمكنوا من الدخول عنوة، ليشاهدوا الرجل وقد فقد الحياة، إلا أن والدته رفضت الإعتراف بموته، وتوسلت أهل الخير ليحضروا له الطبيب أو ينقلوه إليه..
كان الوقت متأخراً.. ولكن الطبيب حضر، ليعلن وفاته ثم ليكتب لهم شهادة وفاته..
أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب والبكاء،
وأما والدته المكلومة فما انفكت تردد: " ابني ليس ميتاً .. قلبي يحدثني بذلك !"
غسَّلوه .. سجوه في التابوت .. رفعوه على الأكتاف، وكلهم أسى وحزن على شبابه ..
حتى تجار السوق خرجوا في جنازته وقد تكفلوا بجميع مصروفاتها، وكلهم يلهجون بطيب أخلاق المرحوم أبي فياض وأمانته ...
أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب والبكاء والإشادة بطيب أخلاقه وطلاوة لسانه وحسن معاملته ...
وأما والدته المكلومة فما انفكت تردد: " ابني ليس بميت .. قلبي يحدثني بذلك .. وقلب الأم دليلها ...وقلب الأم لا يخيب حدسه ...! "
في منتصف الطريق إلى المقبرة، شعر حاملو التابوت بحركة غير
عادية فيه، ظنوها في البداية كرامة، 
ثم .. 
سمعوا نقراً، فأجفلوا ..
ثم ...
أنزلوا التابوت على الأرض وقد انعقدت ألسنتهم دهشة،
ثم ....
رفعوا الغطاء،
ثم .....
ابتعدوا مذعورين، حين شاهدوا الميت وقد جلس وهو يحاول التخلص من كفنه؛
ثم ......
انقلب العزاء إلى فرح ....


نزار بهاء الدين الزين (1931 - 2014):
أديب وفنان تشكيلي سوري ولد بمدينة دمشق،عمل في البداية
كأستاذ مدرسة. ثم ذهب الى الكويت وعمل مرشداً اجتماعياً لمدة 33 سنة. وعاش في الولايات المتحدة الاميركية بعد تقاعده عام 1990.
- أول مجموعة قصصية بعنوان ( ضحية المجتمع ) عندما كان في الثانوية العامة عام 1949. 

- كتب مجموعته الثانية ( ساره روزنسكي ) سنة 1979

وله الكثير من المقالات والمؤلفات والاقاصيص.

النفاخة الصغيرة


في صبيحة أحد، بعد الانتهاء من سماع القداس، جلس الملاكان "أونيتو" و "سغرتاريو" على كرسيين جلديين سوداوين من نوع "ميلر"، يتابعان من أعالي السماء، ما يتآمر عليه هؤلاء البشر الأوغاد على الأرض..
نطق الملاك " أونيتو " بعد صمت طويل:

" قل لي يا " سيغريتاريو "، هل شعرت أحيانا بالسعادة عندما كنت بالحياة؟"
-" يالها من فكرة !، رد صديقه مبتسماً، لكن لايمكن لأحد أن يكون سعيداً على الأرض !"
قال ذلك ثم جلب من جيبه علبة " مارلبورو ".
-" أتريد سيجارة؟ "
- بكل سرور، شكراً، رد الملاك " أونيتو "، مع أنني عادة لا أدخن صباحاً، لكن اليوم هو يوم عيد... ومع ذلك ، كما ترى، أعتقد أن السعادة...."
قاطعه " سيغريتاريو ":
-" بالنسبة لك شخصياً .. هل حدث لك ذلك؟ "
-" لم يحدث لي أبداً.. ومع ذلك أنا مقتنع أن..."
-" لكن، أنظر إليهم، أنظر إليهم إذن !، صاح الملاك " سيغرتاريو" وهو يشير إلى ما يحدث بالأسفل، إنهم ملايير وملايير، اليوم يوم أحد، والصبيحة التي هي من أهم لحظات النهار لم تنته بعد، والنهار رائع به شمس ساطعة، ليس حاراً كثيراً، بل تهب أيضاً نسمة رطبة ممتعة، والأشجار مزهرة، والحقول كذلك، إنه الربيع، فضلاً عن ذلك هم يعيشون ازدهاراً اقتصادياً، وعليهم أن يشعروا بالرضى، أليس كذلك؟ ومع ذلك، دلني على شخص واحد، واحد فقط يشعر بالرضى وسط هذه الملايير من الناس، لا أطلب أكثر من ذلك، وإذا دللتني عليه، فسأستضيفك على عشاء فاخر.."
-" طيب "
أجاب " أونيتو " وشرع يبحث بدقة هنا وهناك في الأسفل وسط هذا الازدحام اللامحدود.
انتبه إلى أنه من العبث أن يتوقع إيجاد ذلك من الوهلة الأولى، سيحتاج الأمر على الأقل إلى عدة أيام من العمل. ولكن، من يدري؟
كان " سيغريتاريو " يراقبه بابتسامة ساخرة ( سخرية لطيفة طبعاً، وإلا فأي ملاك سيكون...)
-" تباً، أعتقد أني وجدته.."
تحدث " أونيتو " فجأة وهو يقوم من على مقعده.
-" أين؟ "
-" في هذا المكان، وأشار إلى قرية مغمورة بين الهضاب، هناك، وسط كل هؤلاء الناس الخارجين من الكنيسة...هل ترى هذه الطفلة الصغيرة؟ "
-" تلك المقوسة الساقين؟ "
-" نعم.. تماماً.. لكن انتظر قليلاً حتى..."
كانت " نوريتا " الصغيرة ذات الأربع سنوات، تملك فعلا ساقين مقوسين قليلاً، وكانت نحيفة وضعيفة كما لو كانت مريضة، تمسكها أمها من يدها، وتظهر ملامح الفقر على العائلة بسهولة، ورغم ذلك كانت الصغيرة ترتدي فستان أحد أبيض مزخرفاً بالدنتيلا، ويعلم الله كم كلف ذلك من تضحيات.
وكانت توجد بأسفل سلم الكنيسة مجموعة من الباعة: باعة ورود، وبائع ميداليات وصور دينية، ثم هناك أيضاً بائع نفاخات، حزمة رائعة من النفاخات المتعددة الألوان تتموج بأناقة على أبسط هبة ريح فوق رأس الرجل.
توقفت الطفلة أمام الرجل صاحب النفاخات وهي ممسكة بيد أمها، وفي هذه اللحظة، وبابتسامة مغرية تثير الإشفاق، رفعت عينيها إليها، وفي نظرتها نوع من الشوق والرغبة والحب تعجز عن مقاومته أعتى قوى الجحيم نفسها، فليس هناك سوى نظرات الأطفال التي تملك مثل هذه القوة الهائلة، ربما لأنهم صغار، ضعاف أبرياء ( كذلك نظرات بعض الجراء المُساء معاملتها ).


ولهذا الأمر بالضبط، كشف الملاك " أونيتو " العارف بالأمور عن الطفلة الصغيرة، معتمداً التفسير الآتي: إن رغبة امتلاك نفاخة عند هذه الطفلة جد قوية إلى درجة سترغم أمها على تلبية طلبها إن شاء الله، وستكون حتماً سعيدة، ربما لساعات قليلة فقط لكنها ستكون سعيدة على كل حال، وإذا حدث ذلك حسب تقديري، فسأربح رهاني مع " سيغريتاريو ".
كان باستطاعة الملاك " أونيتو " أن يتابع المشهد الذي يحدث بالأسفل في ساحة القرية، لكنه لم يكن باستطاعته أن يسمع ما قالت الصغيرة لأمها ولا ما أجابتها به هذه الأخيرة، وذلك بسبب تناقض لم يعرف سره أحد: فالملائكة يستطيعون مشاهدة ما يحدث بالأرض انطلاقاً من الجنة، وكأن بداخل أعينهم آلات تلسكوب قوية، لكن ضجيج الأرض وأصواتها لا يصل إلى أسماعهم (ماعدا في حالات استثنائية كما سنرى بعد حين ): ربما هو إجراء من أجل المحافظة على أعصاب الملائكة من ضجيج المحركات الوحشي.
أرادت الأم متابعة طريقها وهي تمسك بيد طفلتها الصغيرة، وفي لحظة خشي الملاك " أونيتو " أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، تبعاً للقانون المرير المنتشر بين البشر، قانون الإخفاق والخيبة.
ذلك أن الطلب المثير الذي كان يشع من عيني " نوريتا " لا تقوى عليه أعتى الجنود المصفحة للعالم، لكن الفقر بإمكانه أن يقاومه، لأن الفقر لا يملك قلباً، ولا يرق لأحزان طفلة.
لحسن الحظ ، شاهد الملاك الطفلة " نوريتا " وهي تقف على رؤوس أصابع قدميها، محدقة دائماً في عيني أمها، فتتسع حدة نظراتها المتوسلة ما أمكن، وشاهد الأم تحدث الرجل صاحب النفاخات وتمنحه بعض القطع النقدية، ورأى الطفلة تؤشر بأصبعها، فيفك الرجل من الحزمة إحدى أجمل النفاخات، في أحسن انتفاخ وأحسن مظهر، وفي لون أصفر فاقع.
هاهي " نوريتا " تسير الآن بجانب أمها، وهي ماتزال تحملق غير مصدقة في النفاخة التي كانت تمسكها بخيط، فتتبعها في اندفاعات لطيفة وهي تخفق في الهواء.
لكز الملاك " أونيتو" صديقه الملاك " سيغريتاريو " بمرفقه، وهو يبتسم ابتسامة ماكرة مسموعة، فيبتسم هذا الأخير في رضى، لأن أي ملاك لا يملك إلا أن يكون سعيداً عند خسارته لرهان ما إذا كان ذلك يعني تخفيف ولو ذرة ألم من معاناة البشر .
من تكونين يا " نوريتا " وأنت تجتازين القرية بنفاختك صبيحة هذا

الأحد؟ إنك العروسة الشابة المشرقة وهي تخرج من الكنيسة، إنك

الأميرة المنتصرة، إنك المغنية الإلهية المحمولة على أكتاف الجماهير الهادرة، أنت المرأة الأكثر غنى وجمالاً في العالم، أنت الحب المشترك والسعيد، أنت الزهور، والألحان، والقمر، والغابات والشجر، أنت كل ذلك جميعاً، لأن نفاخة من المطاط جعلتك سعيدة، فلم يعد ساقاك المسكينان مريضين، بل أصبحا ساقين قويتين لرياضية تخرج منتصرة من الأولمبياد.


استمر الملاكان يتابعانها وهما يشرئبان بعنقيهما. وصلت الأم والطفلة إلى منزلهما المعلق على هضبة بضاحية فقيرة. دخلت الأم إلى المنزل لممارسة أشغالها، بينما ظلت " نوريتا " ونفاختها جالسة فوق حائط من الحجارة يمتد على طول الزقاق، تلقي تارة نظرة على النفاخة، وتارة على المارة: كانت تصر على أن يراها الجميع ويغبطوها على سعادتها. ورغم عدم تسرب أشعة الشمس إلى الزقاق بسبب البنايات العالية والقاتمة التي كانت تحيط به، ورغم انعدام أية مسحة جمال من وجه الطفلة، فقد أشرق هذا الوجه إلى درجة أنه أنار المنازل المجاورة بقوة.
ثم مر ثلاثة من الفتيان الأشقياء القساة، وجلبت الطفلة انتباههم وهي تبتسم إليهم، فسارع أحدهم – وكأنه يمارس أمراً عادياً – وأمسك عقب السيجارة المشتعلة التي كانت بفمه، وبطرفها مس النفاخة التي انفجرت في الحال، وسقط حبلها بيد " نوريتا " بعد أن كان متعاليا في السماء، وفي نهايته قطعة مطاط ذابلة ماتزال مشدودة إليه. لم تفهم الطفلة في البداية ماذا حدث، ونظرت مشدوهة إلى الأشقياء الذين كانوا يقهقهون بقوة وهم يجرون مبتعدين، ثم أدركت أن النفاخة قد اختفت، وأنها قد فقدت سبب سعادتها الوحيد إلى الأبد.
صدر عن وجهها الصغير تشنجان غريبان أو ثلاثة قبل أن يتحول ذلك إلى تكشيرة انتحاب يائس.
كان ألماً غير محدود، شيئاً فظيعاً لا علاج له. قلنا سابقاً – تبعاً للقاعدة – إنه لا تصل إلى حدائق الجنة الخلابة أدنى همسة بشرية:

لا هدير محرك، ولا صفارة إنذار، ولا طلقات نار، ولا صراخ، ولا انفجارات نووية، ومع ذلك فقد وصل نحيب الطفلة، ودوى صداه بقوة في كل الأرجاء. طبعاً تعتبر الجنة مكان سلام وسعادة سرمديين، لكن إلى حدود معينة فقط. وإلا، فكيف يمكن للملائكة إذن الانتباه إلى آلام البشر؟
كانت صدمة بالنسبة للمحظوظين المنشغلين بلذتهم العفيفة، عكر ظل مملكة النور هذه فانقبضت القلوب، من بإمكانه تعويض ألم هذه الطفلة؟
رمق الملاك " سيغريتاريو " صديقه " أونيتو " دون أن ينبس بكلمة.
" يالقذارة هذا العالم ! " غمغم " أونيتو "، وبتلقائية رمى بقوة سيجارته التي أشعلها في نفس اللحظة، وتركت هذه الأخيرة خطاً غريبا وراءه وهي تتدحرج نحو الأرض. فتحدث أحدهم بالأسفل عن أطباق طائرة.


دينو بوزاتي Dino Buzzati :
   (1906 - 1972) صحفي وأديب وشاعر وكاتب مسرحي وناقد
فني ورسّام إيطالي. كان أبوه أستاذ القانون الدولي في جامعة بافيا، ودرس هو الحقوق أيضاً، تيمّناً بأبيه، في جامعة ميلانو. لكنه آثر الصحافة على الحقوق فعُيّن محرراً في صحيفة «الكورييري ديلّلا سيرا»Corriere della sera. درس وتعلّم العزف على الكمان والبيانو، وبقي محرراً في الصحيفة المذكورة حتى وفاته.

من كتاب اسمع يا رضا




عندما اقول لك أن العابنا أحسن فلست أقصد هذه الدمى التي نشتريها لكم قبل الميلاد. هذه دمى لم نرها ولم نحلم بها. أنتم أغنى بهذه الدمى ولست أقصد هذه التشابيه للسيارات والقطارات
والمراكب ... ولست أقصد هذه التماثيل للحيوانات: القطط من كل

الاشكال والالوان، الكلاب من كل الاجناس والاحجام ، دببة ... زواحف ... طيور ... لا لست اقصد هذه، فانكم بها أغنى منا هذه لعب لم نرها ولم نحلم بها .

أنا كنت أشير الى الالعاب التي كنا نستعمل فيها ايدينا وارجلنا وحناجرنا وقلوبنا، كنت اشير الى العاب الساحة، العاب القفز والنط، العاب الحرب والضرب، العاب الجَلَد (الصبر)، الالعاب التي لم يكن لها ثمن، التي لم ينفق الوالد عليها متليكاً ( عملة تركية قديمة ) واحداً .

هذه الالعاب أحسن من العابكم وأكثر بهجة. العابنا تدوم وتنتقل من جيل الى جيل أما العابكم فتبيعونها بعد انقضاء عيد الميلاد.

في اليابان وفي اميركا والمانيا ... ناس يصنعون لكم الالعاب والدمى والتماثيل فيربحون الملايين. هؤلاء قالوا لآباءكم ان هذه الالعاب تقوي الدماغ وهذه الدمى تنمّي الخيال وهذه التماثيل تولد فيكم العبقرية. وصدّق آباؤكم ومعلموكم ولكنهم سيكتشفون قريباً ان لم يكونوا قد اكتشفوا أن هذه الدمى تضعف الركب وتنمي الخيال ولكنها توهن السواعد وهذه التماثيل تولد فيكم العبقرية ولكنها تفقدكم الشهية والنهم. إن العابنا كانت تقوي الركب وتفتل السواعد وتبعث فينا الشهية.

تلعبون الآن وعيون المعلمين والامهات ترعاكم: يا حارس ! اوعا. اعط بالك. لا تقفز. لا تخاطر ... اما نحن كنا نلعب في الوعر، في البورة، في الساحة .... كنا حقاً نلعب: بركبنا، وبسواعدنا و وبصدورنا، وبحناجرنا فكانت ركبنا وصدورنا وسواعدنا أفضل من ركبكم وسواعدكم وحناجركم .
صدقني إذا قلت لك ان العابنا أحسن من العابكم .








أنيس الياس فريحة (1903-1993):
 أديب وصحافي ومدرس وباحث لبناني. دكتور في الفلسفة واللغات السامية ومحاضر جامعي. له ابحاث في اللغة واللهجات والأمثال والملاحم والأساطير القديمة، تميز بدراساته العلمية والأكاديمية،

 إتقن عدداً من اللغات السامية كالسريانية والعبرية القديمة أي الكنعانية والأوغاريتية المكتوبة بالحرف المسماري. اهتم ببعض الجوانب من تاريخ لبنان وتراثه الشعبي ولهجات قراه وعاداتهم وتقاليدهم وأمثالهم، إضافة إلى اهتمامه بتبسيط قواعد اللغة العربية والخط العربي.




ولد  في رأس المتن من جبل لبنان في اسرة مسيحية أورثوذكسية. لكن أباه المعروف باسم "بونجم" كان قد انضم إلى طائفة الفرندز البروتستانتية. تلقى علومه العليا في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها برتبه بكلوريوس سنة 1927. نال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو ثم درس في جامعة تونبغن في ألمانيا وعاد لجامعة شيكاغو ليحصل على دكتوراه في اللغات السامية. امتهن التدريس، فعلّم في بيروت وفي جامعة فرانكفورت في ألمانيا، وفي جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية وعمل أستاذاً زائراً في معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية وفي معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن وفي جامعة فرنكفورت في ألمانيا وفي جامعة كاليفورنيا في لوس انجيلوس. كتب وألف عدد كبير من المقالات والبحوث في الصحف والمجلاّت، إضافة إلى كتب في مواضيع مختلفة. ركز على اللغة والأدب وبخاصة اللغة العامية.




مؤلفاته:
 1956،اسمع يا رضا -
معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية، 1972 -
يسّروا أساليب التعليم، 1956 -
محاضرات في اللهجات والأساليب ودراستها، 1955 -
معجم الألفاظ العامية 1973 -
أحيقار": حكيم من الشرق الأدنى القديم،  1962 -
أثينا في عهد بركليس، 1966 -
أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها -
حضارة في طريق الزوال -
القرية اللبنانية-
نحو عربية ميسّرة -
معجم الأمثال اللبنانية الحديثة -
في اللغة العربية ومشكلاتها -
أسماء الأشهر العربية وتفسير معانيها -
الخط العربي- نشأته ومشكلاته -
الفكاهة عند العرب -
سوانح من تحت الخرّوبة -
النكتة اللبنانية تتمة لحضارة حلوة -
دراسة اللهجات دراسة علمية -
تبسيط قواعد اللغة العربية -
"قبل أن أنسى وهو تتمة لكتابه الممتع "اسمع يا رضا -


جزء من المحيط

للأديب البرازيلي باولو كويلهو


كانت هناك موجة تشق طريقها في المحيط .. تستمتع بالشمس الصيفية .. وعذوبة النسيم.

كانت أثناء رحلتها الى الشاطىء تبتسم للجميع من حولها سعيدة بمسيرتها .. ولكن بعد حين لاح لها الافق .. فرأت رفاقها الموجات اللاتي سبقنها يرتطمن بالجرف واحدة تلو الاخرى .. يتهشمن الى اجزاء ويتبعثرن.



" يا إلهي " هكذا صرخت في نفسها .. نهايتي ستكون حتماً لا محالة كما نهايتهن .. سوف ارتطم بالجرف وسوف أتهشم واتلاشى.

وأثناء هذا مرت بها موجة ثانية فتوجست من حالتها .. وسألتها "لماذا أنت قلقة كل هذا القلق ؟ ما بك ؟ ألا تستمتعين بهذا الطقس البديع .. الا تستمتعين بهذه الشمس المشرقة .. وهذا النسيم العليل".


فردت الموجة الاولى .. "ألا ترين ؟ الا ترين كيف ترتطم هذه الموجات بذلك الجرف بكل قسوة .. الا ترين كيف يتلاشين .. نحن – انا وأنت – مصيرنا هكذا .. كما مصيرهن .. قريباً سنغدو لا شيء كما هن"

فردت الموجة الثانية "أنت لم تفهمي القصة جيداً بعد .. انت لست موجة .. أنت جزء من هذا المحيط الكبير".



باولو كويلهو Paulo Coelho :
روائي وقاص برازيلي. تتميز رواياته بمعنى روحي يستطيع العامة تطبيقه مستعملاً شخصيات ذوات مواهب خاصة، لكن متواجدة عند الجميع. كما يعتمد على أحداث تاريخية واقعية لتمثيل
أحداث قصصه.
ولد في ريو دي جانيرو عام 1947. قبل أن يتفرغ للكتابة، كان يمارس الإخراج المسرحي، والتمثيل وعمل كمؤلف غنائي، وصحفي. وقد كتب كلمات الأغاني للعديد من المغنيين البرازيليين أمثال إليس ريجينا، ريتا لي راؤول سييكساس، فيما يزيد عن الستين أغنية.
ولعه بالعوالم الروحانية بدء منذ شبابه كهيبي، حينما جال العالم بحثاً عن المجتمعات السرية، وديانات الشرق. نشر أول كتبه عام 1982 بعنوان "أرشيف الجحيم"، والذي لم يلق أي نجاح. وتبعته أعمال أخرى، ثم في عام 1986 قام كويلهو بالحج سيراً لمقام القديس جايمس في كومبوستيلا. تلك التي قام بتوثيقها فيما بعد في كتابه "الحج".
حاز على المرتبة الأولى بين تسع وعشرين دولة. ونال العديد من الأوسمة والتقديرات.
 وقد باع كويلهو أكثر من 75 مليون كتاب حتى الآن.
 وقد أعتبر أعلى الكتاب مبيعاً بــ روايته 11 دقيقة، حتى قبل أن تطرح في الولايات المتحدة أو اليابان، و10 بلدان أخرى.
واحتلت الزهير -2005 المركز الثالث في توزيع الكتب عالمياً. وتعد الخيميائي ظاهرة في عالم الكتابة، فقد وصلت إلى أعلى المبيعات في 18 دولة، وترجمت إلى 65 لغة وباعت 30 مليون نسخة في 150 دولة.


الحمام العمومي


حماماتنا العامة ليست سيئة جداً، بوسعك الاستحمام فيها.
المشكلة الوحيدة في حمامتنا تتعلق بالتذاكر. يوم السبت الماضي ذهبت إلى أحد هذه الحمامات، أعطوني تذكرتين، واحدة لملابسي الداخلية والأخرى للقبعة والمعطف. 
 ولكن أين يضع رجل عارٍ التذاكر؟ لنقل ذلك مباشرة: لا مكان ولا جيوب.

انظر حولك، كل ما هناك البطن والساقان. مشكلة التذاكر الوحيدة أنك لا تستطيع ربطها إلى لحيتك! حسناً لقد ربطت إلى كل ساق تذكرة وبهذا لن أضيعهما معاً في وقت واحد، ودخلت الحمام.

ها هي التذاكر الآن ترفرف حول ساقيّ. كم هو مزعج أن تمشي كذلك ولكن لابد مما لا بد منه لتحصل على جردل وإلا كيف يمكنك الاستحمام بدون جردل! تلك هي المشكلة الوحيدة!

بحثت عن جردل، رأيت أحد المواطنين يستحم مستخدماً ثلاثة


جرادل، يقف داخل واحد، يغسل رأسه في الثاني ويمسك بالثالث في يده اليسرى وبذلك لن يقدر أحد على سحبه منه. سحبت الجردل الثالث، أردت أن أخذه لنفسي. ولكن المواطن لم يتركه وقال لي :

ـ ما الذي تنوي فعله؟ سرقة جرادل الناس الآخرين!


وعندما سحبت الجردل نهرني قائلاً:

ـ سأرميك بالجردل بين عينيك عندها لن تكون سعيداً أيها اللعين!

ـ إنها ليست إمبراطورية تمشي حولك وتضرب الناس بالجرادل، هذه أنانية، أنانية مفرطة. للآخرين حق في الاستحمام أيضاً، أنك لست في مسرح.

لكنه أدار ظهره وبدأ يغتسل ثانية وقلت لنفسي:

ـ لا أستطيع الوقوف حوله منتظراً تلطفه. يبدوا أنه سيواصل الاغتسال مدة ثلاثة أيام أخرى.
وبعد ساعة رأيت رجلاً عجوزاً فاغراً فاه.
لعله يبحث عن الصابون أو أنه كان فقط يحلم. لست أدري؟ لم يكن ممسكاً بجردله. التقطته ووليت به هارباً.
الجردل الآن موجود، ولكن لا يوجد مكان للجلوس. وكونك تستحم


واقفاً! فأي استحمام هذا؟ تلك هي المشكلة الوحيدة!

حسناً ـ إنني الآن ممسك بجردل في يدي وبدأت أغتسل ـ ولكن كل الذين حولي، ينظفون ملابسهم كالمجانين، أحدهم يغسل بنطلونه، آخر يدعك سرواله وثالث يعصر ملابسه، ولهذا فبمجرد أن تغتسل فلا تلبث إلا أن تتسخ ثانية!

إن هؤلاء الأوغاد يطرطشون الماء علي. إن هذه الضوضاء الناتجة عن عملية التنظيف تصادر منك كل متع الاستحمام فلا تستطيع أن تسمع حتى حركة الصابون. تلك هي المشكلة الوحيدة؟

قلت لنفسي: "ليذهبوا إلى الجحيم. سأنهي الاستحمام في المنزل".

وعدت إلى حجرة الملابس وأعطيتهم تذكرة واحدة وأعطوني ملابسي الداخلية. نظرت ووجدت أن كل شيء لي ماعدا البنطلون قلت:

" أيها المواطنون بنطلوني ليس به فتحة هنا. بنطلوني فتحته هناك".

غير أن الخادم قال لي:

ـ ما جئنا هنا من أجل مراقبة فتحات بنطلونك فقط .أنت لست في مسرح!

حسناً لقد ارتديت هذا البنطلون، وعندما أوشكت أن ارتدي معطفي، طالبوني بالتذكرة. لقد نسيت التذكرة على ساقي. علي أن أخلع البنطلون. بحثت عن التذكرة. لم أجدها. ثمة خيط مربوط حول ساقي ولكن بدون تذكرة. لقد غُسِلت التذكرة!.

أعطيت للخادم الخيط. إنه لا يريده وقال لي:

ـ لن تأخذ أي شيء مقابل خيط، بوسع أي شخص أن يأتي بقطعة خيط وليس لدينا معاطف للتوزيع. انتظر حتى ينصرف الجميع ونعطيك ما تبقى.

ـ يا أخي افهمني، افرض أنه لم يبق شيء سوى رغاوي الصابون. هذا ليس مسرحاً، سأصف لك بنطلوني، له جيب واحد ممزق ولا يوجد آخر، وبالنسبة للأزرار فالعلوي منها موجود والأخرى لا ترى.

لقد أعطاني إياه لكنه لم يأخذ الخيط، ارتديت المعطف وانطلقت في الشارع. فجأة تذكرت أني نسيت الصابون، عدت ثانية، رفضوا دخولي وعليّ المعطف.

وقالوا لي:ـ "اخلع".
وقلت لهم:
- " أيها المواطنون! لا يمكنني أن أخلع للمرة الثالثة، أعطوني قيمة الصابون على الأقل".
ولكن لا حياة لمن تنادي، نعم لا حياة لمن تنادي، حسناً. عدت من غير الصابون.
طبعاً القارئ المعتاد على الشكليات قد يكون متلهفاً لأن يعرف أي نوع من الحمامات هذا؟ أين يقع؟ ما عنوانه؟ وله أقول إنه من النوع العادي الذي يكلف الاستحمام فيه فقط عشرة (كوبكات).


ميخائيل زوشتنشكو Mikhail Zoschenko:
 واحد من الكتاب الروس المتمردين على الثورة الشيوعية. ولد عام 1895/ وتوفي عام 1985. لم يستطع اكمال دراسة القانون لأسباب مادية.

 خدم بالجيش في الحرب العالمية الاولى.

 ذاع صيته عام 1920 لتميز قصصه القصيرة وصوره الأدبية الساخرة والتي كان يوظفها لنقد مجتمع ما بعد الثورة في روسيا.
تميزت شخصيات سردياته بالبساطة والعادية.
انتهى نشاطه كأديب عام 1946 حيث طرد حينها من قبل اتحاد الكتاب السوفييت وظل بعد ذلك يكتب سراً.

العلّة في النظام لا في الحُكّام

من كتاب لئلا تضيع
ل سلام الراسي


كان لأحد أمراء لبنان مطحنة ولّى عليها «مطحنجيًّا» يستغلها، فيستوفي من كلّ مدّ قمحٍ «ثمنيّة» طحين، مع العلم أنّ الثمنيّة هي مكيول يعادل جزءًا من ثمانية أجزاء من المدّ، ولذلك سميت ثمنيّة.

«فاشتلق» بعض الناس على المطحنجيّ بأنّه يكيل القمح قبل طحنه
بصاع أصغر حجمًا ممّا يجب أن يكون، ثم يستوفي الأجرة طحينًا بثمنيّة أكبر حجمًا ممّا يجب أن تكون، فسرت بين الناس موجة من التذمّر بلغت مسامع الأمير، فبادر إلى إبداله بمطحنجيّ آخر.
وإذا بالمطحنجيّ هذا ينهج نهج سلفه فيتعالى الاحتجاج ويشتدّ الهياج، فيبادر الأمير حالًا إلى إبداله بمطحنجيّ آخر، وبقي الصاع وبقيت الثمنيّة، وبقيت الأصول المرعيّة حتى ضجت الرعيّة، فألّفوا وفدًا لمقابلة الأمير وعرض الأمر عليه والتظلّم لديه.
وقبل أن يستقرّ المقام بالقادمين، عاجلهم الأمير بقوله: «المطحنة مطحنتكم ولا تهمّنا إلّا مصلحتكم. وقد أبدلنا أولئك الحرامية من المطحنجيّة حرصًا على المصلحة الوطنيّة. وإذا كان من يتولّى المطحنة حاليًّا ليس على "قد الخاطر" أبدلناه بسواه حتى يأخذ الحقّ مجراه».
فقالوا: «ولكن طال عمرك سيدنا، فإنّ العلّة ليست بهؤلاء المطحنجية بل بالصاع والثمنيّة.»
فصاح بهم: «كفى! الصاع صاع الإمارة والثمنيّة ثمنيّتها، ولا أقبل أن يتطاول أحد على نظام الإمارة وقوانينها.»



سلام الراسي:

ولد 'أبو علي' سلام الراسي في 1911، في بلدة إبل السقي، جنوب لبنان، أخاً لثلاثة عشر ولداً، وتوفي عام 2003.
 وبكلماته هو "كانت الشمس تشرق في ذلك الزمان من وراء جبل
حرمون وتغرب خلف مرجعيون، وقريتنا قائمة في وسط الدنيا...".

تلقى علومة الابتدائية في مدرسة الضيعة، انتقل إلى بيروت مع والدته سنة 1925 حين اندلعت الثورة السورية، حيث التحق بالجامعة الاميركية لفترة وجيزة عاد بعدها الى ابل السقي.

هذه النشأة والبيئة والظروف العامة التي أحاطت بالربع الأول من القرن العشرين كان لها أثر عميق في طبع سلام الراسي بطابعها، فهو إبن الضيعة والجنوب والمثقف إبن المدينة في حين واحد، ولد أيام العثمانيين وترعرع في ظل الاستعمارين الانكليزي والفرنسي لفلسطين ولبنان وسوريا, ثم شب مع الرعيل الاول من الاستقلاليين والوطنيين المناهضين للاستعمار المنادين بالحرية والخبز والعدالة.
كتب الشعر والزجل شاباً ثم تحول إلى جمع المأثور الشعبي ومجمل أصناف الأدب القروي، ألّف عدداً من القصص والروايات حتى زادت عن سبعة عشر كتاباً، سمّي بسببها "شيخ الأدب الشعبي" ونال عن ذلك عدداً من الأوسمة والتكريمات تليق به وبمقامه.

أدب سلام الراسي هو خلطة خاصة به, وباقة شهية من الحكايات نقل منها عن المألوف والمتوارث واجترح بعضها في احيان أخرى كي يوصل فكرة الى منتهاها, وهو صعود بمرتبة ودور الحكواتي وتقريب دور المؤرخ الى الرواية, هو وعاء نجح في قولبته وتشكيله كي يتسع لتعايش الفصحى مع العامية وأداة هدفها تقريب الادب للناس وتأريخ مفاصل تاريخية في حكايات حافظة لها وفي النهاية تقريب الناس للناس وليس تغريبهم وتعجيزهم. كتب عن القرية فاصبح الوطن كله قريته. 

مؤلفاته:
لئلا تضيع 1971
في الزوايا خبايا 1974
حكي قرايا وحكي سرايا 1976
شيح بريح 1978
الناس بالناس 1980
حيص بيص 1983
الحبل على الجرار 1988
جود من الموجود 1991
ثمانون 1993
القيل والقال 1994
قال المثل 1995
الناس أجناس 1995
أقعد أعوج وإحكي جالس 1996
من كل وادي عصا 1998
ياجبل ما يهزك ريح 2000
أحسن أيامك، سماع كلامك 2001

رحلة البحث عن وظيفة


وقف أحمد أمام كشك السجاير والذي هو في نفس الوقت مركز توزيع الصحف واشترى إحدى الصحف ذات الوزن الثقيل، وأخرج فوراً صفحة الإعلانات وبدأ يقرأ إعلانات الوظائف علـَّه يجد وظيفة بعد أن ظل عاطلاً عن العمل 8 أشهر منذ تخرجه من

الجامعة وأصبح يخجل من النظر إلى والديه وهو لا يساهم بأي شيء في نفقات البيت. نظر إلى أول إعلان: (مطلوب سكرتيرة لشركة تجارية استثمارية.. المؤهلات: وجه وقوام جميل.. عدم وجود ارتباطات عائلية...استعداد للسفر والعمل حتى ساعات متأخرة ...الثياب ما قل ودل ! تلفون: .....)...هزّ أحمد رأسه وقال لا حول ولا قوة إلا بالله ده إعلان وظيفة والا...... طب اكتبوا على الأقل: تعرف تطبع والا كمبيوتر والا أي داهية... كده عيني عينك هيَّ الدنيا جرى لها إيه؟ ...

تعوَّذ من الشيطان ونظر إلى ثاني إعلان (مطلوب موظف إستعلامات يكون خريج جامعة ويجيد 3 لغات .. خبرة لا تقل عن 5 سنوات ..تلفون: ....)..هزّ أحمد رأسه ... الله .. هيَّ العالم اتجنت ولا ايه؟ بقى عاوزين خريج جامعة و3 لغات علشان يبقى موظف إستعلامات ؟؟ وأمال الواحد لو عاوز يبقى مدير لازم يكون معاه ايه؟ لا وفوق ده كله خبرة 5 سنوات.. طب الواحد هيجيب الخبرة منين لما محدش يرضى يشغله؟

تعوذ من الشيطان مرة ثانية وأكمل ...فجأة لمعت عيناه فرحاً وأحس أنه وجد ضالته في إعلان بالبنط العريض: (مؤسسة حكومية بحاجة الى عدد من الشباب الجامعيين لوظائف عن طريق إختبار شفهي أمام لجنة للمعلومات ..الإتصال....)... بدأ قلب أحمد يدق من الهيجان وتبدل يأسه أملاً في الحصول على الوظيفة التي يحلم بها وهو الخريج بتفوق، ولأن الأمر يخضع لاختبار ولجنة فلا مجال للوسايط "يعني الأفضل هو الذي سيفوز بالوظيفة".

ذهب أحمد إلى بيته وزف الخبر السعيد إلى أمه التي لم تتمالك نفسها عن إطلاق زغرودة عيار 21 مليمتر هزّ صوتها بيوت الجيران كلهم، وبدأت وكالة أنباء النسوة بنقل الخبر وكل واحدة تضيف عليه من عندها:
- آه يختي .. بيقولوا هيبقى مدير في أكبر بنك في البلد..
- لا بنك إيه؟ ده هيبقى سفير..
- اسكتي إنتي وهيَّ سفير إيه؟ ده هيبقى دكتور في المستشفى..
- دكتور إيه ياهبلة هو خريج طب؟
- وفيها إيه؟؟ مش بيقولوا جاب واسطة؟ يعني هـُمَّ كل الدكاترة درسوا الطب؟
- آه
- آه إزاي؟ ابن البيه اللي أنا باشتغل عنده راح أوروبا 6 أشهر رجع بعدها طبيب وتعين في مستشفى!!!
- لا يا حبيبتي..الواحد علشان يبقى دكتور لازم الأول يبقى وزير! هـُمَّ مش دايماً في التلفزيون بيقولوا معالي الوزير الدكتور فلان !!!!

واستمر نقاش الجارات حول طبيعة الوظيفة الجديدة لأحمد ولولا أن ميعاد الغداء قد حل وانصرفت كل واحدة لإطعام عائلتها لكان أحمد قد أصبح رئيس جمهورية دون أن يدري!

أما أحمد فقد كانت الأحلام الوردية تراوده وتخيل نفسه وقد أصبح موظفاً مرموقاً محترماً وراتب جيد يمكنه من مساعدة أهله والزواج.

نهض أحمد من السرير في يوم الإمتحان ... ارتدى أحسن بدلة لديه ...حلق ذقنه ... وضع العطر ... توكل على الله وخرج وأمه من ورائه تدعو له بالنجاح والتوفيق والنصر على العدوين!!

وصل إلى المؤسسة صاحبة الإعلان ونظر إلى البناية ...على الرغم من أن واجهة البناية قد أصبحت سوداء من تراكم الوساخة

والأتربة والدخان إلا أنها بانت له وكأنها قصر الأحلام من ألف ليلة وليلة.

دخل البناية واتجه نحو قاعة الإمتحان ...رأى صفاً طويلاً من الشباب الراغبين في الحصول على الوظيفة فسقط قلبه وكاد أن يغمى عليه  ولكنه تمالك نفسه وقال في سره: "يعني إنت كنت فاكر إيه؟ هتكون وحدك في المسابقة؟ أمال هـُمَّ عاملين مسابقة ليه؟"

سجل اسمه عند الحاجب وانتظر دوره ... بدأ المتقدمون يدخلون واحداً تلو الآخر إلى قاعة الإمتحان...بعضهم يخرج متجهماً وبعضهم مبتسماً. خرج أحمد من شروده لدى سماعه اسمه، ودخل إلى القاعة فوجد لجنة مكونة من 3 أشخاص محترمين وكبار في السن .. سلم عليهم وجلس على كرسي موضوع أمام الطاولة التي تجلس اللجنة خلفها .. سأله أول عضو في اللجنة:
- إيه هيَّ مؤهلاتك يا بني؟

أجابه أحمد وشرح له كل شيء عن الشهادة التي يحملها وأنه تخرج الأول على دفعته وحاز على عدة جوائز تقديرية لاجتهاده في الدراسة ...هزّ العضو الآخر في اللجنة رأسه وقال:
- جميل، جميل جداً دا نتَ ما شاء الله ثروة للبلد دي وإحنا بنعتز بشباب مجتهد زيك..

فرح أحمد لهذا الثناء واستبشر به خيراً، وهنا خاطبه العضو الثالث في اللجنة قائلاً:
- والله إحنا هنا في المؤسسة حريصين على إننا ما نوظفش إلا الكفاءات العالية مش زي المؤسسات التانية اللي توظف كده من غير تدقيق, تصور حضرتك أنا أعرف واحد خريج لغة عربية بس علشان عنده واسطة عينوه مترجم اسباني!!!

أجابه أحمد:
- يا أفندم لولا إن فيه ناس محترمة زي حضراتكم كانت البلد خربت من زمان يا أفندم!!

قاطعه العضو الثاني في اللجنة قائلاً:
- شوف يا بني إحنا لاحظنا إن شباب البلد بتهاجر لبلاد برة وبتتبهدل علشان ما فيش فرص عمل جوة البلد يعني فكرك الدكتور أحمد زويل لو كان لقى شغلانة كويسة داخل البلد كان هاجر بره؟؟ أكيد لا و كنا إحنا استفدنا من خبراته بدل ما هو عايش كده بره وخيره للأجانب مش كده برضه؟

أجاب أحمد متحمساً:
- ربنا يخليكم ذخراً للوطن... إنتم يا أفندم دوركم مش أقل من أحمد عرابي ولا أقل من طلعت حرب ولا محمد علي باشا أنتم يا أفندم لازم يتعمل لكم تماثيل في وسط البلد يا أفندم ... آه والله .. تماثيل كل واحد 10 أمتار!!

هزّ الرجل الذي يجلس في الوسط "ويبدو عليه أنه رئيس اللجنة" رأسه، وقال:
- لا، لا، تماثيل إيه وبتاع إيه؟ إحنا بنعمل بواجبنا وبس وده أقل حاجة يمكن يعملها أي شخص بيحب وطنه ويحرص على طاقات الشباب فيه... أنا يا بني "وأعوذ بالله من كلمة أنا" بالنيابة عن أعضاء اللجنة أحب أهنيك وأقولك مبروك... إنت حصلت على الوظيفة وتقدر تستلم الشغل من بكرة لو حبيت ..


فرح أحمد ونهض من كرسيه وأخذ يصافح أعضاء اللجنة واحداً واحداً وهو يقول:
- الله أكبر...يحيا العدل... أهو كده التعيين ولا بلاش...ربنا ينصر دينكم ويعلي مراتبكم كمان وكمان يا رب.

وفجأة تذكر شيئاً ..سأل رئيس اللجنة:
- على فكرة أنا لسه ما عرفتش هيه إيه الوظيفة بالضبط؟

أجابه رئيس اللجنة:
- الله ...!! هو إنت ما قريتش الإعلان اللي ورا الباب؟

أجابه أحمد متلعثماً:
- لا وحياتك يا أفندم ...أنا آسف.. بس من كتر قلقي ما شفتش ولا حاجة وأنا محظوظ إني ما وقعتش من طولي وأنا داخل هنا..

ضحك رئيس اللجنة وقال:
- معلش حصل خير ...الوظيفة هي بواب البناية
- حضرتك بتهزر مش كده؟ دم حضرتك خفيف جداً يا أفندم!!!
- هزار إيه يا محترم؟؟ شايفني عيـِّل معاك في الروضة علشان أهزر معاك؟!!
- يا نهار إسود ...إنت بتتكلم جد بقى!!
- أكيد بجد طبعاً
- يا نهاركم مطيّن ...بقى عاملين إعلان في الجرايد ولجنة إمتحانات وشهادات جامعية علشان بواب؟!! إنتم جايين منين؟ من مستشفى المجانين!!!
- احترم نفسك واعرف إنت بتكلم مين، ولعلمك فيه 100 واحد يتمنوا إنهم يحصلوا على الوظيفة دي، والعتب علينا إحنا اللي اخترنا واحد فاشل زيك... امشي تفضل اطلع بره من غير مطرود... شباب صايع ما منوش فايدة وبعدين يزعلوا لما نستعين بخبرات أجنبية!!!
ونادى على الحاجب كي يدخل الشخص التالي الى القاعة .

وكل وظيفة وإنتم بخير !!!


محسن الصفار:

كاتب عراقي ساخر. ولد في عام 1968 درس الطب النفسي في اوكرانيا وتخرج سنة 1998 وانتقل بعدها إلى بيروت حيث عمل في المجال الإعلامي وقام بتأسيس شركة للإنتاج الإعلامي قامت بإنتاج العديد من الأفلام الوثائقية.
 اشتهر بكتابة القصص والمقالات الساخرة في مختلف المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية له عدة كتب منها:
*عالم مجنون مجنون.
*مجنون يحكي وعاقل يسمع.
*وفاء لملك وعشقاً لمملكة.
*حكايات وعبر.
 *طريف الأخبار في مقامات الصفار.
متزوج واب لطفلين هما تارا ويوسف كاتب أسبوعي في جريدة البلاد البحرينية ويعمل في مجال الاستشارات.

حياة الريف بساطة العيش وأصالة الطبيعة



لحظات من العمر، وذكريات من مفردات الأيام ، عشتها في الريف اليمني رأيت فيها الحياة بكاملها في وجهها الآخر، تحكي نقاء الهواء وصفاء القلوب، وبساطة العيش، حيث تستقبلك على

مشارف القرية تلك البيوت الحجرية القديمة والعريقة، ترى فيها القوة والجمال قد امتزجا معاً فكوّنا تاجاً مهاباً، يزداد بهاؤه كلما اقتربت منه وتنقلت بين أقرانه، تماماً كتلك العمامة التي تعلو رأس رجال القرية وتتربع على نواصيهم، تدل على الرجولة المعهودة والعرف المتوارث.
ومع أنفاس الصباح الاولى تبدأ الحيوية وتتحرك الحياة، فهذه نساء القرية على تناويرهن الطينية يجهّزن الخبز الحار اللذيذ المعمول من الحبوب والذرة والمعروف باسم (الملوج والذمول) وذلك الدخان المتصاعد الموحي بخفة الحركة وبداية الانتشار، وأولئك الرجال الذين يستعدون للذهاب إلى الحقول والمزارع بالبهائم، وما هي إلا أن تبسط الشمس خيوطها وتملأ الأرض فتزداد الحركة ويتسع النشاط، وتسمع اكثر من صوت وترى أكثر المواقف أصالة وبراءة، فمن الأصوات ذلك الحداء الذي يردده الفلاحون في المزارع أثناء العمل، وغناء الصبايا ترعى الأغنام على الجبل، تختلط بأصوات الحيوانات المسخّرة وكأنها تتبادل الأدوار مع أصحابها فتضفي على الطبيعة صبغة ممتعة أخرى، شعرت وأنا

أرى وأسمع وأشم وأستمتع، بأننا لسنا في عصر التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والحياة التي عرفتها في المدينة بكل تفاصيلها المختلفة تماماً عن ما أنا فيه، وشعرت أيضاً بالعطش فاستسقيت ماءً من أحد تلك البيوت الحجرية المتناثرة، فصوّتت لي عجوز بالرحب والسعة وأشارت إلى جرّة بجانب الباب الخشبي الأصيل، موضوعة بعناية ومرتبة المكان والسِقاء، عرفت لاحقاً أنها (سبيل) وأن هذه عادة الناس جميعاً، يضعون الماء بهذه الطريقة على قارعة الطريق وأمام البيوت لكل محتاج يبتغون الأجر والثواب، أخذت القِدح وغرفت باستحياء يدل عليه عدم التعوّد والتوجّس من طعم الماء، ولكني حين جرعت أول الدفعات أدهشتني حلاوة طعم ذلك الماء وأريحية برودته، مما دفعني للاستزادة، ومددت يدي لاستجلاب قدح آخر، فسمعت في الأثناء صوتاً ندياً ذو إحساس صادق، كان صوت فتاة ترفع عقيرتها بأغنية تدل كلماتها على المعاناة والمروءة معاً تقول:

قولوا لمن خلّا الحياة كابوس


عاد الهوى يشتي شرف وناموس***

شدّتني تلك الكلمات وأبهرتني تلك النغمات، وعرفت بالحَدْس أن الفتاة تعاني ممن يتطلّبها ويلحّ ويأباه فؤادها، فقالت ذلك تذم هوى

الهائم بلجام الشهامة والعقل، وتدفعني للتفكر في حال المواقف المشابهة في المدينة مع الفارق الكبير، حيث أصبحت المدينة تعجّ بما يمجّه الذوق وتأباه الفطرة، إذْ تحوّل الحب العذري إلى مجون، وليل الصبّ إلى جنون، وبهذه المقارنة كدت أنسى نفسي وأدخل في مقارنات حياة الريف بما عرفته في المدينة، إلا أني تنبّهت حين كاد القدح يسقط من يدي، فارتشفت بلذةٍ آخر الجرعات ممزوجةً بآخر ما سمعته من الكلمات، وما حملته من معاني، ثم وضعت القدح على الجرة، وغادرت خارجاً من القرية متوجهاً إلى المدينة، وقد عقدت العزم على العودة حين تسنح لي فرصة أخرى أوسع وقتاً لأستزيد من تلك الطبيعة وأصحابها: حكمة من شيخ، وصوتاً من فؤاد، ومعنى من مروءة، وشربةً من جرّة.

---------------------------------------

*** البيت من الشعر النبطي الشعبي ومعناه: قولوا لهذا الذي جعل الحياة كالكابوس بسبب تصرّفاته الغير مهذّبة، أن الهوى والحب بحاجة أيضاً إلى شرف ومروءة، تحجز صاحبها عن إظهار هواه بغير تهذب، وإصراره على حب من لا يحبه ولا يتطلع إلى أمثاله.



 
محمد علي علي:

 كاتب وشاعر من اليمن.




مقعد للبكاء

الأديب العراقي د. ماجد الحيدر


لم أفعل الشيءَ الكثير لتبديد نوبة حزنكَ التي تفجرتْ فوق مكتبي. لم أردد حكمة ما، ولم أتذكر – بل لم أحاول أن أتذكر- بيتا من الشعر أو قصةً وعظية.

لقد تركتُكَ تبكي. ولقد كان لذلك وقعُ السحر: لقد بكيتَ كالطفل، وكنتَ تعيدُ على مسامعي وكأنكَ
تحدّث نفسكَ:

- "رباه، كم أنا تعيس! كم أنا شقي، تافهٌ عديمُ الحول .. ضائع! رباه كم أثقلتني حمولي!"

ولم أقل شيئاً؛ ليس لأني رجلٌ قاسٍ. كلا، ولا لصلابةٍ قد أدّعيها.. فأنا نفسي إنسانٌ شديدُ الهشاشةِ و سريعُ الكسرِ كالبسكويت. وليسَ لأنَّ المفاجأةَ عقدتْ لساني؛ فلقد بكى الجميعُ وهم جالسونَ في مقعدكَ هذا، ربما لأنني أعرفُ كيف أكتمُ أسرارَكم (…. قلبي المُعنّى الذي جعلوه مدفنا للأسرار) أو لأنني أجيدُ تقديمَ كأسٍ من الماءِ الباردِ وفنجانٍ من القهوةِ وبضع كلماتٍ خرقاءَ تُريحهم بعض الشيء وتُعفيهم من خجلٍ أو ندمٍ قد يعتري المرءَ في أعقابِ موجةٍ كهذه من الاعترافات.

ورفعتَ عينيكَ المحمرتينِ إلى عينيَّ فتحاشيتُهما ثم استزدتُكَ بهمهمةٍ متسائلةٍ فأجبتَني :

" لقد أتعبَني هذا العبءُ الذي يثقلُ كاهلي، أتعبني هذا الركضُ المجنونُ وراءَ لقمةِ الخبز. أتعبني تحملُ الإهاناتِ والمساوماتِ البليدةِ اليومية "

وطلبتَ مني سيجارة ففتحتُ درجَ المكتبِ وأخرجتُ العلبةَ والكبريتَ ووضعتُها فوق المكتبِ وقّربتُ منكَ منفضةَ الرماد (أنا لا أدخّن ولكني أحتفظُ دائما بهذه الأشياء تحسبا للظروف، ألم أقلْ بأني قسيسٌ ماهر!) وامتصصتَ نفساً سريعاً ثم قمتَ فجأة.

- " هاك !" قلتَ لي وأدخلتَ يدك الى جيبِ سروالكَ الخلفي وأخرجتَ منها بطاقتكَ النقابيةَ القديمةَ ووضعتَها أمام وجهي " أنظرْ كيف كان شكلي قبل خمس عشرة سنة !" لقد كان ذلك جزءً من المأساة سبقَ لي مشاهدتُهُ، لكني تظاهرتُ بالدهشةِ وقلت:

- - " يا الله ! لَكَمْ تغيرَ شكلُك !"

- "وقلبي تغير أكثر"
وطويتَ المحفظةَ باعتناء وأعدتَها الى جيبكَ وجلستَ
" لقد شختُ من داخلي عشرةَ قرون !"

ومرت لحظات صمت ثقال. ولقد سرَت العدوى الى
صدري، ها قد بدأتُ أحس بالضيق والكآبة، إن عينيَّ لَتكتظانِ بشيءٍ ساخنٍ يرفضُ النزول….آه! يا لَضغطِ الدمِ اللعين! وسمعتُ فمي يقول:

- " أنظرْ يا صديقي. ربما لو عدتَ الى ولعكَ القديمِ بالقراءة .."

قاطعتَني سريعاً (لماذا أسمحُ لكم بمقاطعتي كثيراً ؟):

_ "أية قراءةٍ هذي التي تتحدثُ عنها في زمنِ الجوعِ والتايفوئيد؟! يخيّل إليّ أحيانا أنني لن أُوفقَ حتى في كتابةِ اسمي!"

-"ربما قد ينفعُ شيءٌ من الحبِ في مثلِ حالتكَ، ألم ترَ الى صديقنا ... كيف تغيّرَ بعد أن وقع في شَرَكِ غزالٍ شريدْ! لقد صغرَ عشرينَ عاما!" قلتُ ممازحا رغم أني تذكرتُه وهو يجلسُ قبل أسبوعٍ فقط وفي الكرسي نفسه، يبكي ويلعنُ الحبَّ ومَنْ اخترعَه!

لم تُفلِح في الامساك بخيط الفكاهةِ الذي ألقيتُه في الفراغ فضججتَ متأوها:

- "لعنةُ الله على آبائهم! أيُّ بَطَرٍ هذا الذي يخوضونَ فيه؟ إني أفكرُّ ألفَ مرة، ثم مرتين، في حذاءِ ابنتي الممزقِ قبل أن أستسلمَ لأيةِ سخلةٍ حمقاءَ قد تحاولُ ولوجَ جنتي الآسنة!"

- "لم يبقَ إلا أن تصبرَ وتنتظر. فعسى أن يأتي الفرجُ عما قريب!"

- "عظَّمَ اللهُ أجركَ وأجزلَ لك! ألم تعرفْ أن فرجاً قد مات وأنْتَنَ؟" أجَبتَني مبتسماً، وقد عدتَ الى لعبتكَ المفضلة في حيازةِ الجُمَلِ ذات الاستخدام المزدوج، وكان هذا إيذاناً بانتهاء نوبةِ يأسِك.

وشربتَ قدحَ الماء وبللت يدك ووجهَكَ بما تبقى وأخرجتَ منديلكَ المتهرئَ ومسحتَ وجهكَ وأفرغْتَ ما بأنفِكَ، ونفثْتَ آهةً طويلةً ثم انتصبتَ واقفاً. إعتذرتَ عن إزعاجي ولمّحتَ على استحياءٍ الى رغبتِكَ في أن يبقى ما قلتَه طيَّ الكتمانِ فوعدتُك خيراً.

- "إسمعْ ! " قلتَ لي ضاحكاً "ربما لو قسّمتُ جسدي نصفينِ.. ربما سيعيشُ أحدهما وسيكونُ طفلاً سعيداً لا يعرفُ الشقاء !"

- "ربما !" أجبتُكَ وقد رسمتُ على وجهي تقطيبةَ تفكيرٍ ساخرةٍ "علينا أن نجربَ في أقربِ فرصةٍ"

وضحكنا معاً.

- " أراكَ في المساء " أومأتُ برأسي موافقاً. توجهتَ الى الباب لكنكَ استدرتَ عائداً الى السيجارة التي كانت قد انطفأت ووضعتَها خلف أذنك بحركةٍ هزليةٍ داعرة.

- - "خذ العلبةَ كلها" ناديتك.

- "لا يا عزيزي" جاء صوتُك وأنت تنزلُ السلالم " أنا ولدٌ مهذب !"

نهضتُ لأزيلَ الفوضى الصغيرةَ التي أحدثها وجودُكَ واستعداداً للمغادرة. رنَّ جرسُ الهاتف. كان صديقاً آخر:

- "ألم تغادرْ بعدُ؟…. حمداً لله! ….أريدُكَ في أمرٍ هام… نعم، نعم، متاعبُ جديدة…. سآتيكَ بعد ربع ساعة……. آه، كم أريد أن أتحدثَ اليك…… إني أشعر بالضيق….. إن رأسي ليكاد ينفجر… لن ينفعَ الحديثُ في الهاتف …… إنتظرني… سآتيك!


ماجد الحيدر:



قاص وشاعر ومترجم عراقي. ولد عام 1960 في بغداد. درس الطب وتخرج من كلية  طب الاسنان  في بغداد عام 1984 غير أن اتجاهاته الأدبية غلبت عليه فاتجه إلى كتابة الشعر والقصة القصيرة  والمقالة النقدية والأدب الساخر. كما عرف بترجماته لعدد من الأعمال الشعرية والقصصية العالمية نقلاً عن الانجليزية والكردية والفارسية. نال عضوية الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق وجمعية شعراء العالم وأسس مع عدد من الأدباء والمثقفين ما عرف بشهربان الثقافي  الذي عمل في ظروف بالغة القسوة في ظل تصاعد العنف والإرهاب.



Twitter Bird Gadget