بنت اسمها سامية



كانت في العاشرة، وكان لها "فستان" أصفر كثير التردد على حبل الغسيل... وجديلتان طويلتان كنا نشدها منهما وقت الشجار... وعين تغمضها إذا مرت طائرة، وأخطاء فاحشة في دفتر الإملاء، ودمعة على أهبة الانذراف إذا لامتها المعلمة.


كانت جميلة، أجمل بنات الحارة، ولو أتيح لها أن تستحم، بواقع مرتين في الأسبوع، لكانت أجمل بنات الدنيا قاطبة.
ولكنها كانت قوية، لها أظافر مدببة، وحنجرة مفتوحة، دوماً، للزعيق، وموهبة متميزة في إصابة الهدف بحجر. كنا نسميها "حسن صبي"، كنا أذناباً لها، كنا لا نتعدى على "الحواكير" إلا إذا أمرتنا بذلك. والأهم من ذلك كله، كنا نحبها.

على ذكر الحب، فها أنا أعترف، بعد كل هذه السنوات، أنني أحببتُ "سامية"- من قال أن الأطفال لا يقعون في الحب؟ قسماً أنني أحببتها كما لو كنتُ رجلاً على مشارف الثلاثين.

"سامية... يا سامية"... يا ملعونة، ربما فاتني أن أعترف لكِ، بحكم انشغالي بالطفولة، إنني كنت أغار عليكِ، كنتُ أتضور قهراً حين اصطلي بإهمالكِ لي، كنت أبكي إذا اغتابك غلام لا أقدر عليه (ملاحظة للزملاء الكتاب والسادة النقاد الأشاوس: قد تأخذون عليَّ الإكثار من استعمال كلمة "كنت" ومشتقاتها، وعلشان اختصر عليكو الطريق، أقول مقصودة).



... ثم اختفت "سامية"، غابت. صحونا ذات يوم وإذا بـ "عفشهم" محمول في سيارة ذات سائق ضخم. وفي الحال، جلستُ أنا على حجر، وقررتُ أن أبكي إلى أبد الآبدين!
ربما تذكرتها مرة، أو مرتين، أو ثلاث، أو مليون مرة، وربما سألتُ عنها مرة، أو مرتين، أو مليون مرة. وربما قلبي تفلطح من شدة الخفق، كلما رأيتُ طفلة تشبهها!


وبالأمس فقط، رأيتُ "سامية". إنها "سامية". إنها هي! أنا أعرفها،
فـ "الشامة" ما تزال على مقدمة الأنف، والـ "غماز" ما يزال في الذقن. ولكن... ما الذي غيرها هكذا؟ من أين جاءت بكل هذا الترهل؟ إنها حامل، وثمة زوبعة من الأطفال، من مختلف الأعمار والأحجام، بمعيتها... إنها تساوم بائع الخضار، وأطفالها الصغار متعربشون بقوامها الذي أحناه الفقر. إنها فقيرة ولولا ذلك لما وقفت تساوم بائع الخضار من أجل قرش!


أيتها الأرض... انشقي وأبلعيني!!!
"سامية" كانت تطمح أن تصبح طبيبة!!!




محمد طملية
كاتب وصحفي من الأردن (1957 - 2008)

يُعد من الكتاب الأردنيين الأكثر شهرة محلياً وعربياً لما يتميز به من سخرية لاذعة وفهم سياسي لما يدور محلياً ودولياً. بدأ مشواره الصحفي مع جريدة الدستور عام 1983، وكان كاتباً لعمود يومي في عدة صحف أردنية أخرى، كما كان عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة الكتّاب الأردنيين، وفي إتحاد الأدباء والكتّاب العرب.
وهو أول من كتب مقالاً ساخراً في الأردن . وقد استطاع أن يوجد لنفسه أسلوباً فريداً، فجمع بين الأسلوب الصحفي والأدبي في الكتابة.


من مؤلفاته

* جولة العرق (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1980.

* الخيبة (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1981.

* ملاحظات حول قضية أساسية (قصص) الزرقاء: مطبعة الزرقاء

 الحديثة، 1981.

* المتحمسون الأوغاد (قصص) عمان: رابطة الكتاب الأردنيين،

 1986.

* يحدث لي دون سائر الناس. كتاب مشترك مع رسام الكاركاتير

 حجاج، منشورات شركة أبو محجوب، عمان، 2004.



 

البرغي


أصيب الموظف الكاتب تشيريبانوف بألم شديد في معدته مدة يومين. وفي اليوم الثالث لم يستطع الحضور إلى وظيفته وبقي طريح الفراش. لم يكن لديه ما يقرأه، وكانت السماء تبدو رمادية مملة من النافذة. كانت الساعة تدق بصورة رتيبة فوق رأسه، ولم يشعر برغبة في النوم.

أثناء رقوده مغمض العينين، أخذ تشيريبانوف يمارس ما كان يعيقه عنه في الأوقات العادية، عمله ومواعيده وخلافاته مع صديقته فيروشكا والسينما وصوت وابور الكاز، والكسل عموماً. لقد استغرق تشيريبانوف في التفكير.

اتخذت أفكاره في البداية طابعاً غير عادي. لم يفكر براتبه في الشهر القادم، ولا بقطع علاقته بفيروشكا والزواج من تانيا، ولا بإجازته، ولا حتى بربح مئة ألف. باختصار، لم يفكر أبداً بما يفكر به الإنسان عادة في أوقات الفراغ. لقد كانت أفكار تشيريبانوف غير متوقعة، بالنسبة له نفسه، كانت أفكاراً مجردة، وسامية.

" من أنا؟"

فكر تشيريبانوف، متسائلاً فيما بينه وبين نفسه "أنا مواطن في الاتحاد السوفييتي، كاتب في الاتحاد الصناعي للمعادن غير الحديدية. أنا برغي في آلة الدولة الجبارة. وليكن صغيراً وغير ملحوظ، لكنه برغي على أية حال. واليوم، هذا البرغي لا يعمل، وتتراكم على طاولتي رزم من الأوراق غير المسجلة وغير المصنفة في أضابير وسجلات... قد تقوم بجزء من عملي فرفارا بتروفنا عوضاً عني. ولكن كيف ستنفذه؟ ثم لدي في درج طاولتي أوراق لا يعرفها أحد غيري. ومفتاح طاولتي معي وحدي. إذن، لن تسير الأمور على ما يرام دون البرغي. لا... لن تسير".

فتح تشيريبانوف عينيه ودخن سيجارة. لقد كانت أفكاره اليوم مُرضية بالنسبة له. وأثارت في نفسه الشعور بالفخار.

" أجل!... أنا برغي. والدولة تهتم بهذا البرغي وتفكر فيه. فاليوم صباحاً، اتصلت صاحبة الشقة بإدارتي وأعلمتها أنني مريض. وقد زارني الطبيب، وهو أيضاً برغي. والآن، في الصيدلية، ثمة براغي أخرى تحضر لي الدواء. تحضر لي، أنا، تشيريبانوف، الكاتب في الإدارة العامة، الذي توقف مؤقتاً عن العمل بسبب مرضه".

وفجأة، سيطرت صحوة مؤثرة على روح تشيريبانوف. وتصور البناء بكامله الذي يقيم فيه، ثم الشارع كله الذي يقع فيه منزله، ثم موسكو كلها، ثم أخيراً، وبصورة ضبابية وبصعوبة، تصور الاتحاد السوفييتي كله، بأنهاره وجباله، وبحيراته المختلفة، وجمهورياته قرغيزيا وبشكيريا و... "في كل مكان ثمة براغي صغيرة وكبيرة. وكل برغي يعمل ما يجب عليه، على هذا البرغي، أن يعمل حسب المركز الذي يشغله، وحسب جدول التعرفة. وجميع البراغي، إن صح القول، يدعم أحدها الآخر وتشكل آلة واحدة... وإذا ما انتزعت هذه البراغي وفرطتها، ووضعتها في الفراش فإن الآلة كلها ستتعطل، وكل شيء يتوقف، الخطوط الحديدية، والإدارات، وحافلات الترام..."

وأخذ تشيريبانوف نفساً طويلاً من سيجارته، وفجأة حرك حاجبيه بصورة جدية " نعم... نعم... على كل برغي أن يعرف من هو، وأين موضعه.

أنا، على سبيل المثال، كم من المرات خرجت قبل انتهاء الدوام بنصف ساعة من الدائرة، بسبب هذه الفتاة فيرا، والأوراق مكدسة فوق مكتبي. في حين أن برغياً آخر لن يتمكن من العمل دون هذه الأوراق. أو يسيطر علي الكسل، فأجلس وأتقاعس عن العمل. وماذا وراء الوظيفة؟ فليأخذها الشيطان. وعلى أية حال، تستلم راتبك في الخامس عشر من كل شهر، سواء عملت أم لم تعمل. والمهم أن تهتم بنفسك، لا بالوظيفة...أما الأوراق والمعاملات فتتكدس وتتراكم... والناس يلاحقونها ويتابعونها ...آه نحن أناس غير واعين. ما ان تقف في الطابور حتى تتأوه وتتضجر، وكأنك واقف على شوك! ونحن أنفسنا لا ندرك أننا السبب في تشكل هذه الطوابير، لأننا براغي!"

قرعت الساعة عدة مرات فوق رأسه، ولم يلحظ تشيريبانوف ضرباتها، وكان يدخن ويفتح عينيه ويغلقهما، ويتقلب وهو مستلق، من جنب لآخر، وبقي مشغولاً بأفكاره حتى المساء.

بعد أن بقي طريح الفراش أربعة أيام، عاد تشيربانوف إلى وظيفته وأذهل جميع زملائه على الفور. فقد غدا قليل الحديث، جافياً، وكان يقلب في أوراقه دائماً، ولا يرغب بالإجابة عن سؤال لا يتعلق بواجباته المباشرة. أصبح يأتي إلى الوظيفة قبل الجميع، في الصباح الباكر، ويخرج من وظيفته آخر الموظفين دوماً. وأخذ يبدي أقصى درجات الاحترام واللباقة في معاملة جميع المراجعين، بينما أصبح يتبع أسلوباً غريباً مع زملائه، فيؤنبهم لتأخرهم ولقتلهم الوقت عبثاً دون عمل، وأخذ يتحدث باستمرار عن البراغي.

أخذ زملاؤه الموظفون يتبادلون النظرات فيما بينهم، ويهزون أكتافهم ويبتسمون باحتقار، ويتسامرون من وراء ظهر تشيريبانوف:
- وماذا يريد؟ ومن هو؟ ربما يكون عميلاً سرياً لجهاز الرقابة؟
يتدخل في كل شيء، ويقدم مواعظه للجميع! إنها شناعة بلا حدود. وإذا ما استمر أمره على هذا النحو فسيكون من المستحيل العمل معه. ربما نتحدث بأمره مع رئيس الديوان العام، أليس من الممكن فصله أو نقله إلى مكان عمل آخر؟

- حاولي، انقلي إليه ذلك. ربما يكون قد عيّن فعلاً مفتشاً سرياً؟ بالأمس، وبسبب هذا الشيطان، جلست نصف ساعة إضافية بلا داع. لم يكن هناك أي عمل، ومع ذلك بقيت في الدائرة. إنني أخافه.

- ماذا؟ عثرت على من تخاف منه. أما أنا، فأعتقد أن شيئاً من الخبل أو الجنون قد مسه بعد مرضه، ولا شيء غير ذلك. لقد سمعته، إنه يتحدث دوما عن براغ ولوالب. هذه هي المسألة، أظن أنه فقد أحد براغي عقله. اسمع، إنني سأخرج علناً، قبل نهاية الدوام بنصف ساعة.

- هكذا كنت تخرجين في السابق يا فرفارا بتروفنا.

- وماذا في الأمر، كنت أخرج سابقاً قبل نصف ساعة، بصورة عادية، أما الآن فسوف أخرج بصورة استعراضية! من أجل إغاظة هذا الأبله.

- تريثي قليلاً، ربما تنتهي عنده هذه الأزمة. فهو لم يكن سابقاً على هذا الشكل.

غير أن تشيريبانوف، بوجهه المستنير، تشيريبانوف المرهق، الذي أصيب بالنحول والضعف، تابع العمل الجدي عن ثلاثة موظفين، وأوجد نظاماً جديداً سريعاً لتسجيل الوثائق والأوراق. وتابع النظر إلى زملائه غير المتعظين باستهجان واستنكار.

أما رئيس الديوان العام ألكسي ستيبانوفيتش الذي أيد في البداية غيرة تشيريبانوف كثيراً، ودافع عنه من هجمات الموظفين الآخرين، فقد أخذ التردد يسيطر عليه هو نفسه، في نهاية الأمر.

وعندما حدثه تشيريبانوف ذات مرة، في الممشى، عن مشروعه الجديد لتسجيل الأوراق وتبسيط الأعمال الكتابية، شعر ألكسي ستيبانوفيتش بالخوف فعلاً، وقرر في نفسه على الفور، أن هذا الموظف الكاتب يطمح لأن يشغل مركزه، وقال في نفسه "إنها مسألة حساسة، فليأخذه الشيطان! ومن حسن حظي أنه حدثني بمشروعه أولاً. فقد كان بإمكانه التوجه مباشرة إلى مدير الإدارة ويصبح الأمر منتهياً. فيرشحه ويضعه مكاني وينتهي أمري. لا، أيها الأخ، إنك تلعب بالنار. ولم توفق في اختيار من تمارس عليه هذه اللعبة". 
 
غير مدير الديوان العام موقفه على الفور من تشيريبانوف. وبعد يوم واحد، وأثناء تقديمه تقريره إلى رئيس الإدارة، نقل إليه مشروع تشيريبانوف، ونسبه إلى نفسه وكأنه مشروعه هو، وحصل على ثناء حار من الإدارة.
وبعد أن جمع أوراقه واستعد للخروج من مكتب رئيس الإدارة، أشار ألكسي ستيبانوفيتش إشارة عابرة:
- بالمناسبة، أيها الرفيق أندرييف وبصدد مشروعي، من المحتمل أن أقوم بتقليص الملاك.

- رائع جداً.

- وقد فكرت بإقالة هذا الكاتب تشيريبانوف، إنه غير مناسب، فما رأيك؟

- أقل من تريد يا عزيزي. إنني لا أعرف لماذا تسألني. فانا لا أعرف موظفيك أبداً.

- حسناً.

وخرج ألكسي ستيبانوفيتش جذلاً مغتبطاً. وقال في نفسه" أي عميل هذا لدائرة التفتيش!...إنه مجرد صبي، غر، أراد أن يبرز... ونحن سنبرزه على طريقتنا".

بعد أسبوع، أقيل تشيريبانوف من عمله، و لم يلحظ أحد أن الديوان العام للاتحاد الصناعي ينقصه برغي!





فاسيلي إيفانوفيتش ليبيديف كوماتش 
 (1898- 1949) 
 
سياسي- شاعر- كاتب- موسيقي وشاعر غنائي من الاتحاد السوفياتي.

كتب الكثير من الأغاني السوفيتية الشعبية. من أبرز أعماله كتابة نشيد الحزب البلشفي.


Twitter Bird Gadget