أَشْعُر قصة ل مطانيوس ناعسي




مقدمة كتاب أَشْعُرُ للكاتب اللبناني مطانيوس ناعسي


وَالله، أَشْعُرُ في بَعْضِ الأحْيَانِ أَنَّني الأَضْعَفُ بَيْنَ بَنِي جِنْسِي، وَذَلِكَ مُذْ قَلَّصْتُ الهامِشَ بين قَوْلي وَفِعْلي إِلى أَقْصَى الحُدُود، وَهَذَّبتُ نفسي حتّى احترمتُها، وَقَرَّرْتُ "ممارسَةَ الحُبّ" نادِرًا، وَ"مُمارَسَةَ المَحَبَّةِ" دائمًا، وَأَلاّ أَخَاف رَبِّي، بَلْ أَنْ أُحِبَّه، وَأَنْ أُدَوِّنَ اسمي في سِجِلِّ الحَيَاة قَبْلَ مُغادَرَةِ "الحَفْلَة".
وَمُذ رَاهنتُ على الكَلِمَةِ في الزمَنِ الخاطِئ، وعلى الكتابَةِ في غياب القارئ، واكتشفتُ أنَّ الكَذِبَ نتِيجَةٌ وَلَيْسَ سَبَبًا، وأنَّه ملاذ الغبيّ.
وَآمَنتُ أنَّ الحقَّ ما زال سُلطانًا، والشيْطانَ لا يُصبح إنسانًا، والبَغْلَ لا يُمْسي حصانًا، وَأنَّ شوك الوردة ما كان يومًا لِحِمايَتِها، بل لإيلام مُحبّيها.
وَارْتَضَيتُ أَنْ أَكُونَ مُفْلِسًا، لا مال عِنْدِيَ أَخْسَرُه، ولا عقاراتِ أفقدها، وَصَدْرًا مَكْشُوفًا لِرِماحِ أَنْصَارِ العَمَى، وَلِسِهَامِ أَبْناء "الفَكَّة"، وَلِرَصَاصِ عُبَّادِ الليْرَات.
وَعَزمتُ على أَلاّ أُشْبِهَ قومي، أَلاّ أَكون مِثْلهم، وألاّ أرحلَ عنهم، وأن أبقى بينهم صوتًا صارخًا وَلَوْ في عَدَم، آكُلُ وَأَشْرَبُ لِكَي أَعيش، وَأَعيش لِكَي أُنَمّي إِنْسَانِيَّتي.
وَخَلَعْتُ عَنِّي عَبَاءَةَ الأَيّام، المُفَبْرَكَة مِنْ رُقَعِ الغايات والمَصَالح السمِيْكَة، وارتديتُ واحدةً شَفَّافَةً من صُنْعي، نَسَجْتُها بِخُيوطٍ من نُور، وَطَرَّزْتُها بِرَغَبَاتٍ من عِشْق، وَحَبَكْتُها بمَحَبَّة.
وَمُذ أَدْرَكْتُ أنَّ الفَرْدَ كَوْنٌ مُصَغَّر، وَالكَوْنَ فَرْدٌ مُكَبَّر، والبَشَرَ يُمَثِّلون والمُتَفَرِّجَ واحد، والعُقُولَ الصغيرةَ تَسْتَهْلكُ الكبيرة، والسعادةَ تَقَاطُعٌ وليست طريقًا، وَالظلْمَ وَلِيْدُ القُصُور، وَالعَدْلَ نَزِيْلُ القُبُور، وَأَذْنَابَ الكِلابِ المَسْعُورَةِ تَنْبُتُ فِي أَفْوَاهِها معْوَجَّة، وَأَلْسِنَتَها فَوْقَ عَوْرَاتِها مُلْتَفَّة، وَأَنَّ الزوَاجَ الناجِحَ يَقُوْمُ على التَّنازُلاتِ المُتَبَادَلَة، والفاشلَ على التنازُلاتِ مِن طَرَفٍ وَاحِد، وَالمُنْفَرِطَ على انعِدَامِ تلك الأخيرة بين الطرَفَين.
وَلاحَظْتُ أَنَّ الكِتابَ المَفْتُوحَ مَرْهُوْبٌ، و"الَمُسَكَّرَ" مَرْغُوْب، وماسحَ جوخ الرداء صار يَمْسَحُ أيضًا جِلْدَ الحذاء، وَالسبَاتَ في هكذا زمن يَقَظَة، واليَقَظَةَ سُبَات، وَأَنَّ كُلَّ شَيءٍ أمسى مَطْرُوحًا على بِسَاطِ التسَاؤلات.
واختَرْتُ الظلَّ سبيلاً إلى الأنوار، والـ حِلْ عَنِّي بديلاً عن الـ "P.R. وَرُحْتُ أَرى البِنَايَات أَشْجَارًا، وَالسَيّارَات أَزْهَارًا، وَالطَيّارات طُيُورًا، "وَالطرُقَات" أَنْهَارًا، وَالساحَات بِحَارًا، وَالمُشَاحَنَات أَشْعَارًا! وَأَحلمُ بِوَطَنٍ يُقيمُ فِيَّ وَأُقيمُ فيه، يُضيئُني وأُضِيْئُهُ، صَبَاحُهُ طَويلٌ طَويلٌ لا ينتهي، وَشُمُوسُهُ آلاف مؤلَّفَة.
ومُذ تخيّلتُ الوجود وعاءً، وما فيه طبخةً، يُحَرِّكُها الطاهي الأعظم، بمِلْعَقَة القَدَر، ويُغَطِّيها بالتاريخ، بانتظار نضجها، واكتمال نكهتها.
وَلَمَحْتُ خَلْفَ الخَيْرِ ظِلَّ شَرّ، وَخَلْفَ الحَقِّ وَجْهَ بَاطِل، وَوَراء الخَيَالِ فَجْرَ وَاقِع، وَالعَكْس صحيح.
وَفَطنتُ لادِّعاء التيْسِ الديمُقراطيَّة، والنوْرَسِ الوَطَنِيَّة، والدُبّ الرومانسيَّة، وَلِتَشابُهِ القمحِ والشعير، وَلِلْزمن الذي يَهْوَى فَعْسَ رُؤُوس الأَخْيَار، ما بين مِطْرَقَتِهِ وَسِنْدَانِ الأَشْرَار، وَلِبَلاغةِ صمت الجبال، وَإِلى أَنَّ الغارَ في هذه الأيّام يُكَلِّل الثرثار، والثعَالِبَ تَخْطفُ الأَنْظَار، وَالحَمِيْرَ تَعْزفُ على البْيَانُو، وَالتمَاسِيْحَ تَحْنُو، وَالضباعَ تُحِبُّ النهَار، والذئابَ تَهْوَى "الخُضَار"، والجرذانَ تطلُبُ "الكَافْيار"، وَالغِيْلانَ تَتْبَعُ الحِمْيَات، وَالزوَاحِفَ تُحَلِّقُ عَالِيًا في سَمَاوَاتِ النجاحات، فيما الضفادِع تَمْلأُها "أُغْنِيات".
ومُذ تساءلتُ عن رأي مُحيطٍ نتنٍ في عطرٍ طيّبِ الرائحةِ سقط فيه عفوًا، وعن وُجهةِ نظرِ الحيوانِ بالإنسان.
وحزنتُ حتّى الفرحِ، وبكيتُ حتّى الابتسامِ، لغيابِ دخيلٍ على الموتِ أصيلٍ في الحياة.
وبَدَأَتُ أَخافُ التكْنولوجْيا، وَأَسْتَعْمِلُها بِحَذَرٍ من دُونِ أَنْ أُحِبَّها، لِكَوْنها تَنْبعُ من الأَذْكِيَاء، لِتَرْوِيَ ظَمَأَ الأَقْوِيَاء، والأَثْرِيَاء، والخُبَثَاء، وَالجُبَنَاء، وَهِيَ تَجْرفُ في طَرِيْقِها الضعَفَاء، والفُقَرَاء، والأَتْقِيَاء، وَالأَشْقِيَاء، قَبْلَ أَنْ تَصُبَّ في أيدي الأَغْبِياء.
وأَيْقَنْتُ أَنَّ ابنَ الإنسانِ لَوْ عادَ إلى الأرضِ كإنسانٍ، لتَأَلَّب عَلَيْهِ الأَبْنَاءُ هذه المَرَّةَ، وَلأعادوا الكَرَّةَ، قَبْلَ غَيْرهم من طُلاَّبِ السماء.
وعلمتُ أَنَّ الدنيا قد بَالَغَتْ في عَجْنِي وفي خَبْزِي، لأَبْقَى في فُرْنِها إِلَى حينٍ، رَغِيفًا شَهِيًّا، مُحَمَّرًا، مُقَمَّرًا، يَخْشَى صُفُوفَ اللؤلؤ! وأنَّ العُمرَ طريقٌ جَبَليٌّ وَعِرٌ، كثيرُ المُنعطفاتِ، طبيعتُهُ خَلاّبَةٌ، نصعدهُ ركضًا، والحَيَاةَ أُغْنِيَةٌ عَالَمِيَّة، فَرِحَةُ النوتاتِ وَالنغَمَات، حَزِيْنَةُ المَعَاني والكَلِمَات.

نَعَم، أَشْعُرُ في بَعْضِ الأَحْيَانِ أَنَّني الأَضْعَفُ بين بَنِي جِنْسِي، وَأَشْعُرُ في مُعْظَمِ الأَحْيَانِ، وللأسباب عينها، أَنَّني الأَقْوَى بَيْنَهُم.


مطانيوس ناعسي:
 كاتب من شمال لبنان، وُلِدَ سنة 1965، في قرية "عين يعقوب"، مسقط رأس والده، وترعرع في جارتها "بزبينا"، مسقط...

رأس أمّه.
وهو أديب يأسر القلوب بسحر كلماته، ويُثير ذهول كلّ من يقرأ له، فنصوصه غنيَّة بالحِكَم البالغة، وبالمعاني المُبْتَكَرَة، كما بالرومانسيّة، ويكتب بأسلوب غنيّ بالصُوَر، وكأنَّه يحمل ريشة رسّام وليس قَلَمًا!
وهو مُفَكِّر متعمِّق، يبحث في شؤون الحياة، ويتبحَّر في شجون النفس البشريَّة.
باكورة أعماله المنشورة كانت رواية "حرف زائد" عالج فيها جمالية القناعة، وتفاؤل القيامة من الآلام كما تقوم عنقاء من رمادها. فمن فناء جسد "فادي" قام "ربيعٌ" غيّر معالم الحياة من حوله، فكان هو الرجل الذي أطلق النار على رأس الموت لتنتصر الحياة.
بعدها كانت روايته "نصفي الآخر" اليوتوبيا التي تفوَّق فيها على أي يوتوبيا عرفتها الفلسفة على مرّ العصور. فيها نظرة رجل آلمه الواقع فأحب أن يرسم بقلمه عالماً أجمل ينقل اليه كل من أحب مرافقته على متن سفينة الحلم والخيال ليزور مدينة السحر والضوء والحرية.
أما ثالث كتبه فكان "طوجو" مجموعة قصصية تناسب كل الأعمار، مع حفاظها على مرتبتها كمجموعة تربوية تثقيفية للناشئة بإمتياز.
وأخيراً وليس آخراً يأتي "أشْـــــــعُرُ" كتاب خواطر يرتدي حلة كتاب تعاليم مُعلمٍ أراد أن يُلقِّن تلاميذه ومريديه الدرس الأهم... "الحياة"، بكل ما فيها من تناقضات.

1 comment:

  1. لن أقول عن هذا الكتاب سوى رأيي الدائم به: هو أشبه بسفر تعاليم لكل مريد للفلسفة الأصيلة التي تختصر العيش والإنسان

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget