الخريطة…والطفل….


ترجمها عن التركية أحمد غنام

جلس الرجل صباح يوم الجمعة يقرأ جريدته، وهويحدث نفسه ويقول لن أسمح لأحدٍ اليوم أن يعكّر عليّ يوم عطلتي هذا، حتى جاء صغيره وهو يقول له: أبي متى سنذهب اليوم إلى السينما؟

نظر إليه أبوه وتذكر أنه وعده في الأسبوع الماضي أن يأخذه إلى السينما.

ولكنه اليوم كان مصمماً أن يستمتع بالعطلة هذه، فنظر في جريدته التي كان يقرؤها فرأى على إحدى صفحاتها صورة لخريطة العالم، فما كان منه إلا أن قطع صورة الخريطة إلى قطع صغيرة ونثرها أمام ولده قائلاً:

عليك أولاً أن تقوم بتجميع وإصلاح هذه الخريطة وبعدها نذهب إلى السينما، ثم عاد ليستمتع بقراءة جريدته وهو يقول:

إن أكبر أستاذ جغرافية لن يستطيع تجميع هذه الخريطة إلى المساء.

ولكن الطفل عاد بعد عشر دقائق، ووضع الخريطة أمام والده، وقال: 

هذه هي الخريطة جاهزة، هل أجهز نفسي للذهاب الآن؟!

فذهل الوالد مما رأى أمامه، وقال لطفله:

كيف نجحت في تجميعها بهذه السرعة؟!!!

فرد عليه الطفل قائلاً:

أنت يا أبي عندما أعطيتني صورة الخريطة، نظرت في الخلف فرأيت صورة إنسان فقلت في نفسي:

إن أنا أصلحت هذا الإنسان فإن خريطة العالم بطبيعتها ستنصلح.!!!

الموت في سامراء

 قصة قصيرة جداً ل غابرييل غارسيا ماركيز
  ترجمة صالح علماني


 رجع الخادم إلى بيت سيده وهو يرتجف خوفاً. 
ــ سيدي ــ قال ــ لقد رأيتُ الموت في السوق وقد أومأ إليّ متوعّداً. قدم إليه السيد حصاناً ونقوداً وقال له: 

ــ اهربْ فوراً إلى سامراء. 
هرب الخادم.
 وفي وقت مبكر من المساء، التقى السيد في السوق بالموت. 
فقال له:
 ــ هذا الصباح أومأتَ إلى خادمي إيماءة توعّد.
 فأجابه الموت: 
ــ لم تكن إيماءة توعد، وإنما استغراب. 
لأنني رأيته هنا، بعيداً جداً عن سامراء، حيث عليّ أن أقبض روحه هناك هذا المساء.




غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز ( Gabriel José García Márquez) :

( 1927- 2014) روائي وصحفي وناشر وناشط  




وسياسي كولومبي. عاش معظم حياته في المكسيك وأوروبا وقضى  معظم وقته في مدينة مكسيكو. نال جائزة نوبل للأداب عام 1982 وذلك تقديرا للقصص القصيرة والرويات التي كتبها.




ومن أشهر رواياته:


*مائة عام من العزلة 1967 :والتي بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة .

*خريف البطريرك، 1975.

*قصة موت معلن، عام 1981 .


*رائحة الجوافة عام 1982 .
*الحب في زمن الكوليرا، عام 1986 .

من ترح إلى فرح



أبو فياض وهذا هو لقبه، شاب في الثلاثينيات، أمّي لا يميز بين الألف والعصا كما يقال، ولا يتقن من الأعمال سوى حمل الأثقال، يكلفه تجار السوق بنقل البضائع من وإلى مخازنهم، وما يحصّله
من مال مقابل تسخير عضلاته، ينفق منه على عائلته الصغيرة المكونة من والدته، وزوجته الشابة، وطفله حديث الولادة...
وذات يوم، عاد أبو فياض، من عمله متعباً، هرعت زوجته كعادتها، فأحضرت " طشت" الماء الساخن وابتدأت تدلك قدميه..
وفجأة..
انقلب الرجل فوقها، وبصعوبة تمكنت زوجته بمساعدة حماتها، من الخلاص، وعندما قلبتاه على ظهره، لاحظتا الزبد وقد تجمع فغطى فمه،  فأخذت المرأتان تولولان.
تجمع الجيران، ثم تمكنوا من الدخول عنوة، ليشاهدوا الرجل وقد فقد الحياة، إلا أن والدته رفضت الإعتراف بموته، وتوسلت أهل الخير ليحضروا له الطبيب أو ينقلوه إليه..
كان الوقت متأخراً.. ولكن الطبيب حضر، ليعلن وفاته ثم ليكتب لهم شهادة وفاته..
أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب والبكاء،
وأما والدته المكلومة فما انفكت تردد: " ابني ليس ميتاً .. قلبي يحدثني بذلك !"
غسَّلوه .. سجوه في التابوت .. رفعوه على الأكتاف، وكلهم أسى وحزن على شبابه ..
حتى تجار السوق خرجوا في جنازته وقد تكفلوا بجميع مصروفاتها، وكلهم يلهجون بطيب أخلاق المرحوم أبي فياض وأمانته ...
أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب والبكاء والإشادة بطيب أخلاقه وطلاوة لسانه وحسن معاملته ...
وأما والدته المكلومة فما انفكت تردد: " ابني ليس بميت .. قلبي يحدثني بذلك .. وقلب الأم دليلها ...وقلب الأم لا يخيب حدسه ...! "
في منتصف الطريق إلى المقبرة، شعر حاملو التابوت بحركة غير
عادية فيه، ظنوها في البداية كرامة، 
ثم .. 
سمعوا نقراً، فأجفلوا ..
ثم ...
أنزلوا التابوت على الأرض وقد انعقدت ألسنتهم دهشة،
ثم ....
رفعوا الغطاء،
ثم .....
ابتعدوا مذعورين، حين شاهدوا الميت وقد جلس وهو يحاول التخلص من كفنه؛
ثم ......
انقلب العزاء إلى فرح ....


نزار بهاء الدين الزين (1931 - 2014):
أديب وفنان تشكيلي سوري ولد بمدينة دمشق،عمل في البداية
كأستاذ مدرسة. ثم ذهب الى الكويت وعمل مرشداً اجتماعياً لمدة 33 سنة. وعاش في الولايات المتحدة الاميركية بعد تقاعده عام 1990.
- أول مجموعة قصصية بعنوان ( ضحية المجتمع ) عندما كان في الثانوية العامة عام 1949. 

- كتب مجموعته الثانية ( ساره روزنسكي ) سنة 1979

وله الكثير من المقالات والمؤلفات والاقاصيص.

النفاخة الصغيرة


في صبيحة أحد، بعد الانتهاء من سماع القداس، جلس الملاكان "أونيتو" و "سغرتاريو" على كرسيين جلديين سوداوين من نوع "ميلر"، يتابعان من أعالي السماء، ما يتآمر عليه هؤلاء البشر الأوغاد على الأرض..
نطق الملاك " أونيتو " بعد صمت طويل:

" قل لي يا " سيغريتاريو "، هل شعرت أحيانا بالسعادة عندما كنت بالحياة؟"
-" يالها من فكرة !، رد صديقه مبتسماً، لكن لايمكن لأحد أن يكون سعيداً على الأرض !"
قال ذلك ثم جلب من جيبه علبة " مارلبورو ".
-" أتريد سيجارة؟ "
- بكل سرور، شكراً، رد الملاك " أونيتو "، مع أنني عادة لا أدخن صباحاً، لكن اليوم هو يوم عيد... ومع ذلك ، كما ترى، أعتقد أن السعادة...."
قاطعه " سيغريتاريو ":
-" بالنسبة لك شخصياً .. هل حدث لك ذلك؟ "
-" لم يحدث لي أبداً.. ومع ذلك أنا مقتنع أن..."
-" لكن، أنظر إليهم، أنظر إليهم إذن !، صاح الملاك " سيغرتاريو" وهو يشير إلى ما يحدث بالأسفل، إنهم ملايير وملايير، اليوم يوم أحد، والصبيحة التي هي من أهم لحظات النهار لم تنته بعد، والنهار رائع به شمس ساطعة، ليس حاراً كثيراً، بل تهب أيضاً نسمة رطبة ممتعة، والأشجار مزهرة، والحقول كذلك، إنه الربيع، فضلاً عن ذلك هم يعيشون ازدهاراً اقتصادياً، وعليهم أن يشعروا بالرضى، أليس كذلك؟ ومع ذلك، دلني على شخص واحد، واحد فقط يشعر بالرضى وسط هذه الملايير من الناس، لا أطلب أكثر من ذلك، وإذا دللتني عليه، فسأستضيفك على عشاء فاخر.."
-" طيب "
أجاب " أونيتو " وشرع يبحث بدقة هنا وهناك في الأسفل وسط هذا الازدحام اللامحدود.
انتبه إلى أنه من العبث أن يتوقع إيجاد ذلك من الوهلة الأولى، سيحتاج الأمر على الأقل إلى عدة أيام من العمل. ولكن، من يدري؟
كان " سيغريتاريو " يراقبه بابتسامة ساخرة ( سخرية لطيفة طبعاً، وإلا فأي ملاك سيكون...)
-" تباً، أعتقد أني وجدته.."
تحدث " أونيتو " فجأة وهو يقوم من على مقعده.
-" أين؟ "
-" في هذا المكان، وأشار إلى قرية مغمورة بين الهضاب، هناك، وسط كل هؤلاء الناس الخارجين من الكنيسة...هل ترى هذه الطفلة الصغيرة؟ "
-" تلك المقوسة الساقين؟ "
-" نعم.. تماماً.. لكن انتظر قليلاً حتى..."
كانت " نوريتا " الصغيرة ذات الأربع سنوات، تملك فعلا ساقين مقوسين قليلاً، وكانت نحيفة وضعيفة كما لو كانت مريضة، تمسكها أمها من يدها، وتظهر ملامح الفقر على العائلة بسهولة، ورغم ذلك كانت الصغيرة ترتدي فستان أحد أبيض مزخرفاً بالدنتيلا، ويعلم الله كم كلف ذلك من تضحيات.
وكانت توجد بأسفل سلم الكنيسة مجموعة من الباعة: باعة ورود، وبائع ميداليات وصور دينية، ثم هناك أيضاً بائع نفاخات، حزمة رائعة من النفاخات المتعددة الألوان تتموج بأناقة على أبسط هبة ريح فوق رأس الرجل.
توقفت الطفلة أمام الرجل صاحب النفاخات وهي ممسكة بيد أمها، وفي هذه اللحظة، وبابتسامة مغرية تثير الإشفاق، رفعت عينيها إليها، وفي نظرتها نوع من الشوق والرغبة والحب تعجز عن مقاومته أعتى قوى الجحيم نفسها، فليس هناك سوى نظرات الأطفال التي تملك مثل هذه القوة الهائلة، ربما لأنهم صغار، ضعاف أبرياء ( كذلك نظرات بعض الجراء المُساء معاملتها ).


ولهذا الأمر بالضبط، كشف الملاك " أونيتو " العارف بالأمور عن الطفلة الصغيرة، معتمداً التفسير الآتي: إن رغبة امتلاك نفاخة عند هذه الطفلة جد قوية إلى درجة سترغم أمها على تلبية طلبها إن شاء الله، وستكون حتماً سعيدة، ربما لساعات قليلة فقط لكنها ستكون سعيدة على كل حال، وإذا حدث ذلك حسب تقديري، فسأربح رهاني مع " سيغريتاريو ".
كان باستطاعة الملاك " أونيتو " أن يتابع المشهد الذي يحدث بالأسفل في ساحة القرية، لكنه لم يكن باستطاعته أن يسمع ما قالت الصغيرة لأمها ولا ما أجابتها به هذه الأخيرة، وذلك بسبب تناقض لم يعرف سره أحد: فالملائكة يستطيعون مشاهدة ما يحدث بالأرض انطلاقاً من الجنة، وكأن بداخل أعينهم آلات تلسكوب قوية، لكن ضجيج الأرض وأصواتها لا يصل إلى أسماعهم (ماعدا في حالات استثنائية كما سنرى بعد حين ): ربما هو إجراء من أجل المحافظة على أعصاب الملائكة من ضجيج المحركات الوحشي.
أرادت الأم متابعة طريقها وهي تمسك بيد طفلتها الصغيرة، وفي لحظة خشي الملاك " أونيتو " أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، تبعاً للقانون المرير المنتشر بين البشر، قانون الإخفاق والخيبة.
ذلك أن الطلب المثير الذي كان يشع من عيني " نوريتا " لا تقوى عليه أعتى الجنود المصفحة للعالم، لكن الفقر بإمكانه أن يقاومه، لأن الفقر لا يملك قلباً، ولا يرق لأحزان طفلة.
لحسن الحظ ، شاهد الملاك الطفلة " نوريتا " وهي تقف على رؤوس أصابع قدميها، محدقة دائماً في عيني أمها، فتتسع حدة نظراتها المتوسلة ما أمكن، وشاهد الأم تحدث الرجل صاحب النفاخات وتمنحه بعض القطع النقدية، ورأى الطفلة تؤشر بأصبعها، فيفك الرجل من الحزمة إحدى أجمل النفاخات، في أحسن انتفاخ وأحسن مظهر، وفي لون أصفر فاقع.
هاهي " نوريتا " تسير الآن بجانب أمها، وهي ماتزال تحملق غير مصدقة في النفاخة التي كانت تمسكها بخيط، فتتبعها في اندفاعات لطيفة وهي تخفق في الهواء.
لكز الملاك " أونيتو" صديقه الملاك " سيغريتاريو " بمرفقه، وهو يبتسم ابتسامة ماكرة مسموعة، فيبتسم هذا الأخير في رضى، لأن أي ملاك لا يملك إلا أن يكون سعيداً عند خسارته لرهان ما إذا كان ذلك يعني تخفيف ولو ذرة ألم من معاناة البشر .
من تكونين يا " نوريتا " وأنت تجتازين القرية بنفاختك صبيحة هذا

الأحد؟ إنك العروسة الشابة المشرقة وهي تخرج من الكنيسة، إنك

الأميرة المنتصرة، إنك المغنية الإلهية المحمولة على أكتاف الجماهير الهادرة، أنت المرأة الأكثر غنى وجمالاً في العالم، أنت الحب المشترك والسعيد، أنت الزهور، والألحان، والقمر، والغابات والشجر، أنت كل ذلك جميعاً، لأن نفاخة من المطاط جعلتك سعيدة، فلم يعد ساقاك المسكينان مريضين، بل أصبحا ساقين قويتين لرياضية تخرج منتصرة من الأولمبياد.


استمر الملاكان يتابعانها وهما يشرئبان بعنقيهما. وصلت الأم والطفلة إلى منزلهما المعلق على هضبة بضاحية فقيرة. دخلت الأم إلى المنزل لممارسة أشغالها، بينما ظلت " نوريتا " ونفاختها جالسة فوق حائط من الحجارة يمتد على طول الزقاق، تلقي تارة نظرة على النفاخة، وتارة على المارة: كانت تصر على أن يراها الجميع ويغبطوها على سعادتها. ورغم عدم تسرب أشعة الشمس إلى الزقاق بسبب البنايات العالية والقاتمة التي كانت تحيط به، ورغم انعدام أية مسحة جمال من وجه الطفلة، فقد أشرق هذا الوجه إلى درجة أنه أنار المنازل المجاورة بقوة.
ثم مر ثلاثة من الفتيان الأشقياء القساة، وجلبت الطفلة انتباههم وهي تبتسم إليهم، فسارع أحدهم – وكأنه يمارس أمراً عادياً – وأمسك عقب السيجارة المشتعلة التي كانت بفمه، وبطرفها مس النفاخة التي انفجرت في الحال، وسقط حبلها بيد " نوريتا " بعد أن كان متعاليا في السماء، وفي نهايته قطعة مطاط ذابلة ماتزال مشدودة إليه. لم تفهم الطفلة في البداية ماذا حدث، ونظرت مشدوهة إلى الأشقياء الذين كانوا يقهقهون بقوة وهم يجرون مبتعدين، ثم أدركت أن النفاخة قد اختفت، وأنها قد فقدت سبب سعادتها الوحيد إلى الأبد.
صدر عن وجهها الصغير تشنجان غريبان أو ثلاثة قبل أن يتحول ذلك إلى تكشيرة انتحاب يائس.
كان ألماً غير محدود، شيئاً فظيعاً لا علاج له. قلنا سابقاً – تبعاً للقاعدة – إنه لا تصل إلى حدائق الجنة الخلابة أدنى همسة بشرية:

لا هدير محرك، ولا صفارة إنذار، ولا طلقات نار، ولا صراخ، ولا انفجارات نووية، ومع ذلك فقد وصل نحيب الطفلة، ودوى صداه بقوة في كل الأرجاء. طبعاً تعتبر الجنة مكان سلام وسعادة سرمديين، لكن إلى حدود معينة فقط. وإلا، فكيف يمكن للملائكة إذن الانتباه إلى آلام البشر؟
كانت صدمة بالنسبة للمحظوظين المنشغلين بلذتهم العفيفة، عكر ظل مملكة النور هذه فانقبضت القلوب، من بإمكانه تعويض ألم هذه الطفلة؟
رمق الملاك " سيغريتاريو " صديقه " أونيتو " دون أن ينبس بكلمة.
" يالقذارة هذا العالم ! " غمغم " أونيتو "، وبتلقائية رمى بقوة سيجارته التي أشعلها في نفس اللحظة، وتركت هذه الأخيرة خطاً غريبا وراءه وهي تتدحرج نحو الأرض. فتحدث أحدهم بالأسفل عن أطباق طائرة.


دينو بوزاتي Dino Buzzati :
   (1906 - 1972) صحفي وأديب وشاعر وكاتب مسرحي وناقد
فني ورسّام إيطالي. كان أبوه أستاذ القانون الدولي في جامعة بافيا، ودرس هو الحقوق أيضاً، تيمّناً بأبيه، في جامعة ميلانو. لكنه آثر الصحافة على الحقوق فعُيّن محرراً في صحيفة «الكورييري ديلّلا سيرا»Corriere della sera. درس وتعلّم العزف على الكمان والبيانو، وبقي محرراً في الصحيفة المذكورة حتى وفاته.

Twitter Bird Gadget