فستان أنجيلينا


أسدل الفقر سدوله على أسرة ويلسن وقد اجتمعت حول المائدة التي توزعت عليها بقايا عشاء. كانت أطباق الحساء ولحم الديك الرومي الممزوج بالبطاطس والمغطى بالصلصة والصلطة البائتة هي كل ما جادت به قريحة عيد الشكر الذي مر على انقضائه ليلتان.
- وهل أجد لديكم جيلاتي بالديك الرومي أيضاً؟!
بلهجةٍ تفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة سألت أنجيلينا ذات الأحد عشر ربيعاً.
احتفظ الأب هنري ويلسن بهدوئه ما استطاع لذلك سبيلاً، ثم أجابها: هل نسيتي أنني بدون عمل منذ عام كامل؟ وأنني بالكاد عدت للعمل هذه الأيام؟ احمدي الله على ما نحن فيه يا أنجلينا.
ثم سكت فجأةً كونه تذكر أنه أكل أكثر مما يجب بكثير.
أما أنجلينا، وكعلامة على الاعتذار عن سؤالها، شدت شعرها من الخلف بيدين لا تنقصهما الخبرة لتصنعان منه ضفيرة بنية جميلة.
لقد شعرت بالندم لا لأن السؤال كان في غير محله، وإنما لأنها كانت تخطط في سرها لأن تطلب من أبويها شيئاً آخر. هنالك، قررت أن تنفذ خطتها فوراً لشعورها بأن اجتماع الأسرة على الطعام يحمل في طياته روحية خاصة.
فقالت: أنا آسفة، ولكن... سيكون منظري غير لائق في موسم الأعياد ما لم أبتاع فستاناً جديداً.

كانت أنجلينا عضوةً في مجموعة تطلق على نفسها اسم نادي بنات المدينة. ويُعتبر موسم الأعياد بمثابة المهرجان الشتوي لذلك النادي حيث تعلن حالة استنفار تنتشر بموجبها طالبات الصف السادس والسابع في المدينة المترامية الأطراف لتمشيطها بحثاً عمن يحتاج للمساعدة.
فهذه مهمتها كتابة بطاقات معايدة للمرضى القابعين في المستشفيات، والأخرى غارقةٌ في طهي الطعام للمتشردين، وأما أضعف الإيمان، فتلك التي تحمل عن المسنين حاجياتهم أثناء التسوّق.

تذكرت الموسم الماضي وتحديداً ذلك المساء الذي أتم فيه الجميع استعداداتهم إيذاناً ببدء موسم الأعياد، حتى النادي الترفيهي أمسى بأبهى حلة ليشهد هو الآخر هذا الحدث الكبير.
هنالك ارتدت عضوات النادي أزياء الحفلة وغنين ورقصن للحاضرين الذين تقاطروا من مختلف مدن الجوار لحضور ذلك الحفل البهيج.

أما هذا الموسم، فبمناسبة أو بغير مناسبة، لم تفوّت ماركو فرصةً إلا وقالت: سأرتدي هذا العيد فستان أزرق أنيق! وهو محاكاة لفستان صممه جوليو.
ومن يدري! فقد يكون جوليو هذا أحد أشهر مصممي الأزياء في روما أو باريس. ولمن لا يعرف، فماركو أقرب صديقات أنجلينا التي حل عليها موسم الأعياد ولسان حالها يقول "عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ!؟" أو لعله يقول "فلغيرةِ النسوانِ فعلُ الخنجرِ". كيف لا وليس بحوزتها سوى فستان رمادي صوفي موغل في البساطة مر على اقتنائها له سنة كاملة، سنةٌ أمعنت في تضيقه وتقصيره عليها.

على أمل أن يكون صاحب مقولة "اطرق الحديد وهو ساخن" على صواب، أعادت أنجلينا الكرّة بالقول: قبل أيام، وبعد خروجي من المدرسة، ذهبت إلى أحد المتاجر ووجدت هناك فستاناً أحمر غايةً في الجمال، إنه مناسب لمقاسي تماماً.
ولكن عبثاً تحاول، فهذه المرة انبرت لها أمها السيدة سوزان ويلسن بعد أن وضعت الشوكة على المائدة وهي تقول: حسناً، حسناً... لا نستطيع أن نشتريه لكِ، لأننا يجب أن نحتفظ بما لدينا من مال، فلا أحد يدري ما إذا كنت سأستمر في العمل أم لا.
- لا شأن لي بذلك، فإما أن تضيفوا لما لدي من النقود لأشتري بها فستاناً لعيد الميلاد، أو أن تشتروه أنتم لي.
قالت أنجلينا وهي تراهن على ما بحوزتها من دولارات حصلت عليها لقاء رعايتها لأخيها لويس ذات مساء بعد أن خرج الوالدان لبعض شأنهما.
- أنجلينا، أرى من الأفضل أن تحتفظي بنقودكِ لتنفقيها على أشياء أكثر أهمية، كأن تشتري بها كتباً أو زياً مدرسياً مثلاً. أجابت الأم.
- أمي، ولكن...
حاولت أنجلينا أن ترد قبل أن يتدخل أبوها بالقول: أنجلينا، نريد أن نشتري لكما أنتِ وأخوكِ هدايا جميلة بمناسبة العيد. هل تريدين أن تكوني إنسانة أنانية؟ لا أظن.
إذ ذاك اغتنم لويس ذو التسع سنوات الفرصة ليدلو بدلوه هو الآخر قائلاً: إنكِ لا تهتمين إلا بنفسك، حقاً أنتِ أنانية يا أنجي.
- كفى لويس! هيا عودوا إلى عشائكم جميعاً! قال الأب واضعاً حداً لهذا النقاش العقيم.

طوت أنجلينا ضفيرتها بشدة محاولةً أن تمتص بعض غضبها، ولكن قدحت في رأسها صورت تلك اللافتة الموضوعة على واجهة المتجر وقد كتب عليها "بالآجل"، الأمر الذي لم تفهمه يوم إذ، فقررت أن تعود إلى هناك وتستطلع الأمر لعل مفتاح الحل يكمن خلف هذه الكلمة.

في اليوم التالي، ما كادت ساعات الدراسة تنقضي حتى انطلقت أنجلينا صوب المتجر وتحديداً إلى الجناح الخاص بملابس الفتيات حيث التقت بالبائعة، فسألتها: ما معنى بالآجل؟
أخذت البائعة تشرح لها قائلةً: بموجب هذا العرض، يستطيع الزبون أن ينتقي ما يشاء من الملابس مقابل أن يدفع جزءاً من ثمنها كعربون، ولا يحق له التصرف بتلك القطعة ما لم يسدد المبلغ المتبقِ قبل انقضاء فترة أسبوعين، وإن لم يفعل، فإن القطعة ستعود ملكيتها للمحل لنبيعها إلى من يستطيع دفع ثمنها، على أننا سنأخذ جزءاً من العربون.
أخرجت أنجلينا من جيب معطفها عشرة دولارات شبه معدومة ثم قالت وهي تريها للبائعة: هل يكفي هذا لتحجزي لي فستاناً لديكم؟
- بالطبع، ولكن يجب أن تعودي في غضون أسبوعين لتسددِ المبلغ المتبقي، وإلا سيحتفظ المحل بالفستان وبجزءٍ من العربون. أجابت البائعة.
غادرت أنجلينا المتجر وهي تكاد تطير من شدة الفرح بحيث لم تنتبه للملحوظة المكتوبة على واجهة المحل ظناً منها أنها أحد العروض. ومن مثلها! وقد أمست قاب قوسين أو أدنى من ذلك الفستان الذي لطالما حلمت بارتدائه ذات عيد، زد على ذلك أنها لم تبرح مكانها حتى أخبرت البائعة الطيبة عن نشاطات نادي بنات المدينة.

لم تخبر أنجلينا أهلها بما فعلت ليقينها أنها ليست بحاجة لهم، فهي ستحصل على المال اللازم من خلال حضانة الأطفال، وما الذي يمنعها؟ ألم تمكث مع أخيها لويس مرات ومرات؟ من أجل ذلك عانت الأمرّين وهي ترتجف تحت وطأة كانون القارس متنقلةً بين المنازل باحثةً عمن يستأمنها على صغيره.
لكأن الجميع اتفقوا على رفضها، فهؤلاء يرفضونها بذريعة أن لديهم حاضنة، وأما أرأفهم بصغر سنها، فأولئك الذين يتحججون بأنه من الأفضل لها أن ترعى من هم أكبر سناً من أطفالهم الرضّع.
وأخيراً وجدت ضالتها في بيت صديقتها ماركو حيث قرر الوالدان أن تأتي لتساعد ابنتهم الصغرى في خياطة ملابس لعرائسها، فعلى ما يبدو أن ماركو لم تكن خياطةً ماهرة كما هو الحال مع أنجلينا التي أنبأت الثياب التي خاطتها عن خيّاطة واعدة، مما حدى بأبوي ماركو أن يدفعا لها عشرين دولاراً.

ولكن وكما عودنا ذلك المسافر المتحجر القلب الذي لا يلقي بالاً لنا ونحن نتوسله أن ينتظر علنا نتزود ممن نحب، ذلك المسافر الذي لم يشعر بأوجاعنا مرةً وهو يحث الخطى آخذاً معه آمالنا إلى المجهول. مر بسرعة البرق والفجوة مّا تزال تتسع بين ما حصلت عليه تلك المسكينة وثمن فستانها الذي أتعبه طول الانتظار.

عادت إلى متجر الملابس والحزن كل ما في جعبتها، هنالك، قرأت على الواجهة: سيُغلَق المتجر بحلول الشهر القادم، فكان أن تركت قدماها تسوقانها إلى الجناح الخاص بملابس الفتيات لتلتقي بنفس البائعة.
- لم أستطع الحصول على ما يكفي من المال لأشتري فستان عيد الميلاد.
قالت أنجلينا بنبرة ملؤها الإنكسار. ثم لاحظت أن البائعة تبدو وكأنها فرغت للتو من فصل للبكاء المر، ذلك ما فضحته الهالتان الحمراوان اللتان ارتسمتا تحت عينيها.
- كما ترين، فالمتجر بصدد الإغلاق وأنا على وشك أن أفقد عملي، ولكنني أرغب في أن أقدم خدمةً ما لناديكم لأنكم تقومون بعمل طيب، لذا فأرغب أن تأخذي الفستان لتلبسيه في عيد الميلاد، وأنا سأتكفل بدفع المبلغ المتبقي.
إذ ذاك لم تفكر أنجلينا بحاجتها للفستان فحسب، وإنما قفزت أمامها صورت أبيها القلق الحزين وهو دون عمل طوال عام مر عليهم كأقسى ما يمر عام على فقير، فكان أن انتقت كلماتها بعناية قبل أن تقول: هذا لطف كبير منكِ سيدتي، لكنكِ ستحتاجين لكل المال الذي لديكِ لحين العثور على عمل آخر، ولست أجهل ذلك.
- أمتأكدة مما تقولين؟؟؟ صدقيني، إنني أعني ما أقول.
قالت البائعة وهي مندهشة مما تقول هذه الصغيرة.
- نعم، أنا متأكدة ومتأكدة جداً. ردت أنجلينا.
- حسناً إذن، سأدفع لأعيد لكِ العربون الذي تركتيه لدينا المرة الماضية كاملاً. قالت البائعة.
شكرتها أنجلينا وهي تمسك بدولاراتها العشرة بكفها ثم قالت قبل أن تودعها: أتمنى أن تعثري على عمل آخر بأسرع وقت!


في الخارج وفي ذلك الطقس البارد، استوقفها منظر رجل يلبس زي سانتا كلوز وهو يجمع النقود من المارة من أجل مساعدة الفقراء وكذلك منظر عدد من الأشخاص وهم يقرعون الأجراس، فوقفت لبرهة على أحد الأرصفة المتجمدة كي تتفرج، وبلا تردد، دفعت للرجل الذي يشبه سانتا كلوز بضعة دولارات محدثةً نفسها "أيعقل أن تكون تلك البائعة وحدها من يريد مساعدة الآخرين؟"
ثم فجأةً فكرت أنها قد تكون بحاجة لأن تشتري بعض اللوازم لتطويل فستانها القديم، فأخذت تخطط كيف ستخيط الأشرطة الحمراء الزاهية على طول ياقة الفستان.

عندها جالت بعينيها في المكان وكانون/ديسمبر ما انفك يجلدها بسياطه ثم دلفت إلى داخل المتجر. ومن يدري؟ فقد تبدو أنيقةً وهي تمرح مع صديقاتها أخيراً، فهو العيد على أية حال.



جارلين واتسن
ترجمة: عمار الحامد

No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget