من كتاب (النبي) ل جُبران خليل جُبران

 المحبة مقطع من كتاب النبي


....... حينئذٍ قالت المطرة: حدثنا عن المحبة.
فقال:

إذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها,
وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة.
إذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها,
وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.
إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها,
وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعاً صفصفاً.



*** 
 
لأنه كما أن المحبة تكللكم, فهي أيضا تصلبكم.
وكما تعمل على نموكم, هكذا تعلمكم وتستأصل الفاسد منكم.
وكما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس,
هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب وتهزها في سكينة الليل.



*** 
 
المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة.
المحبة على بيادرها تدرسكم لتظهر عريكم.
المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم.
المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء.
المحبة تعجنكم بدموعها حتى تلينوا,
ثم تعدكم لنارها المقدسة, لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدسة.
كل هذا تصنعه بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكم, فتصبحوا بهذا الإدراك جزءاً من قلب الحياة.
غير أنكم إذا خفتم, وقصرتم سعيكم على الطمأنينة واللذة في المحبة.
فالأجدر بكم أن تستروا عريكم وتخرجوا من بيدر المحبة إلى العالم البعيد حيثما تضحكون, ولكن ليس كل ضحككم; وتبكون, ولكن ليس كل ما في مآقيكم من الدموع.
المحبة لا تعطي إلا ذاتها, المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها.
لا تملك المحبة شيئاً, ولا تريد أن أحد يملكها.
لأن المحبة مكتفية بالمحبة.



*** 
 
أما أنت إذا أحببت فلا تقل: "أن الله في قلبي", بل قل بالأحرى: "أنا في قلب الله".
ولا يخطر لك البتة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة, لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقاً لنعمتها, تتسلط هي على مسالكك.
والمحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسها.
ولكن, إذا أحببت, وكان لا بد من أن تكون لك رغبات خاصة بك, فلتكن هذه رغباتك:
أن تذوب وتكون كجدول متدفق يشنف آذان الليل بأنغامه.
أن تخبر الآلام التي في العطف المتناهي.
أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك, وأن تنزف دماؤك وأنت راض مغتبط.
أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق, فتؤدي واجب الشكر ملتمساً يوم محبة آخر.
أن تستريح عند الظهيرة وتناخي نفسك بوجد المحبة.
أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكراً.
فتنام حينئذ والصلاة لأجل من أحببت تتردد في قلبك, وأنشودة الحمد والثناء مرتسمة على شفتيك.




جبران خليل جبران: فيلسوف وشاعر وكاتب ورسام لبناني، ولد في 1883 في بلدة بشري شمال لبنان وتوفي في نيويورك 1931 بداء السل. هاجر وهو صغير مع أمه وإخوته إلى أمريكا عام 1895 حيث بدأ مشواره الأدبي. اشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم نشره سنة 1923 وهو كتاب النبي.
كانت عائلة جبران فقيرة، لذلك لم يستطع الذهاب للمدرسة، بدلاً من ذلك كان قسيس يأتي لجبران إلى المنزل ويعلمه الإنجيل والعربية والسريانية.
أسس جبران خليل جبران الرابطة القلمية مع كلِّ من ميخائيل نعيمة، عبد المسيح حداد، ونسيب عريضة.
تفاعل جبران مع قضايا عصره، وكان من أهمها التبعية العربية للدولة العثمانية والتي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص جبران على توضيح موقفه بكونه ليس ضِدًا للإسلام الذي يحترمه ويتمنى عودة مجده، بل هو ضد تسييس الدين سواء الإسلامي أو المسيحي.

كتبه بالعربية:
الأرواح المتمردة 1908
الأجنحة المتكسرة 1912
دمعة وابتسامة 1914
المواكب 1918
العواصف (رواية).
البدائع والطرائف: مجموعة من مقالات وروايات تتحدث عن مواضيع عديدة لمخاطبة الطبيعة. نشر في مصر عام 1923.
عرائس المروج
نبذة في فن الموسيقى

كتبه بالإنكليزية:
المجنون 1918
السابق 1920
النبي 1923
رمل وزبد 1926
يسوع ابن الإنسان 1928
آلهة الأرض 1931
التائه 1932
حديقة النبي 1933
الأعلام للزركلي.

وكانت أمنية جبران أن يُدفن في لبنان، وقد تحقق له ذلك في 1932. دُفن جبران في صومعته القديمة في لبنان، فيما عُرف لاحقًا باسم متحف جبران.
وأراد أن تكتب هذه الكلمة على قبره:
«أنا حي مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك»



الآنسة بريل Miss Brill

 قصة قصيرة للكاتبة : كاثرين مانسفيلد
ترجمة : خلف سرحان القرشي
  رغم أن الجو كان بديعاً، ألا إن قطعاً ذهبية كبيرة من الضياء أشبه ما تكون بسائل أبيض رش فوق المنتزه. الآنسة (بريل) مسرورة كونها ارتدت معطف الفراء، الهواء ساكن، ولكن بمجرد أن تفتح فمك، فإن رعشة تعتريك مثلها مثل تلك الرعشة التي تحسها عندما تهم بارتشاف جرعة من كأس من الماء المتجمد.
بين فينة وأخرى، تتهادى بعض أوراق الشجر التي تهب بها الرياح، آتية بها من لا مكان، من تحت أديم السماء. رفعت الآنسة (بريل) بيدها لتلامس معطفها! ذلك الشيء الصغير العزيز! شعرت بالمتعة في أن تتحسسه ثانية. لقد أخرجته من الخزانة ظهر ذلك اليوم، نفضت عنه المسحوق المضاد لعثة الملابس، فركته جيداً بالفرشاة مما جعل منظره يشيُّ بالحياة التي تأتلق الآن في عينيه الصغيرتين الباهتتين.
" ما الذي يحدث لي؟ "
هذا ما تخيلت (بريل) عيني المعطف الصغيرتين الحزينتين تقولانه.
" أوه. كم هو جميل أن ترى الآنسة (بريل) تلك العينين الصغيرتين للمعطف وقد أطبقتا عليها عبر الزغب الأحمر، لكن أنف المعطف لم يكن ثابتا كما ينبغي، ها.ها . لا بد أنه تعرض لضربة. يجب أن يعطى طرقة بطريقة ما. لا يهم ....حينما يأتي الوقت فإن قليلا من الشمع يوضع عليه كختم، فقط عندما يكون ضروريا.
"أ وه، أيها الفرس الحرون الصغير!"
نعم، هذا حقيقة ما شعرت به نحوه.
حقّاً كان معطفها مثله مثل فرس حرون صغير يعبث بذيله عند أذنها اليسرى. بوسعها نزعه ووضعه على حضنها وتمسيده. رغبت بذلك. شعرت بوخز في يديها وذراعيها. ظنت أن ذلك من جراء مشيها.
عندما استنشقت بعض الهواء فإن شيئاً مضيئاً وحزيناً ...لا ... ليس حزيناً.. تماماً... شيئاً لطيفاً يتحرك في صدرها!
هناك الكثير من الناس في المنتزه ظهيرة ذلك اليوم، إنهم أكثر من الذين كانوا هنا الأحد الماضي. الفرقة الموسيقية تعزف أنغاماً أعلى وأكثر ابتهاجاً لأن الموسم قد بدأ. الفرقة تعزف كل أحد طيلة العام ولكن في غير الموسم، فالعزف مختلف. الفرقة حين ذاك أشبه ما تكون بشخص يعزف لتستمع إليه عائلته فقط. لا يهم كيف يكون العزف إذا لم يكن هناك غرباء يستمعون .أليس قائد الفرقة مرتدياً معطفاً جديداً؟ الآنسة (بريل) متأكدة من أنه جديد. القائد أشبه بمن يحك قدمه. إنه يرفرف بيديه مثل ديك يوشك أن يصيح . أعضاء الفرقة جالسون فوق تلك المنصة المستديرة الخضراء التي تعلوها قبة، ينفخون في الآلات، فتمتلئ وجناتهم وتتوهج وجوههم، يظهر ذلك جلياً في منظر خدودهم ووجناتهم بينما هم يحملقون في النوتة التي أمامهم. حان الآن وقت العزف على آلة (الفلوت)، عُزِّفت مقطوعة قصيرة، سلسلة من النغمات الصافية. كانت واثقة من أنها ستعاد ثانية، وحدث هذا بالفعل، رفعت (بريل) رأسها وابتسمت.
شخصان فقط شاركاها الجلوس على المقعد الطويل المميز، رجل طاعن في السن، أنيق في مظهره، يرتدي معطفا من المخمل، يداه قابضتان على عصا مشي كبيرة تزينها بعض النقوش. وبرفقته امرأة مسنة، جلست بجانبه منتصبة القامة، وفوق مئزرها المطرز لفة صوف.
لم ينبسا ببنت شفة، وكان هذا محبطاً للآنسة (بريل)، التواقة دوماً للمحادثات. أصبحت في الحقيقة خبيرة تماماً في استراق السمع بطريقة خفية لا تبدو معها إنها تسترق– هذا ما جال ببالها آنذاك – إنها خبيرة أيضاً في الغوص في حياة الآخرين من خلال تلك اللحظات القليلة التي يتحدثون فيها وهم على مقربة منها!
اختلست نظرة إلى الزوجين العجوزين, لعلهما ينصرفان الآن. الأحد الماضي لم يكن ممتعاً كما هو الحال عادة. أتى رجل إنجليزي عجوز، يعتمر قبعة مفزعة برفقة زوجته التي تنتعل حذاء له أزرار، وقضت معظم الوقت تتحدث عن الكيفية التي يفترض أن تضع بها النظارة التي تفكر في شرائها، كانت متأكدة من احتياجها لها ولكنها تؤثر عدم اقتنائها، لاعتقادها أنها سوف تنكسر ولن تبقى لها لتنتفع بها. كان الزوج صبوراً جدا. اقترح عليها كل شيء؛ النوع المحاط بالذهب، النوع الذي يلف حول الأذنين، لبادة خفيفة داخل جسر النظارة الذي يوضع على الأنف. لا . لا شيء يعجبها. إزاء كل مقترح كانت تقول:" ستنزلق من على أنفي"! كادت الآنسة (بريل) أن تصيح عليها مؤنبة إياها.
كبار السن يجلسون عادة على المقاعد الطويلة، ثابتون مثل التماثيل. لا يهم ، فهناك دوماً آخرون، بوسعها مراقبتهم، حيث يجيئون ويذهبون، أمام مساكب الزهور و منصة الفرقة. يقدِمُون فرادى، أزواجاً وجماعات، يتوقفون للحديث، يحييّ بعضهم بعضاً، يشترون حفنات من الزهور من ذلك الشحاذ العجوز الذي ثبت صينية أزهاره على السياج. أطفال صغار يركضون بينهم، يأكلون ويضحكون، وثمة أطفال أصغر منهم سناً، يرتدون شرائط حريرية بيضاء تحت ذقونهم، وثمة أيضا بنات صغيرات، وفتيات فرنسيات كالدمى مكسوات بملابس مخملية مزركشة. فجأة يندفع طفل صغير مشاكس، يترنح مقترباً من الحفرة التي تحت الأشجار. يتوقف، يحملق، وسرعان ما يرتطم بالأرض ويظل مطروحاً هناك إلى أن تهرع أمه الشابة الحريصة بخطى سريعة إلى نجدته وتشتمه, وكأنها دجاجة تلاحق صغارها.
أناس آخرون يجلسون على المقاعد الطويلة والكراسي الخضراء، ولكنهم دائماً نفس الأشخاص الذين يأتون كل أحد. لا تكاد تميز أحدهم عن الآخر. السيدة (بريل) لاحظت أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بينهم، شيء ما مضحك يتعلق بمعظمهم. كانوا أشبه ما يكونون بالدمى، الصمت يستحوذ عليهم، غالبيتهم عجائز شاب فيهم الزمن، يحدقون بطريقة تجعلهم يبدون وكأنهم أتون للتو من غرف صغيرة حالكة الظلام أو حتى من خزائن مغلقة.

خلف المنصة، هناك الأشجار النحيلة تسقط أوراقها الصفراء، ومن خلال تلك الأشجار يظهر شريط من البحر وفي الخلف تظهر السماء الزرقاء محملة ببعض السحب المتشحة بعروق ذهبية.
(تـــم – تم – تايدل أم ! تايدل – أم - تم تا يايددلي أم تا).
هكذا عزفت الفرقة الموسيقية.

أتت فتاتان ترتديان الأحمر، وقابلهما جنديان في لباس أزرق. ضحكوا جميعا وأخذ كل منهما بذراع واحدة منهما ومضيا لحال سبيلهما. امرأتان قرويتان بقبعتي ريش مضحكتين مرتا بالجوار وهما تقودان حمارين جميلين بلون الدخان. راهبة وقورة، شاحبة الوجه مرت مسرعة بالقرب منها. قدمت أيضا امرأة جميلة، سقطت منها حزمة من البنفسج، ثمة صبي صغير يركض ليلتقطها لها، أخذتها منه، وقذفت بها بعيداً كما لو أن تلك الحزمة قد سممت. يا إلهي! الآنسة (بريل) لا تدري عما إذا كان من الأجدى أن تعجب بذلك أم لا! الآن امرأة تعتمر قبعة نسائية من فراء القاقم ورجل يرتدي ملابس رمادية يتقابلان وجهاً لوجه أمامها مباشرة.

كان طويلاً، وقوراً، تعلوه سيماء الكبرياء، أما هي فكانت مرتدية القبعة الفراء التي ابتاعتها عندما كان شعرها فقط أصفر، أما الآن فكل ما فيها، شعرها، وجهها، وحتى عيناها بنفس لون الفراء الباهت، وكذلك يدها المندسة في قفازها المنظف, والتي ارتفعت لتربت على شفتيها وكأنها براثن حيوان صغيرة ضاربة إلى الصفرة. أوه. كانت المرأة مسرورة لرؤية الرجل. شعرت بالغبطة. كانت شبه متأكدة من لقائه ظهر ذلك اليوم.

وصفت المرأة كل الأماكن التي سافرت إليها هنا وهناك عبر البحار. أليس النهار فاتناً ؟ ألا يعتقد ذلك؟ لكنه هزّ رأسه، أشعل سيجارته، وببطء أخذ منها نفساً عميقاً، ونفثه في وجهها. وبالرغم من أنها كانت مستمرة في حديثها وضحكها، ألا إنه رمى بعود الثقاب بعيدا ومشى. الآن قبعة فراء القاقم وحيدة؛ ابتسمت بمرح أكثر من ذي قبل، ولكن حتى الفرقة بدا إنها تعلم حقيقة شعورها، وعزفت بنعومة ولطف أكثر. وقرع الطبل. يا ترى ما الذي يجب عليها عمله؟ ما الذي سوف يحدث الآن؟ وبينما الآنسة (بريل) تتساءل، فقد عادت تلك المرأة لرفع يدها، كما لو أنها رأت شخصاً أخر، أكثر لطفاً، على مقربة منها، يهمهم. يترنم بمقطع من أغنية، وغيرت الفرقة شيئاً من عزفها للمرة الثانية، يتم العزف الآن بشكل أسرع وبابتهاج أكثر من أي وقت مضى.


الزوجان اللذان كانا يجلسان بجانب الآنسة (بريل) على المقعد الطويل نهضا الآن وسارا مغادرين. كم هو مضحك ذلك الرجل العجوز، ذو السالفين الطويلين، والذي كان يتمايل مع الموسيقى ويمشي متعرجاً، حتى كاد أن يضرب من قبل أربع فتيات يمشين بمحاذاته.

آه. كم هو ممتع ذلك الشعور! كم استمتعت به!. كم أحبت الجلوس هنا لتشاهد كل شيء! الأمر أشبه بمسرحية. نعم إنه يشبه المسرحية تماماً. من يسعه الاعتقاد أن السماء التي في الخلفية ليست سوى لوحة مرسومة. الآنسة (بريل) لم تكتشف ما الذي جعل الأمر كله على هذا المقدار من التشويق حتى أتى ذلك الكلب الأسمر الصغير يركض سريعاً وبشكل مهيب نحو المنطقة التي أمامها. ومن ثم قلّل من سرعته تدريجيا وعاد من حيث أتى مثله مثل كلب مسرح تم تخديره.
لم يكونوا فقط مجرد متفرجين. لم يكونوا يشاهدون فقط بل كانوا يمثلون. حتى هي كان لديها دور تؤديه ولذلك تأتي من أجله كل يوم أحد. لا شك أن ثمة من سيفتقدها فيما لو غابت ذات مرة.حضورها جزء من المشهد.
كم هو غريب حقاً أنها لم تفكر في الأمر على هذا النحو من ذي قبل، رغم أن ذلك هو الذي يفسر حرصها على بدء انطلاقتها أسبوعياً من منزلها وفي نفس الوقت، كما لو كانت حريصة على أن لا تتأخر عن الأداء .
ذلك يفسر أيضا لماذا تشعر بالخجل والغرابة عندما تخبر طلبتها في مادة اللغة الإنجليزية كيف تقضي ظهيرات أيام الآحاد. لا عجب في أنها كادت أن تطلق ضحكة مدوية. إنها فوق خشبة المسرح. تفكر في السيد العاجز والذي تقرأ له الصحيفة أربع مرات ظهيرة كل أسبوع بينما هو نائم في الحديقة. ألفت منظر رأسه على مخدة القطن، ومنظر عينيه الغائرتين وفمه المفتوح وأنفه المقروص. لو قدر له الموت فقد لا تلحظ ذلك لعدة أسابيع، ولن تلق له بالاً. ولكنه فجأة تذكر أن هناك صحيفة تقرأ له من قبل ممثلة. رفع رأسه التي اشتعلت شيباً، وارتعشت نقطتا ضوء عينيه الهرمتين:- " ممثلة" ،" ألست ممثلة؟". وبدأت الآنسة (بريل) تتلمس الصحيفة بيدها برقة كما لو كانت مخطوطة تحمل نص دورها في المسرحية، وقالت بلطف:- " نعم إنني ممثلة منذ زمن طويل".

أخذت الفرقة قسطاً من الراحة، الآن استأنفت العزف، الذي يتسم الآن بالدفء والتفاؤل، رغم أن فيه شيء من ....، ترى ما هو ذلك الشيء، ليس حزناً، نعم ليس حزناً، شيء ما يولد لديك رغبة في الغناء. ارتفعت النغمة، ارتفعت أكثر، لقد شع الضياء. بدا للآنسة (بريل) أن الجميع عما قريب سيصدحون بالغناء كلهم، كل الصحبة، الرفاق، الفرقة وكذلك الزوار. الشباب منهم، الضاحكون منهم الذين كانوا يتحركون مع بعضهم البعض، كلهم بلا استثناء سيشرعون في الغناء، ومعهم أصوات الرجال التي يكون فيها عزم وتصميم، والآخرون الذين على المنصة سوف يأتون ويغنون في مسايرة لطيفة؛ مسايرة بسيطة؛ مسايرة جميلة جداً تتحرك. امتلأت عينا السيدة (بريل) بالدموع ونظرت مبتسمة لكل الأعضاء الآخرين لجماعة الفرقة المفترضة. نعم ، لقد فهمنا، لقد فهمنا. فكرت في ذلك... في الذي يكونوا قد فهموه وهي لا تدري عنه شيئاً.
عند تلك اللحظة، قدم شاب يافع وفتاة، جلسا حيث كان العجوزان جالسين. كانا يرتديان ملابس جميلة جداً. بدا أنهما عاشقان لبعضهما. الآنسة (بريل) مازالت تغني من غير صوت، ومازالت أيضا محتفظة بتلك الابتسامة المرتعدة، وبينما هي كذلك أرخت العنان لأذنيها لتستمع.
الفتاة تقول:
- لا. ليس الآن. ليس هنا! لا أستطيع.
ويسألها الشاب:
-ولكن ... لماذا؟ أبسبب ذلك الشيء القديم الغبي القابع هناك!
وأضاف:
- لا أدري لماذا تأتي دوماً إلى هنا وحيدة تماماً. من يا ترى يرغب فيها؟ لماذا لا تبقي خلقتها الغبية الحمقاء تلك في البيت.
وقالت الفتاة مقهقهة:
- كم هو مضحك معطف الفراء الذي ترتديه! إنه يشبه سمكة قدِّ بيضاء مقلية.
وفي همس غاضب قال الشاب:-
-دعكِّ منها.
وأضاف:-
-والآن يا حبيبتي ألا تسمحين لي بـــ ......؟
- لا، ليس هنا، ليس الآن!

في طريق عودتها للمنزل، اعتادت (بريل) شراء قطعة من الكيك. إنها تجد في ذلك متعة كل أحد، أحياناً تجد في قطعتها حبة لوز، وأحياناً لا. إن ذلك يحدث فرقاً كبيراً. إذا وجدت فيها حبة لوز، فتكون كمن جلب لبيته هدية صغيرة، شيئاً ساراً ليس موجوداً هناك. كانت تسرع الخطى في أيام الآحاد التي تجد في قطعتها حبة اللوز, وتقدح عود الثقاب معدة إبريق الشاي على عجل..
غير أنها اليوم، مرت من عند المخبز، تجاوزته دون أن تتوقف عنده. تسلقت الدرج الموصل لبيتها، ودخلت الغرفة الصغيرة المظلمة، غرفتها التي تشبه الخزانة المغلقة وجلست على الفراش المحشو بالزغب. جلست هناك لوقت طويل. الصندوق الذي أخذت منه معطف الفراء كان ملقى على السرير. فكت مقبضه بسرعة، وبسرعة أيضاً، ومن دون أن تنظر، ألقت بالمعطف داخله. وعندما أطبقت عليه الغطاء ، تهيأ لها أنها تسمع شيئاً ما يصرخ!



 كاثرين مانسفيلد   Katherine Mansfield  :
  
   (1888 – 1923) كاتبة من عائلة نيوزيلندية بروتستانتية برجوازية، شعرت وهي في مقتبل العمر انها كي تصبح كاتبة لا بد لها من الهروب والابتعاد عن بيئتها. فرحلت لانكلترا وهي في عمر الرابعة عشرة  الى لندن حيث تابعت دراستها  قبل ان تعود الى مسقط رأسها في العام 1906 حيث اطلقت على نفسها اسماء مستعارة عديدة مثل، كاس، كاتي مانسفيلد، كاتيوشا..الخ. ولكنها اشتهرت باسمها الاخير (كاترين مانسفيلد) كأديبة وكاتبة ، ثم عادت الى انكلترا الليبرالية كلاجئة هرباً من التزامات العائلة الدينية.

وفي العام 1909 تزوجت من جورج بودن, ولكن هذا الزواج انتهى بالفشل, و بعد تسع سنوات تزوجت من جون موراي صديق جماعة بلوسبيري الادبية, ولكنه ايضاً كان زواجاً مشؤوماً على غرار المصير القصير لكاترين كاتبة القصص القصيرة, ذلك ان صحتها اعتلت وتوفيت في عمر الرابعة والثلاثين اثر اصابتها بالسل, مخلفة اعمالاً عديدة بينها مذكراتها الشخصية وعدد كبير من القصص القصيرة جمعت في خمس مجلدات ونشرت بين العامين 1911 و1924. وبعد اكثر من ثمانين سنة على رحيلها صدر كتاب يحوي عشر قصص قصيرة لها لم تنشر من قبل...

لم تكن كاترين محبوبة في عصرها، وهي كانت لا تهتم بأن تكون محبوبة كانت تريد ان تكتب فقط ، حياتها في الواقع كانت مشؤومة , ولهذا فقصصها تتعذر روايتها ! وهي لا تترك ذكريات محددة, ولكن كلها لها قوة كبيرة في الاشباع والتشبع،
كتبت قصصًا رمزية قصيرة عن حياة الناس اليومية ومشاعرهم الداخلية. 









السيرك

 بقلم الكاتب الكوبي : كارلوس لوفيرا
ترجمة : ساسي حمام 



              امتلات زوايا الشارع ذات صباح جميل بمعلقات ملطخة بألوان صارخة. معلقات تُعلِمُ السكان بالخبر الهام الذي انتظروه سنة ونصف. إنها زيارة السيرك في دورة صاخبة لايرقى اليها الشك: قدوم السيرك المكسيكي الكبير بكل عناصره: باصق النار الهندي الذي هز المتفرجين المثقفين في انكلترا وفرنسا وبقية دول أوروبا و" هوكوكين " أقوى امرأة في العالم تستطيع أن تحمل الاثقال بأسنانها فقط وفيل البرازيل المسن والمعيز والزنجيان الصغيران اللذين قلدهما صاحب الجلالة ملك اسبانيا ميدالية ذهبية.
            "السيرك … السيرك …" نداء تردد في كل بيوت القرية وانتشر في كل الارجاء فوصل الى مصنع السكر على ضفة "ساغالاتيكا" ومعمل القرميد والمنازل المحيطة به. النداء الصاخب المرح مثل أنشودة تصدح بها الابواق يتعالى في منازل القرية وفي معمل السكر وفي معمل القرميد يثير همسات القرويين التي لاتنتهي وتثير في نفوس الاطفال أحلاما فياضة. لايمكن للاطفال أن يتخلفوا ولو عن جزء بسيط من الحدث العظيم: استعراض العربات والفرق عند منتصف النهار ونصب الخيمة في ساحة الكنيسة والفرجة على الجوقة الاستعراضية في المساء يتقدمها الاكورديون والطبل يتبعها فيل البرازيل الذي فقد أنيابه. هنا تدور عقول الصبيان: البعض يفكرون في حيلة ليضمنوا مكانا والبعض الاخر اتفقوا على الخروج من المنازل ساعة الذهاب الى المدرسة دون تأخير مخبئين كتبهم تحت قمصانهم حتى يتحلقوا مع المتفرجين في الشارع الملكي… يقود الاطفال الى خارج القرية أكثر الاطفال جرأة: " براكوتاي" اليتيم الذي يرعاه الكاهن.

            "براكوتاي" طفل شقي يقوم بشعائر القداس متهجياً اللاتينية الغريبة التي علمه إياها الكاهن، يمكن أن يعمل صباحاً كاملاً في جمع ونقل أثاث عائلة تريد الانتقال الى مسكن آخر، يشق الحقول عند منتصف الليل دون خوف ملبياً دعوة الداية التي تسكن قرب معمل القرميد لمعالجة جارة ألم بها مرض مفاجئ أو ظهرت عليها أعراض الطلق ويستطيع بمهارة أن يثقب بحجر ثقبا كقرص الشمس في واجهة دكان العطار البلورية. "براكوتاي" هو الاقوى والامهر فهو يتسلق في لمح البصر شجرة جوز الهند ويستطيع أن يفك بأنفه الثورين الاماميين المربوطين الى عربة غائصة في الوحل، يصطاد الطيور بمهارة ويحطم مصابيح نجفة بمقلاع ويجني ثمار شجرة تعدت أغصانها السياج وهو الاسرع والامهر في قطع أعرض نهر سباحة دون توقف.
            بفضل هذه الاعمال انتزع "براكوتاي" الاعجاب وافتتن به الاطفال الذين يأتمرون بأمره مستعينا ب " ميغيل " اليتيم هو الاخر الذي تبناه أصحاب معمل السكر وهو كذلك منافسه وصديقه.       
             لايستطيع شقيا القرية البقاء ساكنين وهما يترقبان ضجة بعيدة تشي بقرب عربات. لقد فكرا منذ وصولهما الى"أوجوـ دي ـ أغا" في استغلال جرأتهما وحيل القرويين الاشقياء وموهبتهما في التخطيط ونشر أتباعهما في الحقول المجاورة لجني الثمار وقلع البطاطا الحلوة وجمع بيض الدجاج. تناهى الى سمعهما الضجيج الذي طالما ترقباه فتخليا عن كل المشاريع.
          - ألاتكون الشرطة ؟ سأل أصغر الصبيان وأقلهم تجربة.          
          - إنه ضجيج العربات دون شك !.. قال "براكوتاي" بكل ثقة ناظراً في كل الاتجاهات باحثاً عن "ميغيل" الذي قال موافقاً:
          إنها العربات … ثم صاح مبتهجاً … الجوالون      
          صاح الجميع "الجوالون" واندفعوا وراء "براكوتاي" ليسبقوا العربات التي تئز وتترنح عند مرورها على الاثلام والنتوءات والاخاديد الجافة المنتشرة في الطريق.

        عند الساعة الثامنة دخلت القرية ثلاث عربات مغطاة بأغطية مصنوعة من قطع سوداء قصت من خيمة قديمة، يجر كل عربة ثوران مسنان يغلفهما الغبار ويظهر على كفليهما آثار دامية لمنخس يستعمل في أجزاء الطريق الوعرة، أمام العربات "تونيكو" الشخص الذي لايمكن الاستغناء عنه صاحب الوجه الملطخ طحينا والثياب اللامعة يضرب على طبل يمتطي الحمار الذي سيقوم بالعمليات الحسابية، تسير في آخر الطابور كتلة رمادية مغلفة قشورا وتجاعيد حيوان لبون ضخم متناوم يؤرجح خرطومه بفتور وضجر. أحاط أطفال القرية بثيابهم الرثة بالبهلوانيين، اندس بينهم "براكوتاي" ومعاونه محاولين بجرأة الوصول الى الفيل جالبين الانتباه اليهما بمزاحهما وبسفالتهما.
            من حين لاخر يتفرق الصبيان ثم يتجمعون بأكثر اندفاع صائحين مصفقين ليحيطوا بعجوز"كتلة من الاعصاب" حذاؤها البالي بيدها تحاول انتزاع حفيدها الهارب من المدرسة من أبيه القاسي الفظ الغاضب الذي يجري وراء ابنه القذر وهو يحاول اخفاء كتبه تحت قميصه .
            اتجهت العربات نحو الكنيسة. لقد جاء الوكيل في الصباح الباكر على حصان يحمل المعلقات الجميلة. اتفق مع الكاهن على الاستقرار في ساحة الكنيسة. قص زنجيان دائرة كبيرة من العشب. وما ان وقفت العربات حتى بدأوا في تنزيل الادباش، وبعد قليل التحق بهم البهلوانيون والمهرجون يحيط بهم حب الاطلاع الشعبي.
           ينظر الاطفال المحتشدون الى كل شيء بذهول. فاغري الافواه، الفتيات الريفيات الخجولات تجتمعن في زوايا الشارع حالمات متنهدات يتخيلن أعمال المهرجين لاينقص هذا المشهد غير العجوز صاحبة القلنسوة التي لايمنعها الحدث العظيم من الثرثرة.
            حُفِرَ مكان عمود الخيمة الرئيسي بسرعة، استؤصلت الجذور التي قاومت الفأس بالركاسة، ثبتت دائرة من المثلثات ومد قماش الخيمة الكبيرة وأقيم شباك التذاكر ونظمت الواح المدرجات المرقمة وشرعوا في نصب الخيمة الكبيرة فقطعوا بمنشار بعض القطع الخشبية التي سقطت في صخب ثم ارتفع صرير بكرات الرافعة الجافة لرفع العمود الكبير.

            رجع "ميغيل" الى معمل السكر ليخفف عقوبة حتمية وبقي "براكوتاي" يعمل هنا وهناك ليضمن حضور العرض مجاناً. قاد الثيران للنهر لتشرب وأحضر حملا من قصب السكر للفيل وذهب الى الصيدلية ليشتري مراهم للمرأة القوية ووزع مائتي معلقة في بعض شوارع القرية.
          نصبت الخيمة الكبيرة وبجانبها خيمة صغيرة للاقامة ولتغيير ملابس المهرجين وعلى رأس العمود لمعت الشارة المميزة للسرك ذات الالوان الثلاثية يعلوها النسر الاسود. شرع المهرجون يقومون بالاعمال الاخيرة: يملاون المصابيح الكبيرة بترولا، يرتبون الشرفات وينشرون نشارة الخشب على الحلبة، أصبح "براكوتاي" محبوبا من الجميع وكأنه واحد منهم، يمشي بزهو ويحدّث بفخر الاطفال الذين بقوا خارج الخيمة عن العجائب التي رآها في كواليس السيرك:
           اسمعوا أيها الاطفال كم هو قاس المهرج…! أأكد لكم أنه فظ ! لقد ضرب الحمار لانه رفض اكل السردين بالزيت …. أقسم لكم !
         سردينا بالزيت ؟ وهل ياكل الحمار السردين المعلب ؟  
          طبعا أيها الغبي … انه حمار يجري العمليات الحسابية … مثل الانسان تماما … ونحن ألسنا في حاجة للسوط حتى نتعلم الحساب ؟ … اعرفت الفرق ؟ …
            -وماذا عن المرأة القوية "براكوتاي" ؟
            - لها عضلات هكذا!
            - كم أنت محظوظ يا "براكوتاي" ! تعرف دائما أين تضع نفسك !
            نال "براكوتاي" إعجاب الجميع وخاصة اعجاب المرأة القوية: تقول انه يساوي ثقله ذهباً وتميزه بصفة غريبة ولا ترسل غيره للعطار ليشتري لها الماء وهو الذي ينظف حذاءها … كم هو محظوظ "براكوتاي" !
            على الساعة الخامسة والنصف أصبح السيرك جاهزاً، بعض البهلوانيين يتدربون على قفزاتهم الخطيرة وعلى بعض التمارين على الارجوحات. وصل "ميغيل" إلى مدخل الخيمة عندما كان البعض يستعد للقيام بجولة في أرجاء القرية… وقف بين مجموعة من الصبيان فاغري الافواه أمام الستار الرقيق الاحمر المتدلي الذي يخفي جنة أخاذة مجهولة.
              ظهر"براكوتاي" بهيئة شخص مهم … يمشي بخيلاء ولما رأى "ميغيل" اقترب منه وقال له بلهجة رسمية وبصوت مرتفع:
             - أنت .. اقترب حتى أريك شيئاً.
             - ماذا عندك ؟  
            - شيء مدهش… أصبحنا منهم.
             - ضمنت لي مكانا؟
             - لا أحسن من هذا !
            - مال ؟
             - أحسن بكثير !
وعندما انعطفا حول زاوية الكنيسة تحسس "براكوتاي" جيب سرواله المنتفخ بشيء مستدير …وأخيراً
قال لـ "ميغيل":
             -أرأيت هذا ؟
             - نعم …
             - هذا سر المرأة القوية … لقد سرقته لها … أنا كذلك أريد رفع الاثقال بأسناني فقط….
             - كيف ؟
            - ستفهم كل شيء… أمرتني هذا الصباح بالذهاب لتنظيف فستان وعندما رجعت نظرت من ثقب الباب.. رأيتها ترتدي ثياباً قصيرة جداً… تصل الى ركبتيها… لم أجرؤ على الدخول وبقيت أراقب أخرجت من حقيبتها الصغيرة التي كانت بيدها هذا الصباح علبة صغيرة تشبه علبة الاقراص تحتوي على مسحوق أحمر مثل الدم وأخذت فرشاة بيضاء وضعت عليها قليلا من ذلك المسحوق وشرعت في حك أسنانها … وبقيت تحك وتحك … لم أترك العلبة والفرشاة تغيبان عن نظري وعندما دخلت لاعطيها الفستان سرقتهما إنهما الان في جيبي .
             - اخرجهما … دعني أراهما … 
             - انظر…
             - اذن …. ولكن … هذا مسحوق أسنان وهذه الفرشاة…
             - ماذا؟
             - ما قلته يا عزيزي …هذا لايفيد ولايقوي أحداً …هما نفسهما تستعملهما سيدة معمل السكر … تستعملهما لتنظيف أسنانها وتلميعها حتى تظهر أجمل …
             - غير معقول ؟
             - أأكد لك … هذا يستعمله الاغنياء من أجل أسنانهم…
             اذهب وانظر هل "دوناكارلا" سيدة معمل السكر تحمل أثقالاً بأسنانها رغم أنها تستعملهما … يرسلون لها المسحوق من "هافانا" مع الصابون ومدقوق قشور البيض …
            ولما رأى "ميغيل" أن "براكوتاي" يشك في كلامه أخذ العلبة من يده وقال بثقة:
            - أنظر …اقرأهذا "مسحوق أسنان" نفس النوع الذي تستعمله "دوناكارلا".


كارلوس لوفيرا (1881 - 1928):

Carlos Loveira


 ولد في كوبا من عائلة فقيرة، هاجر الى الولايات المتحدة في بداية حرب الاستقلال سنة 1895، وعند رجوعه الى الوطن عام  1908اشتغل عاملاً في سكة الحديد. كوّن عدة نقابات وله صلات بالمجموعات النقابية في كامل أمريكا الوسطى التي زار جميع بلدانها. 
أنتخب عضو في الاكاديمية الكوبية للفنون والآداب سنة1926.

 نشر العديد من الروايات والمجموعات القصصية .
 
يعتبر أحد اكبر المتحمسين للأفكار الاشتراكية وواحد من القادة المؤسسين للحركة العمالية الحديثة.






درب الموتى

 قصة قصيرة للكاتب النيجيري شينوا أشيبي
 ترجمة: د. فراس عالم





لم يكن (مايكل اوبي) يتوقع أن تتحقق أمنياته بهذه السرعة، فقد تم تعيينه مديراً لمدرسة ( ندوم ) المركزية في يناير 1949. كانت المدرسة من المدارس المتأخرة في المنطقة وقد قرر المسؤولون إسناد إدارتها إلى مدرس شاب ونشيط لإصلاح شأنها. قبل (اوبي) المهمة بحماسة ووجدها فرصة مناسبة لتطبيق أفكاره الخلاقة على أرض الواقع.

حصل (اوبي) على تعليم ثانوي متميز نال بفضله لقب "مدرس أول" في التقارير المهنية مما جعله متفوقا على زملائه من مدراء المدارس الآخرين. كما كان صريحا في انتقاده لضيق الأفق الذي يلازم زملائه الأكبر سناً و الأقل تعليماً.

-"سنقوم بعمل رائع في تلك المدرسة" كانت تلك هي العبارة التي قالها لزوجته الشابة عند سماعه خبر ترقيته المبهج.
-"سنقدم أفضل ما عندنا" أجابته زوجته، ثم تابعت " سيكون لمنزلنا هناك حديقة جميلة و سأجعل كل شيء فيه حديثاً وعصرياً".
خلال فترة زواجهما البالغة عامين تمكن مايكل أن ينقل لها عدوى حماسته للحداثة و نفوره من "المدرسين القدامى والتقليدين الذين يراهم أقرب إلى الباعة في سوق شعبي منهم إلى التدريس".
أخذت تتخيل نفسها وهي محط الإعجاب كزوجة للمدير الشاب وملكة للمدرسة، وبالطبع ستحسدها زوجات المدرسين على مكانتها، ستعتني بكافة التفاصيل في المدرسة ... وفجأة خطرت ببالها فكرة ألا يكون هناك زوجات أخريات معها، متأرجحة بين الخوف والرجاء سألت زوجها عن وضع زملائه المدرسين وهي تترقب إجابته بقلق.
-"كل زملائنا هناك من الشباب و غير متزوجين" أجابها بحماسة لم تشعر في هذه المرة أنها تشاركه فيها، لكنه تابع
-" وهذا أمر جيد!"
-" لماذا؟"
-" لماذا؟ لأنهم سيكرسون كامل وقتهم و جهدهم للمدرسة"
شعرت (نانسي) بالاكتئاب، ولدقائق قليلة أصبحت تشكك في جدوى الانتقال للمدرسة الجديدة، لكن امتعاضها سرعان ما تلاشى أمام سعادة زوجها وآماله الكبيرة. أخذت تتأمله وهو جالس بوضع منحني على المقعد، كان أحدب الكتفين ويبدو لمن يراه هشاً وسهل الكسر لكنه في بعض الأحيان يفاجئ الآخرين بموجة من الطاقة البدنية الهائلة. بدا لها في مجلسه في تلك اللحظة أن مصدر كل تلك الطاقة يكمن في نظرة عينيه الغائرتين والتي تمنحه قدرة عاتية على الاختراق. كان في السادسة والعشرين من العمر لكن يبدو وكأنه في الثلاثين أو أكبر وفي العموم لم يكن يخلو من وسامة ظاهرة.
-" بنس مقابل ما تفكر فيه يا مايك" قالتها (نانسي) بعد برهة صمت مقلدة المجلات النسائية التي تقرأها.
-" كنت أفكر في الفرصة العظيمة التي حصلنا عليها لنري الناس كيف تدار المدرسة كما ينبغي".
كانت مدرسة (ندوم) متخلفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وقد كرس لها الأستاذ (اوبي) وزوجته كامل وقتهما وقد جعل نصب عينية هدفين رئيسيين، تقديم مستوى عال من التعليم وتحويل مبنى المدرسة إلى مكان يشع بالجمال، وقد تحقق حلم زوجته بالحديقة المزهرة عندما هطلت الأمطار وتفتحت الورود الحمراء والصفراء على شجيرات (الهيبيكوس) و (الالماندا) المكونة لسياج الحديقة المحيط بفناء المدرسة من الخارج في منظر بديع.

ذات يوم و بينما كان أوبي يتأمل نتاج عمله بإعجاب رأى منظراً أشعره بالخزي، فقد رأى امرأه قروية عجوز تعرج عابرة فناء المدرسة وقد داست حوض أزهار (الماري جولد) وسياج الشجيرات القصير. و بتفحصه للمكان أبصر أثراً باهتاً لطريق مهجور يمر عبر فناء المدرسة رابطاً بين القرية و بين الدغل في الجهة الأخرى.
-" أنا مندهش" قالها اوبي لأحد المدرسين - والذي قضى ثلاث سنوات في المدرسة - ثم هز رأسه منفعلا و تابع
-" كيف تسمحون للقروين باستخدام طريق يمر عبر المدرسة؟ هذا ببساطة لا يعقل".
أجابه المدرس معتذراً:
-" ذلك الطريق مقدس جداً عند القروين، فهو يربط بين المقام المقدس في القرية وبين المدافن، كما أنه نادراً ما يستخدم".
-" وما علاقة المدرسة بكل هذا؟" تساءل المدير.
هز المدرس كتفه قبل أن يجيب
-" لا أدري، لكنني أتذكر أن شجاراً كبيراً حصل منذ زمن عندما حاولنا إغلاق الطريق".
-" كان هذا في ما مضى. لكنه لن يستخدم بعد اليوم" قال له المدير وهو يبتعد بخطوات حازمة ويضيف.
" ما الذي سيقوله عنا مدير التعليم عندما يأتي في جولته التفتيشية الأسبوع القادم؟ ربما سيجد القروين وقد احتلوا غرفة في المدرسة لممارسة طقوسهم الوثنية فيها وقت زيارته".
تم غرس قضبان ثقيلة على مسافات متقاربة لتسد الطريق من مدخله ومخرجه في طرفي فناء المدرسة، كما تمت تقويتها بأسلاك شائكة لفت من حولها.
بعد ثلاثة أيام قدم كاهن القرية للمدرسة طالباً مقابلة المدير، كان رجلاً متقدما في السن محدودب الظهر يستعين بعصا غليظة لمساعدته في المشي وكان يطرق بها الأرض بقوة عندما يشدد على نقاط مهمة في حديثه. وبعد تبادل الأحاديث الودية شرع الكاهن في الكلام.
-" لقد نما إلى علمي أن درب الأسلاف قد تم إغلاقه".
-" أجل" أجابه السيد (أوبي)، ثم تابع "لا نستطيع أن نجعل الناس تتخذ من فناء المدرسة طريقاً عاماً".
طرق الكاهن العجوز على الارض بعصاه ثم قال:
-" أنظر يا بني، هذا الطريق موجود قبل أن تولد أنت، و قبل أن يولد أبوك، حياة القرية بالكامل تعتمد على هذا الطريق. أقاربنا الموتى يغادرون عبره، وأسلافنا يزوروننا عبره، لكن الأهم من ذلك إنه الطريق الذي يأتي من خلاله الأطفال الذين سيولدون".
استمع السيد أوبي لحديث الرجل وعلى وجهه ابتسامة رضى ثم أجابه:
-" الهدف الاساسي لوجود مدرستنا هو اقتلاع هذه المعتقدات من العقول، الموتى لا يحتاجون ممشى على الأرض، الفكرة بكاملها خرافة. مهمتنا هنا هي تعليم الأطفال أن يسخروا من مثل هذه الأفكار".
-" قد يكون ما تقوله صحيحاً" أجابه الكاهن العجوز ثم أضاف "لكننا نتبع ما كان يفعله أباؤنا، وإذا فتحت الطريق لن يكون لدينا ما نتشاجر بشأنه. ما أردده دائماً: دع الصقر يحط رحاله ودع النسر يفعل ذلك أيضاً". وهم الرجل بالنهوض.
رد عليه المدير الشاب:
-" أنا آسف. لا يمكن أن نجعل فناء المدرسة طريقاً عاماً. إن ذلك مخالف للأنظمة، ما رايك في أن تقيموا طريقاً آخر يلتف حول المبنى، وسوف نجعل الأولاد يساعدونكم في إنشائه، لا أعتقد أن الأسلاف سيجدون الانعطاف البسيط أمراً مرهقاً لهم".
-" لا يوجد لدي شيء لأضيفه" قال الرجل العجوز وهو يغادر المكان.
بعد ذلك الحديث بيومين توفيت امراة قروية خلال ولادة متعسرة، تمت استشارة عراف القرية فأمر بتقديم تضحيات عظيمة لاسترضاء الأسلاف الذين تمت إهانتهم بالسياج الذي سد الدرب المقدس.
استيقظ الأستاذ (أوبي) في صباح اليوم التالي على الخراب الذي حل بمدرسته، حيث تم تدمير الأسيجة النباتية الجميلة ليس فقط من ناحية الدرب المسدود بل من جميع الجهات المحيطة بالفناء، كما تم دهس الأزهار الجميلة بلا شفقة، بل إن أحد مباني المدرسة تم هدمه...
صادف ذلك اليوم يوم زيارة مشرف التعليم ذي الأصول البيضاء للتفتيش على المدرسة، والذي كتب تقريراً سيئاً عن حالة المبنى لكن الاسوأ كان ما كتبه عن " حالة الحرب والعداء بين المدرسة والقرية والتي سببتها الحماسة الغير رشيدة لمدير المدرسة الجديد".




 شينوا اشيبي:


 ولد شينوا أشيبي في نيجيريا عام 1930 وهو المؤسس لسلسلة هانيمان للادب الافريقي. وهي تشمل اكثر من «300» كتاب.  نال نحو 25 دكتوارة فخرية من جامعات في شتى انحاء العالم.
له مايربو عن الـ «17» كتاباً يشمل خمس روايات: اشياء تتساقط «1958» ولم يعد مرتاحاً «1960» سهم الحرب «1964» ورجل الشعب «1966» وكثبان النمل في السافانا «1987» وغيرها.



 أختير  «أباً للأدب الأفريقي الحديث»، وفاز بجائزة  مان بوكر انتناشونال     The Man Booker International

 تقديراً لأعماله الأدبية التي كتبها عن موطنه نيجيريا.

 ركز في كتاباته على مواجهة أفريقيا للاستعمار الأوروبي، وسيحفظ التاريخ لأشيبي روايته الخالدة Things Fall apart «الأشياء تتداعى»، تلك التي هزت مانديلا وبعثت فيه القوة كما قال عنها، وإحدى أعظم روايات القرن العشرين رغم حجمها الصغير. وفيها يعرض أشيبي الأثر السلبي والمدمر للثقافة الغربية  على ثقافة وحياة الإيبو، المجموعة القبلية التي يتحدر منها أشيبي.

 عندما كان الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا يقضي فترة الـ27 سنة في السجن، روي عنه أنه كان يستمد ثباته ويستجمع شتات قوته، مما كان يقرأ للكاتب النيجيري شينوا أشيبي. ودخلت التاريخ كلمته الخالدة عنه «برفقته تتهاوى جدران السجن». 













Twitter Bird Gadget