نهاية خاطرة




كانت ليلة ماطرة، استمر انهمار المطر مختلطاً بالثلج طوال المساء، كنت ارقب الفقاقيع الصّغيرة المتكونة على رصيف شارع (يهزار) في تلك الساعة المتأخرة من مساء سبت شتائي بارد،
واقفاً تحت المصباح الخافت المتدلي من عمود خشبيّ.. مرت بي عربة مكشوفة، وها أنا أسمع صوت حوافر الأحصنة مرة أخرى.

خرجت امرأة من باب المسرح، تحت ضوء المدخل، ظهرها كان باتجاهي، ربما كانت تنتظر عربة أو (تاكسي)، كانت ترتدي معطفاً أسود، بينما غطت رأسها بوشاح مورد، ولم يكن (الصندل) الذي ترتديه مما يتناسب مع هذا الطقس البارد، اقفل رجل وراءها الستار الحديدي لباب المسرح بعد أن احكم إغلاق الباب، قال: إلى اللّقاء سيدتي، ثم غادر بعيداً.

اعتقدت إنها مطربة أو ممثلة ممن يعملون في المسرح، حين سَمِعت خطاي التفتت إلي عبر الضوء الخافت، احتجت فترة من الزمن كي أتعرف على ملامح وجهها كما عرفته منذ سنوات طويله، سألت: أنت السيدة..... نعم لم أكن مخطئاً، أنت مدام
(خاطرة)..!!
بصوت أجش ردت علي: كم هي باردة هذه الليلة، هل لديك ما ترغب في قوله لي أيها الفتى؟!! ثم أتبعت السؤال بكحة جافة.

أعرفك منذ سنوات طويلة ..كنا جيران.. ثم أخبرتها عن تفاصيل جيرتنا ثم أضفت: كم كنت أعشق صوتك، ومنعني الخجل من أن أقول لها أني كنت اعشقها هي أيضاً.
قالت: لن أجد عربة أبدًا ولا (تاكسي) في هذه السّاعة. هل لديك سيارة؟!!
قلت: لا، لسوء حظي.. لكننيّ سوف أجد عربة لك.
أسفت لتقديمي هذا العرض خصوصاً عندما نظرت إلى الشارع المهجور والظلام المكتسي بالبرودة في نهايتيه.
إن لم أجد لك عربة فسأمشي معك إلى منزلك حتى أتأكد أنه لن يضايقك أحد..
يضايقني أحد؟!!..هل تمزح؟!! قالت ذلك فيما كانت تحك إحدى قدميها بالأخرى وهي تكح.

ستتجنبين البلل لو وقفت هناك، وعلى مضض ..اتجَهَت نحو المظلة وبدا كما لو أنها لم تنتبه للمطر والثلج إلا حين طلبت منها الوقوف تحت المظلة. تحت الضوء رأيت وجهها بوضوح، أصبح شعرها رماديّاً، وكان معطفها ووشاحها قديمين ..

قلت: كنت دائماً أود أن أراك في الفندق الكبير، ثم أضفت مع بعض الإحراج: لكن ما كان بوسعي أن أتحمّل ثمن التذكرة.
قالت: ذلك الوغد! لا يسمح لي بالذهاب إلى البيت عندما يغلق
شبّاك التّذاكر، هل المطلوب أن أرتجف من البرد مثل الكلبة؟!!
أحببت صوتك كثيراً لدرجة أننيّ قرّرت أن أتعلّم العزف على الكمان مع فرقتك الموسيقية بالطبع، طبعاً لم أخبرها أنني لم أكن قادراً على شراء كمان، وبالتالي فقد أصبحت مساعد خياط يسهر مع خيوطه وإبرته كل مساء.

انتقلت (خاطرة) إلى جوارنا منذ سنوات طويلة، ذاك الجوار ذو الأزقّة الطويلة والأسوار المطوبة بالطين، وأصوات غرغرة النساء بالأراجيل، وأولئك البقّالون ذوو الأيدي المصبوغة دائماً بسبب مكائن النقد القديمة، وتلبس (خاطرة) قبعتها الحمراء وأحذيتها الذهبية وكان صوتها عالياً..عالياً.

اسْتأجرتْ يومذاك بيتاً كبيراً قرب بيتنا، وكانت تعيش فيه مع خادمة عجوز، عندما كان النّاس يمرون بجوار بيتها لم يكونوا يلتفتون، وبدا دائماً أن خطاهم كانت أسرع، كما أنهم منعوا أطفالهم من اللعب هناك، وفي بعض الأوقات كانت تقف سيارة أمام البيت وينزل منها إلى الداخل رجال يرتدون بدلاً أنيقة مع ربطات عنق، وشعور مدهونة لامعة مشطت إلى الخلف، وفي أيديهم حقائب سوداء.

يهمس والداي بقرف متسائلين عما يحدث بين هؤلاء الرجال وهذه المرأة الساقطة، وسوف تسأل أمّي: هل تعتقد أنهم يشربون الخمر؟!! سوف يردّ أبي أنا متأكد من ذلك.. تلك المومس!! لم أعرف بالضّبط ما عناه بكلمة مومس، لكنّ أيا ما كان المعنى، فقد كان يجعلهما غاضِبَين.

قلت: كان لديك صوت ساحر. عندما كبرنا أنا وأصدقائي كنا نقف خلف أسوار الحديقة لنستمتع بحفلاتك الموسيقية، ونستمع لصوتك
بشجن ولم نكن نجرؤ حتى على التنفس حتى لا يمنعنا أحد من سماعك..
سَألت: هل لديك سيجارة ؟!!
بحرج أجبت: لا..لكن هل مازلت تغنين؟!!
نظَرَتْ إلى السماء وقالت: كيف سأصل إلى المنزل هذا المساء؟!! سارت وسرت وراءها..
قلت: انتهى الشتاء، وقريباً سيصل الربيع..
قالت: مازال الربيع بعيداً،..تؤلمني قدماي..
بدأت المشي بجانبها، تمنيت لو كان معي شمسية.. وكان للطريق رائحته المعتادة في مثل هذه الأجواء..

ذات صيف، جلست (خاطرة) قرب نافذتها المطلة على الشارع، كانت ترتدي رداءً صيفيا أظهر ذراعيها البيضاوين، صفّت شعرها إلى جانب واحد، ووضعت وردة تناسب لون شفتيها .. ابتسمت لي يوماً وقالت: مرحبًا ... ما اسمك ؟!! انبهرت.. فيما تابعت هي: هل أنت خجول؟!! يوميّاً أراك تتدلّى هنا، مالت إلى حافة الشباك..أضافت: أيها الطفل المسكين، هل أكلت القطة لسانك؟!!

ارتبكت جدًّا، والواقع أنني هربت، لم أخبر أي شخص بما حصل معي، حتى أصدقائي، لم يكن من الممكن أن يصدّقوني، لاحقاً كتبت لها خطاباً أخبرها كمّ أحب صوتها والوردة التي تعانق شعرها، لكنها تركت جوارنا في السنة نفسها..

قلت: اعتدت أنا وأصدقائي أن نجمع المال لشراء مجموعاتك الفنية.
قالت: هناك عربة. هل يمكنك أن تحصل عليها؟!!

تحت المطر، ركضت باتجاه العربة. عرضت على السائق كلّ فلس أملكه، ورجوته أن يأخذنا إلى وجهتنا، وفيما كانت الأحصنة
تتجه نحوها أغلقت الغطاء العلوي للعربة، عندما بلغناها، قفزتُ إلى الأسفل، وأمسكت ذراعها لمساعدتها على الدخول.
جلست بجانبها، سأل سائق العربة: إلى أين؟!!
قالت: قل له أن يذهب إلى شارع (مشيرآزام) ..ثم أضافت: الوغد الغبيّ! لم يشعل مدفأة الفحم في مكتب التّذاكر، لقد أصبت بالبرد.

كنت اسمع صوت قطرات المطر على غطاء العربة، همهمات الأحصنة وهي تنفخ البخار عبر الطريق البارد، لم يبق لدي شيء لأقوله، بعث معطفها روائح نتنة، نسيت أحلامي في عزف الكمان وتذكرت بدلاً عن ذلك أوقاتي مع الخِياطَة أناء الليل وأطراف النهار .
كان الظلام حولنا حالكاً..

كنت أود إخبارها أن الناس لم يقدّروا موهبتها حتى الآن، وأن عليهم أن يظهروا هذا التقدير الذي تستحقه فنانة بمثل موهبتها، لكني لم أفعل.

قالت: إذن لقد انتقلت من جواركم، والتفت وجهها نحوي في الظلام، ثم أردفت: هل تحبّ أن تجيء إلى المسرح؟!!
جعلني سؤالها سعيداً..
قالت: لديّ تذكرة هنا، و بدأت البحث عنها في محفظتها.
لا يمكن أن أجد أي شيء في الظلام..
و أخيراً ناولتني قطعة ورق صغيرة،
سَألَتْ: هل لديك ما ندفع به الأجرة؟!!
أجبتها بالطّبع ..لا تقلقي.

لم تقل إلى اللّقاء عندما نزلت..التفتت إلى السائق وقالت له: إنّ هذا الشّهم سوف يدفع لك الأجرة.
بأرجلها المتألمة، خرجت إلى الشارع المظلم، واختفت في الأزقة الباردة..

المطر المختلط بالثلج ما يزال ينهمر.. دفعتُ الأجرة.
تحت الضوء، نظرت إلى قطعة الورق الصغيرة التي أعطتني،
كان نصف تذكرة ممزق .. سحقته بين أصابعي وواصلت طريقي.
.
.
ملاحظة:
- (خاطرة) في اللغة الفارسية تعني (ذكرى) وبالتالي فإن عنوان القصة: نهاية خاطرة، لا يعني فقط نهاية ذكرى من ذهن الراوي فقط، بل تعني أيضا نهاية المطربة التي تحمل اسم (خاطرة) نفسها.






كتبها بالفارسية: رضا جولائي 
ترجمة: عبدالواحد اليحيائي


نشرت القصة بلغتها الاصلية للمرة الأولى عام 1989 ضمن مجموعة قصصية كاملة للمؤلف. 

تُرجِمت إلى الإنجليزية في صيف عام 1996.


3 comments:

  1. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  2. نتمنى أحياناً أن لا نتلاقى مع الماضي، كي يبقى هذا الماضي ساحراً في بالنا كما عرفته ذكرياتنا

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget