يوميات نائب في الأرياف

رواية ل توفيق الحكيم
 دراسة بقلم الباحث محمد البوهي

  

لماذا أدوّن حياتي في يوميات، لأنها حياة هنيئة؟ كلا. إنّ صاحب الحياة الهنيئة لا يدوّنها، إنما يحياها. إنّي أعيش مع الجريمة. في أصفاد واحدة، إنّها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كلّ يوم، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد. هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي وعن الكائنات جميعا. أيّتها الصفحات التي لن تنشر.. ما أنت إلاّ نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق. 
                                            «توفيق الحكيم»

من الغريب أن من يقرأ عنوان الرواية (يوميات نائب في الأرياف)، لا يتطرق لذهنه أن الرواية تناولت يوميات النائب «توفيق الحكيم» في حقبة زمنية قصيرة جداً ، من 11أكتوبر... حتى 22 أكتوبر لنفس السنة، والتي لم يحددها الحكيم في يومياته... لكن رغم قصر المدة التي دارت فيها تلك اليوميات إلا أنها كانت زاخرة بالأحداث والقضايا...
قد أفردت هذه الدراسة بعمل مسحة تشريحية شاملة للخطوط العريضة التي حوتها تلك اليوميات، فقد دارت أحداث اليوميات بين شقين، شق تمثل في قضية رئيسية، وهي قضية قتل شخص يدعى (قمر الدولة علوان )، وشق آخر استعرض فيه الحكيم ذاتيته بين السلطة والقضاء، والمتهمين باعتبارهم شريحة من شرائح المجتمع آنذاك، وقد لعب ملف قضية (قمر الدولة) دوراً مهماً في هذا العرض الذي نهجه الحكيم...
ملف قضية قمر الدولة علوان.

الإشارة:
 قضية غريبة وقعت في قرية من قرى مصر، وعاش أحداثها الحكيم، منذ أن تلقى الإشارة من مركز الشرطة، وقد دون الحكيم كل لحظات اشتراكه في تلك القضية، منذ انطلاق موكب النيابة، والشرطة لمعاينة المجني عليه، بمكان الجريمة، والغريب أنه ذكر لنا شخصية المجذوب، الشيخ عصفور، والتي كان لها دور بارز في تلك الأحداث، الشيخ عصفور، هو شخصية متكررة نراها في الأرياف، وفي الحارات العشوائية، وهي شخصية مبروكة، ومكشوف عنها الحجاب كما يظن أهالي تلك المناطق، لكن أن يأخذ برأي الشيخ عصفور في محاضر الشرطة، وتحقيقات النيابة هذه
هي الغرابة في حد ذاتها!
كان الشيخ عصفور ملازماً للموكب، المتجه ناحية الأراضي الزراعية، أو الأدغال الزراعية وذلك بأمر من المأمور نفسه، عندما أمر أحد الخفر بالذهاب للشيخ عصفور وإحضاره، وكأن الشيخ عصفور هو فرد من أفراد الشرطة. وصل الموكب لمنطقة يستحيل فيها سير السيارات، لذلك كانت ركوبة المأمور والحكيم حصانين، وباقي الطاقم تنوعت ركابهم بين الأحصنة، والحمير، وتناول الحكيم تلك الرحلة بطريقته الساخرة الظريفة، وبخفة ظله المعهودة ... أضحكني جداً منظر الحكيم وهو يسقط من على ظهر الحصان في قناة مائية صغيرة...

الشهود:
بعد أن انتهى النائب توفيق الحكيم من معاينة المصاب، ومكان إطلاق النار آتياً من غيط للذرة، فالجنايات بالريف تختلف أنواعها، حسب فصول السنة، كما ذكر لنا الحكيم، ففي موسم زراعة الذرة، والقصب، يكثر القتل بالأعيرة النارية، وبموسم نضوج القمح تكثر جرائم الحرائق، وبموسم زراعة القطن، تكثر جرائم قلع
المحصول، وهكذا.
وصف الحكيم شكل المجني عليه، وملابسه بمنتهى الدقة، حتى أنه لم يترك لنا لون شاربه لنتخيله، وهذا بعين وكيل النيابة الحاذق المخضرم، الذي لا يترك كبيرة، ولا صغيرة إلا وأملاها على كاتب التحقيق، مهما أخذ هذا من وقت، يحسب من عمر المجني عليه، فالقانون هو القانون، ولا دخل له بما يعانيه المصاب وإسعافه، فهذه مهمة الإسعاف، الذي يحمله للمستشفى الأميري بعد معاينة النيابة.
أنهى الحكيم المعاينة بنجاح، وانتقل الموكب إلى (دوار) العمدة، لأخذ أقوال الشهود. وصف لنا الحكيم منزل العمدة، من خلال تواجده في حجرة المنذرة، أو الجلوس، أو الضيوف، كل هذه ألقاب لتلك الحجرة بالريف. وبخبرته المعهودة، كان يعلم من هم الشهود، الخفير العمومي طبعاً، الذي لم ير الجريمة كالعادة، لكنه سمع صوت العيار الناري، بإمكانه أن يسجل أقوال الخفير الساذجة دون استدعائه، ولكن القانون هو القانون. حضر الخفير بالفعل، وسط انشغال المأمور بالإشراف على الوليمة التي أمر العمدة على إعدادها على شرف وكيل النائب العام، لكن الغريب أن الخفير الذي قص تفاصيل تواجده أثناء الحادث، وعينه الساهرة التي لا تنام، قال بأنه سمع إطلاق عيارين، ورغم أن الحكيم قال له بأن المصاب أصيب بعيار واحد فقط بذراعه من مسافة قريبة، إلا أنه
أصر أنه سمع عيارين، وعلى الرغم من هذا الإصرار، أمر الحكيم الكاتب بأن يسجل عيارا واحدا، فهو يعلم جيداً تلك المبالغة التي يريد أن يصورها أمثال هؤلاء...
حثه المأمور بأن يغلق المحضر، وكذلك الكاتب، فالقضية صعبة جداً، والمجني عليه بغيبوبة، ويصعب استجوابه، فكان هم المأمور الأوحد، هو النيل من تلك الوليمة المتخمة بأزواج الدجاج ، والبط، والحمام،التي أعدها العمدة بأمر من المأمور ،دعي الحكيم إليها، لكنه رفض، وانشغل بأوراقه.
عاد المأمور مقترحاً عليه، بأن يأخذ رأي الشيخ عصفور، فله نظرة فاحصة، في مثل هذه الأمور، وكثيراً جداً ما أرشدهم إلى مجرمين، رغم عدم اقتناعه بتلك التخاريف إلا أنه وافق على مضض، وسأل المأمور الشيخ عصفور، عن القاتل، فصاح الشيخ بكلماته غير المفهومة، بأن يفتشوا بين النساء.
سأل الحكيم عن زوجة المجني عليه فأخبروه أنها توفيت منذ زمن، ولكن أختها ريم تقيم معه، لأنها تقوم على تربية ابنته... صاح في المأمور والعمدة، بإحضارها حالاً، فربما خيط القضية يبدأ من عندها.

ريم:
لم تكن ريم كما يتوقع الحكيم والمأمور وكاتب النيابة، ولو كان رأها المأمور قبل هذه المرة لكان ذهب بنفسه لإحضارها. اندهش الحكيم جداً لهذا الجمال الذي ولد بين هذه القرية المظلمة، التي لا يشم فيها غير رائحة البهائم، وعرق الفلاحين، ولا تقع عينه فيها إلا على مشاهد الكآبة والفقر والمرض، كيف تحوي جدران هذه القرية هذا الجمال الصارخ؟! تصنم المأمور، وتوقف كاتب النيابة عن ثرثرته، وساد الصمت الذي شقه الحكيم، بعد أن تمالك وقاره، ليسألها بحسم وصرامة،عن علاقتها بالمجني عليه. كان النوم قد خط كتابه على عينيه قبل حضورها، لكن بعد أن رآها كأنه حصل على وجبة دسمة من النوم، خالية من الناموس والبق والفئران، نومة أعمق من تلك النومة التي حظي بها المأمور داخل غرفة نوم العمدة قبل حضورها. كان ينظر إليها وكأنه عثر على كنز مكنون وجده أخيرا بعد عناء من البحث، ولكن أيمكن لهذا الجمال أن
يمسك بسلاح ويقتل؟!
أجابت الفتاة ببراءة بأنه زوج أختها المتوفية، وأنها تقيم معه لتربية طفلته. شعر من كلامها أنها لا تعلم بوقوع الحادثة، فأخبرها بنفس الحسم متسائلاً عن وجود أي خصومة بينها وبينه، فأجابت بنحيب مكبوت بالنفي. عاد يسدد إليها الأسئلة من جديد، إن كانت مخطوبة أم لا، فأجابت بأنها كانت مخطوبة لشخص ما، لكن قمر الدولة لم يوافق على زواجهما.
انتهى التحقيق بعد أن أمر الحكيم بالتحفظ على الفتاة لاستكمال التحقيق بمكتبه بالنيابة، ولكن أين ستبيت الفتاة حتى الصباح؟ فهو لم يذق طعما للنوم، وغدا عنده جلسة صباحا بالمحكمة، ومن الصعب جدا الاستمرار في التحقيق. فاقترح المأمور بأن تبيت بمنزله حتى الصباح مع أسرته وزوجته، اندهش الحكيم لاقتراح المأمور، لكنه لم يستطع أن ينبس بكلمة واحدة، لأن معنى رفضه أنه يشكك في نزاهة السلطة المتمثلة في شخصه.
عاد الموكب من حيثما أتى، وبنفس الطريقة السابقة، ولم يخل وصف الموكب من طرافة الحكيم، حتى وصل بعد عناء إلى منزله البسيط بالقرية. بعد مراسم تبديل الملابس، وإعداد مصايد الفئران حول السرير وإسدال النموسية، استلقى على سريره...
لكن فيم كان يفكر الحكيم الإنسان؟ الحكيم الذي تمالك نفسه ووقار القانون الذي يمثله، أمام جمال هذه الفتاة؟ بالطبع كان يفكر فيها... فتلك هي الطبيعة الإنسانية مهما حكمتها القوانين وقيدتها، فالمشاعر لا تتجزأ ولا تختلف من شخص لآخر، فهل يختلف شعور الحب عند وكيل النائب العام، عن الحب عند الخفير العمومي، أو الحب عند فلاح بسيط؟، لكن القانون أعمى لا يركن إلى هذه الخرافات، فلا يوجد بند بالقانون اسمه بند المشاعر، ولن يوجد حتماً... وهذا يجعل رجل القانون يعاني من فصام بين مشاعره، والتزامه بعمله.
لم يذق الحكيم النوم حتى الآن، فالقلق يطارده، هو لا يثق في هذا المأمور، وأكيد تطوعه هذا، يحمل خلفه الكثير من الرغبات السوداء. تمنى الحكيم أن تمضي الليلة سريعاً، وأن تنقضي وتمر بسلام.
وكيل النائب العام، يفكر في أمر الفتاة، ويتملكه الخوف والقلق عليها، ولكن هل هو الخوف على فتاة لم يرها غير مرة واحدة؟ أم خوفه على خدش جمال عشقه قبل أن يراه متمثلاً فيها، أم ماذا؟
ولكن حدث ما لا يتوقعه الحكيم، فقد جاءته إشارة بأنه عثر على
مسمار على شريط القطار، ومطلوب للمعاينة... الإشارة ليست بالأهمية التي تجعله يترك فراشه، ويذهب للمعاينة بنفسه بعد هذا العناء، فمن الممكن أن يرسل مساعده، ولكن هي فرصته التي يستطيع من خلالها أن يؤرق المأمور، ويبعده عن المنزل هذه الليلة.
ساد الغموض شخصية ريم، فقد اختفت من منزل المأمور أو هربت، ورغم أن الحكيم رآها باليوم التالي جوار المستشفى مع الشيخ عصفور وأبلغ المأمور، إلا أن من أرسلهم المأمور للقبض عليها عادوا بخفي حنين، والشيخ عصفور وحده، وكأن الحكيم رأى سراباً، وظل هذا السراب يحاصر الحكيم، حتى بعد استجواب قمر الدولة علوان، عندما عاد إلى وعيه لحظات عدة، اقتنصها الحكيم ليعرف من القاتل، ورغم أنه قال بصوت متلعثم ولمرتين متتاليتين أن القاتل هو ريم، إلا أن الحكيم لم يقتنع أن يكون هذا دليلاً قاطعاً.
ظلت ريم هي اللغز المحير، والمفتاح الزئبقي لهذه القضية، إلى أن اصطدم الحكيم بإشارة جديدة، بل وكانت القشة التي أغلقت ملف القضية، بعد الإشارة التي حملت خبر موت قمر الدولة متأثراً بجراحه... استحال على الحكيم معرفة القاتل، كما أن هناك من ينتظره لإغلاق القضية بسبب انتهاء العام القضائي، ورغم الشبهة الجنائية، في موت ريم، لأن جثتها وجدت غارقة في الرياح، إلا أنه أمر بالدفن، حسب تقرير طبيب المستشفى الذي نص على موتها غرقاً !!
تأملت هذه الشخصية كثيراً، ووقفت عليها، حتى توصلت إلى أن:
ريم: اسم من الأسماء المدنية، ولا ينتمي إلى عالم الريف آنذاك، مثل (نبوية وحمدية وفوقية). إذن هل هو اسم اختاره الحكيم على ذائقته ليتناسب مع جمالها الفتان؟ أم ماذا؟

الجمال:
البحث عن جمال المرأة كان صفة ملازمة للحكيم طوال حياته. فهو رجل لا يستطيع العيش دون امرأة جميلة، وكان هذا البحث المصيدة التي أوقعته في فخ الزواج، لأنه استقر بمصر فترة الحرب العالمية الثانية، والتي تسببت في انقطاعه عن باريس فترة كبيرة، فكان لابد له أن يبحث عن امرأة لكن في إطار شرعي يختلف عن أطر الغرب التي منحته الفرصة بالتعرف بفاتناته، فتزوج من أخت صديق له، ليسد هذا الفراغ... وبالعودة للبيئة التي كان يعيش فيها الحكيم بتلك القرية، والحياة الجافة الرتيبة، فكان لابد للحكيم من أن يبحث عن امرأة جميلة تشغله وتثير تفكيره، ليستطيع الاستمرار والتكيف مع هذا المكان.

الغموض:
الغموض الذي حام حول شخصية ريم، وتلك المعطيات السابقة، يمنحني شعور الواثق بأن شخصية ريم هي شخصية من ابتكار الحكيم. أي أنها شخصية وهمية، صنعها الحكيم وعاشها بيومياته، وطوع بحثه الدائم عن الجمال والحب لها ليرضي طبيعته. فكان ظهورها لغزاً، واختفاؤها لغزاً، وموتها لغزاً. أي أن شخصيتها كانت ملازمة للخيال... الذي اتخذه الحكيم وسيلة للتكيف مع هذه البيئة القاسية ..

مابين السلطة والقضاء والذات:
تناول الحكيم هذه العلاقة الأزلية، من منظوره الخاص كإنسان، وكمواطن عادي ينتمي إلى صفوف الشعب المطحون، فقد كان حريصاً جداً وهو يكتب يومياته تلك ألا يظهر على القارئ بوشاحه الأخضر، كوكيل للنائب العام، أو كممثل لسلطة القانون، ورغم أنه حاول بقدر الإمكان أن يحافظ على شكله الوظيفي أمام شخصيات الرواية، خصوصاً البسطاء منهم، إلا أن هذا ما كانت تمليه عليه قيود وظيفته، لكنه نجح في أن يتحرر من هذه القيود أمام القارئ على صفحات يومياته، الذي تنبأ بأنها لن تصل إلينا لما ضمنته من تعد للخطوط الحمراء التي حددتها له وظيفته الحساسة. فالحكيم أراد التنفيس عن كبت دفن داخله، خصوصاً أنه كان يعيش وحيداً بهذه القرية البدائية، منعزلاً عن كل شيء إلا عن عالم الجريمة، فلا توجد مقهى محترمة تستوعبه، أو مكان يستطيع أن يروح فيه عن نفسه. حتى نادي القرية اتخذه المأمور وطبيب الوحدة وممتهنو الوظائف الحكومية من الغرباء، مكاناً للمقامرة، وبالطبع أصبح مكاناً لا يليق برجل القضاء، لذلك كان القلم هو ملاذه الوحيد. تناول الحكيم هذه العلاقة من خلال عدة محاور أساسية، تمثلت في الشخصيات الآتية:
- القاضي البطيء - القاضي السريع
- القاضي الشرعي - رئيس القلم الجنائي
- مساعد النيابة - المتهمون
- المأمور
كانت جلسة القاضي البطيء تستغرق ساعات طوال يشعر خلالها
الحكيم بالضجر، وأحياناً تداهمه غفوات النوم من تلك الرتابة المملة التي تسير بها أحداث المحكمة، من مخالفات وجنح وجرائم. لا يوجد شيء يثيره غير تلك الأسباب التي يتعلل بها هؤلاء المتهمون البسطاء، لارتكاب تلك المخالفات أو الجنح أو الجرائم، فهم يسيرون في واد، ونصوص القانون المستوردة في واد آخر. فالقانون لا يعرف ساعة الحظ هذه التي ذبح فيها فلاح بسيط خروفاً خارج السلخانة ابتهاجاً بطهور ابنه، ولا يعرف حال هذا الفلاح الذي ارتكب مخالفة بغسل ملابسه في الترعة، ولا يعرف مدى وعي هذا الرجل الذي ولدت كلبته ولم يسجل مولودها بالسجلات الرسمية. لكن القضاء هو القضاء، والقانون عندما خطه واضعه لم ينزل إلى الريف ليتفحص حال الناس هناك، وعلى هذا الأساس يضع بنود قانونه، لكن القاضي البطيء الموسوس المتزمت لا دخل له بهذا، ولا ذاك، فهو ينظر المخالفة ببطء شديد، وبعد تفحص وتمحص، يحكم بغرامة العشرين قرشاً، ورغم ذلك كان دائم الشكوى من امتلاء الرول بالقضايا في يوم جلسته، لكن الحكيم كان يعرف السبب ويسره في نفسه، فرغم بساطة هؤلاء الفلاحين إلا أنهم كانوا أذكياء، فهم يسجلون قضاياهم بيوم جلسة القاضي البطيء لأن أحكام غراماته كانت أرخص من أحكام القاضي الآخر الذي كان يحكم بغرامة الخمسين قرشاً. كان الحكيم يشعر بارتياح لجلسة هذا القاضي السريع لأنها لا ترهقه ولا تشعره بهذا الملل أو الضجر الذي يلقاه في جلسة القاضي البطيء، ورغم هذا إلا أنه لم يسلم من انتقاده على أوراقه بتلك اليوميات، فقد كان همه منصبا على أن ينهي الجلسة قبل موعد قطار العودة ظافراً باللحم والزبد والبيض الذي أرسل الحاجب لإحضارها. اتسم رتم جلسة هذا القاضي بالسرعة الفائقة، حتى أنه كان لا ينتظر دخول المتهم بعد نداء محضر الجلسة، فيحكم بـ (غيابي خمسين)، وإذا دخل المتهم حكم (حضورياً خمسين)، ومهما زادت عدد القضايا فلا يساوره القلق، لأنه يعلم أنه حتماً سيلحق بالقطار ولو بآخر لحظة، وأحياناً كان يحكم في القضايا المتأخرة من شباك القطار وهو يغادر المحطة.
ألبس الحكيم مساعده ثوب المستقبل، وثوب ماضيه وتجاربه السابقة في آن واحد، فقد كان يرى من خلاله مستقبل القضاء المقبل، كما أنه كان يستخدمه محوراً يرتكز عليه لخلق عنصر الاسترجاع الزمني بالرواية. فكلما كلف المساعد بمهمة جديدة، استعاد تجاربه المشابهة في الماضي، عندما كان حديث العهد بعالم القانون، فعشنا أحداثاً فرعية كثيرة، أوضح من خلالها الحكيم مكابدة رجال القانون، لدرجة أنهم يقعون تحت طائلته العمياء، فهو لا دخل له بوكيل نيابة بات ساهراً حتى الصباح يفند، ويحقق في
أحداث قضية ما، وفي نفس الوقت يلتزم بحضور جلسات المحكمة لقاض ممل باليوم التالي، فمن الضحية إذن؟ المجني عليه، أم المتهم، أم وكيل النائب العام، أم القاضي الناطق بالحكم؟؟! شعرت أن الحكيم همس بمحاكمة واضع القانون نفسه... ولم يغفل الحكيم حال القضاء الشرعي الذي حمل أمانته قاض لا يعرف للأمانة عنواناً. فقد أمنه أعيان الناحية على (الأجزخانة) التي أنشئت بالاكتتاب والمساهمة وذلك لخدمة أهل البلد، فهل يوجد شخص أكثر أمانة من القاضي الشرعي؟ فكان يجلس على بابها كل يوم ويتجمع حوله أقاربه من النجوع والكفور، ويأمر (الأجزجي) بأن يطلب لهم لشاي والقهوة، وطبعاً كل هذا من حساب (الأجزخانة)، ولا ينسى قبل انصرافه أن يلقي نظرة على مستحضرات التجميل والصابون الممسك و«الكولنيا»، وزجاجات الريحة، وما يكاد يصل حتى تكون تلك البضاعة قد سبقته إلى منزله، حتى أفلست الأجزخانة، ووصل الأمر للمأمور، ومن يومها وهو لا يكف عن التشهير بالقاضي الشرعي.
كان مساعد الحكيم مصدراً لراحته في بعض الأحيان، لأنه كان يكلفه ببعض المهام التي تخفف ضغط العمل عن كاهله، لكن «عبد المقصود أفندي» رئيس القلم الجنائي لم يكن يلعب نفس الدور، فقد كان مصدر قلق الحكيم الدائم، لأن «عبد المقصود أفندي» كان يعتبر نفسه ممثلاً لتنفيذ لوائح القلم الجنائي، فقد كان يذكر الحكيم دائماً بموعد تفتيش السجن المفاجئ، و مراجعة خزينة النيابة المفاجئ، والتفتيش المفاجئ لمخزن النيابة، والانتهاء من حفظ القضايا وتسليمها بموعدها المحدد بنهاية السنة القضائية. ورغم حرصه الشديد على تنفيذ تلك المهام، إلا أنه كان يحرض الحكيم على تنفيذها بشكل صوري، من باب سد الخانة. واللافت للنظر أنه رغم اعتراض الحكيم على تنفيذ تلك المهام بهذا الشكل، وإصراره بأن يقوم بهذا العمل بشكل جدي إلا أنه في النهاية يضطر للخضوع لصورية «عبد المقصود أفندي» وروتينه، فيوقع على كشف السجون مضطراً، ويوقع على كشف الخزينة مضطراً، وكشف المخزن الذي فاق مخزن نيابة (شيكاغو) من حيث محتوياته، من فؤوس وهراوات ومناجل وشراشر و(بُلغ) وبنادق ماركة خرطوش، بخضوع تام، لاستحالة الحصر، الذي يعلمه «عبد المقصود أفندي» مسبقاً.
أصر الحكيم أن يفاجئ المأمور ويفتش السجن، وعليه يتم توقيع الكشف المدرج، لكنه كاد أن يقع في فخ تعجرف السلطة، حين رأى المأمور يقوم بإخفاء أشخاص تدل هيأتهم على أنهم من ذوي الرخاء والثقافة، بغرفة التبن والعلف خلسة، لولا أن «عبد المقصود أفندي» رئيس القلم الجنائي أوعز إليه بالتوقيع على الكشف لعدم الدخول في مشاكل مع السلطة. فمن الواضح أن هؤلاء الأشخاص من الموالين للحكومة السابقة، واعتراض الحكيم على حبسهم، هو تحد مباشر للسلطة الجديدة، سيدرجه المأمور في تقاريره السرية عن القضاة ووكلاء النيابة، فقد تصادف هذا التوقيت مع حل الحكومة الحالية، والإعلان عن إجراء انتخابات جديدة بجميع الدوائر. تلك الانتخابات التي شعرها الحكيم عندما صادف شطرين من النساء والصبيان بجوار (دوار) العمدة، شطر يولول ويلطم ويصرخ، وشطر آخر يزغرد ويدق الدفوف. للوهلة الأولى ظن أن العمدة قد مات، لكنه رأى شيئاً غريباً، رأى أن الشطر المزغرد يسير خلف شيخ الخفر ووكيله وبعض الخفراء
وهم يحملون (تليفون العمدة) الأسود الضخم، فعلم بعد سؤاله لخفير نظامي أن التغيير الوزاري طال (دوار) العمدة، لتذهب العمودية بالتليفون لدوار العمدة الجديد. فتليفون العمدة كان يعتبر رمزاً من رموز الاستحواذ على السلطة بتلك القرى، لأنه همزة الوصل التي تربط العمودية بممثلي السلطة.
في النهاية، وقفنا مع الحكيم حائرين في أمر تلك الأكداس المتكومة من أوراق القضايا، التي توجب إغلاقها وإنهاء كل ما يتعلق بها، حتى ولو كان الإغلاق هذا هو الحفظ، الذي يعتبره الحكيم زوالاً. كانت للحكيم طريقته المتفردة في قراءة القضايا، فإنه كان يقرأ القضية من آخرها، لأن في الآخر يكمن لب القضية، وعليه يضع تأشيرته وتوقيعه. الوقت ضيق أمامه، فهو في صراع مع الزمن، ومع عبد المقصود أفندي، لإنهاء تلك القضايا المتعلقة بتلك السنة. فلابد وأن يستقبل العام القضائي الجديد، وعلى مكتبه ملفات جديدة لا علاقة لها بقضايا السنة الماضية، لكنه يتفاجأ بزيارة زميله وكيل نيابة طنطا، حاملاً له هدية ثمينة، أكداس إضافية من القضايا، فدائرة القضاء هي دائرة واحدة، ولا تعترف بالتوزيع الجغرافي لدوائر النيابة. ويغلق الحكيم روايته مطيعاً مستسلماً لعبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي، الذي يطلب منه بأن يسرع في التصرف في القضايا المتبقية، ليصدرها للباشا نائب وكيل الوزارة.. فيجيب الحكيم بلامبالاة (بس كده حاضر)، وأخذ يؤشر على ملفات الجنايات بعبارة النيابة المعهودة (تحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل)... ولكن إلى متى سيظل الفاعل مجهولاً؟






توفيق الحكيم:


ولد توفيق الحكيم بالإسكندرية سنة 1878 من أب مصري كان يشتغل في سلك القضاء وأم تركية لها طبع صارم وذات كبرياء واعتداد بأصلها الارستقراطي. ولما بلغ سن السابعة ألحقه أبوه
بمدرسة حكومية ولما أتم تعلمه الابتدائي اتجه نحو القاهرة ليواصل تعلمه الثانوي ولقد أتاح له هذا البعد عن عائلته شيئا من الحرية فأخذ يعنى بنواحي لم يتيسر له العناية بها إلى جانب أمه كالموسيقى والتمثيل ولقد وجد تردده على فرقة جورج أبيض ما يرضي حاسته الفنية لانجذب إلى المسرح.


وبعد حصوله على الباكالوريا التحق بكلية الحقوق نزولاً عند رغبة والده الذي كان يود أن يراه قاضياً كبيراً أو محامياً شهيراً.


وفي هذه الفترة اهتم بالتأليف المسرحي فكتب محاولاته الأولى من المسرح مثل مسرحية "الضيف الثقيل" و"المرأة الجديدة" وغيرهما إلا أن أبويه كانا له بالمرصاد فلما رأياه يخالط الطبقة الفنية قررا إرساله إلى باريس لنيل شهادة الدكتوراه.


لقد وجد في باريس ما يشفي غليله من الناحية الفنية والجمالية فزار المتاحف وارتاد المسارح والسينما. وهكذا نرى الحكيم يترك دراسته من أجل إرضاء ميوله الفنية والأدبية.


وفي سنة 1928 عاد توفيق الحكيم إلى مصر ليواجه حياة عملية مضنية فانضم إلى سلك القضاء ليعمل وكيلا للنائب العام في المحاكم المختلطة بالإسكندرية ثم في المحاكم الأهلية.


وفي سنة 1934 انتقل الحكيم من السلك القضائي ليعمل مديرا للتحقيقات بوزارة المعارف ثم مديرا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية.


استقال توفيق الحكيم من الوظيفة العمومية سنة 1934 ليعمل في جريدة "أخبار اليوم" التي نشر بها سلسلة من مسرحياته.
 وقد منحته الحكومة المصرية اكبر وسام وهو "قلادة الجمهورية" تقديراً لما بذله من جهد من أجل الرقي بالفن والأدب وغزارة إنتاجه كما منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1961.
توفي عام1987.




No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget