أشباح أغسطس قصة ل غابرييل غارسيا ماركيز







قصة قصيرة ل غابرييل غارسيا ماركيز:


وصلنا إلى أريزو قبل منتصف النهار بقليل، وقضينا أزيد من ساعتين في البحث عن القصر الذي يدل على عصر النهضة، الواقع في ذاك المكان الشاعري من القرية البدائية، والذي اشتراه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا. كان يوم أحد من أول أسبوع من شهر آب (أغسطس)، حاراً ومثيراً للأعصاب، ولم يكن من السهل مصادفة شخص يعرف شيئاً عن القصر في الشوارع التي تغص بالسائحين. وبعد عدة محاولات للبحث بدون جدوى عدنا إلى السيارة وغادرنا البلدة عبر طريق صغير تحفه أشجار السرو دون هدف واضح، لكن امرأة عجوزاً كانت ترعى الإوز دلّتنا في النهاية على مكان القصر بالتحديد، وقبل أن تودعنا سألتنا إن كنا سنقضي الليلة هناك، فأجبناها، وفقاً لما كان مقرراً في الدعوة، بأننا ذاهبون فقط للغذاء، فقالت:
ـ هذا لحسن الحظ، لأن المكان يثير الرعب.
وبما أننا، زوجتي وأنا، لم نكن نؤمن بأشباح منتصف النهار، فقد سخرنا من كلامها، لكن طفلينا، البالغين من العمر تسعاً وست سنوات، انتابهما الفرح لكونهما سوف يريان أشباحا حقيقية.
وجدنا ميغيل أوتيرو سيلفا، الذي كان علاوة على كونه كاتباً جيداً مضيافاً رحب الصدر، ينتظرنا بطعام الغذاء الذي لا يمكن نسيانه أبداً. وبما أننا وصلنا متأخرين فلم يكن لدينا وقت لكي نتجول في أرجاء القصر قبل الجلوس إلى مائدة الطعام، ولكن منظره من الخارج لم يكن مما يثير الخوف، بل إن مشهد المدينة التي كانت تبدو لنا من المكان المرتفع الذي نتغذي فيه كان كافيا لطرد أي شعور بالكآبة.
كان من الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يولد في هذه البيوت المتكاتفة فيما بينها فوق هذه الهضبة، حيث يعيش حوالي تسعة آلاف من الأفراد متزاحمين أشخاص ذوو عبقرية دائمة، لكن ميغيل أوتيرو سيلفا قال لنا بمزاجه الكاريبي أن أياً من هؤلاء الأشخاص الممتازين ليس أفضل ما في أريزو، وأضاف:
ـ إن أفضلهم كان هو لودوفيكو.
هكذا: لودوفيكو، بدون ألقاب زائدة، أحسن رجال الفن والحرب الذي بنى هذا القصر الحزين، والذي استفاض ميغيل أوتيرو سيلفا في الحديث عنه طيلة وقت الغذاء، عن قوته التي لا تقهر وغرامياته التعسة وموته المأساوي، وكيف أنه في لحظة جنون





قاسية قتل عشيقته على السرير الذي مارسا فيه الحب ثم أثار عليه بعد ذلك كلاب الحرب الذين قطعوه أرباً. وأكد لنا، بلهجة يقينية، أن شبح لودوفيكو يخرج بعد منتصف الليل ويبدأ في التسكع في جنبات القصر وسط الظلمة محاولاً إعادة السكينة إلى مطهر حبه.
لقد كان القصر في الحقيقة واسعاً جداً ومعتماً، غير أن قصة ميغيل لم تبد لنا في واضحة النهار مع امتلاء المعدة وانشراح القلب إلا مجرد مزحة شبيهة بمزحاته الكثيرة التي يحاول الترويح بها على ضيوفه. وخلال تجوالنا بعد فترة القيلولة من دون أي شعور بالخوف بدت لنا الغرف الإثنتان والثمانون التي يتكون منها القصر وكأنها خضعت لتغييرات كثيرة من طرف ملاكيه المتعاقبين. قام ميغيل بإصلاح الطابق الأسفل كاملا وبنى غرفة نومه بطريقة حديثة وجعل أرضيتها من الرخام، وحماماً بخارياً على الطريقة الفنلدنية، وشرفة زودها بورود فاقعة حيث تناولنا طعام الغذاء. أما الطابق الثاني الذي خضع للاستعمال كثيرا خلال القرون الماضية فقد كان عبارة عن سلسلة من الغرف التي لا تحمل سمات معينة خاصة بها، فيها أثاث ينتمي إلى مختلف العصور ترك بلا عناية. لكن في الطابق العلوي كانت هناك غرفة لم تمس في السابق يبدو أن الزمن لم يتمكن من الوصول إليها فبقيت كما كانت. إنها غرفة نوم لودوفيكو.
كانت لحظة ساحرة. فهناك كان السرير المحاط بالستائر الموشاة بخيوط من الذهب، والأغطية الحريرية العجيبة المتغضنة التي لا يزال بها أثر دم العشيقة المقتولة، والمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلى حجر، والدولاب التي لا تزال به الأسلحة الفتاكة، والبورتريه الزيتي في إطار من الذهب للفارس وهو يتأمل، مرسومة بيد واحد من كبار فناني فلورنسة، لكن الذي أثار اندهاشنا هو وجود رائحة الفراولة ما تزال نفاذة في غرفة النوم دون تفسير واضح.
الأيام في الصيف في توسكانا طويلة وبطيئة، حيث يبقي الأفق مستقراً في مكانه حتى التاسعة ليلاً. وعندما انتهينا من التجول داخل القصر كانت الساعة تشير إلى الخامسة من بعد الظهر، ولكن ميغيل أصر علينا بأن يأخذنا لنرى اللوحات الجدارية لبييرو ديلا فرانسيسا في كنيسة سان فرانسيسكو، وبعد ذلك جلسنا لتناول القهوة والدردشة تحت تعريشة المكان، وحينما عدنا إلى القصر لحمل حقائبنا وجدنا أنهم أعدوا طعام العشاء، وهكذا اضطررنا للبقاء.
فيما كنا نتعشى تحت سماء سوداء اللون لا توجد بها سوى نجمة يتيمة، أخذ الولدان المشاعل من المطبخ وراحا يستكشفان غرف الطابق العلوي وسط الظلمة. ومن مكاننا في الأسفل سمعنا أصوات ركضهم الذي كانا يقلدان به الخيول على السلم، وأنين الأبواب، والأصوات الناعمة السعيدة التي تنادي لودوفيكو في الغرف المظلمة. وخطرت للولدين تلك الفكرة السيئة بأن نقضي الليلة هنا، وساندهم ميغيل أوتيرو سيلفا سعيدا بها، فلم نجد في أنفسنا الشجاعة الأدبية لنرفض الدعوة. بعكس ما كنت أتخوف، نمنا تلك الليلة جيدا، زوجتي وأنا، في غرفة نوم بالطابق السفلي بينما نام الولدان في الغرفة المجاورة. كانت الغرفتان معا قد أدخلت عليهما إصلاحات بشكل جعلهما حديثتين، لذلك لم تكونا معتمتين. وفي انتظار أن يأخذني النوم بدأت أتلهى بتعداد الضربات الإثنتي عشرة للساعة الجدارية الكبيرة، فتذكرت تحذير راعية الإوز، لكننا كنا متعبين جداً فنمنا نوماً ثقيلاً مليئاً بالأحلام، وصحوت بعد الساعة السابعة صباحاً بقليل على نور الشمس المتسلل عبر فتحات النوافذ، وكانت زوجتي إلى جانبي ما تزال نائمة، فقلت في نفسي: يا لها من حماقة، أن يؤمن المرء في هذا الزمن بالأشباح.
وفي تلك اللحظة بالذات اجتاحتني رائحة الفراولة التي كأنها قطفت للتو، وصورة المدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلى حجر، والبورتريه الزيتي للفارس الحزين في الإطار المذهب وهو ينظر إلينا من وراء ثلاثة قرون. واكتشفت بأننا لم نكن في الحقيقة نائمين في نفس الغرفة التي نمنا فيها ليلة أمس بالطابق السفلي، بل في غرفة نوم لودوفيكو، تحت الستائر التي علق بها الغبار والأغطية الملطخة بالدم الذي لا يزال طرياً على السرير اللعين.




غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز ( Gabriel José García Márquez) :

( 2014-1927) روائي وصحفي وناشر وناشط



وسياسي كولمبي. عاش  معظم حياته في المكسيك وأوروبا وقضى  معظم وقته في مدينة مكسيكو. نال جائزة نوبل للأداب عام 1982 وذلك تقديرا للقصص القصيرة والرويات التي كتبها.

ومن أشهر رواياته:
*مائة عام من العزلة 1967 :والتي بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة .
*خريف البطريرك، 1975.
*قصة موت معلن، عام 1981 .
*رائحة الجوافة عام 1982 .
*الحب في زمن الكوليرا، عام 1986 .






الشوارع


قصة قصيرة مترجمة من الأدب العالمي لكاتبها جون راي:

عندما كنت طفلا، رجوت والدّي ألا يعبرا بي ـ أثناء التجول ـ من أحد الشوارع قرب كاتدرائية «سان بافون».
هو شارع صغير ريفي ، ببيوت صغيرة وبائسة برائحة البخور والحوامض التي ترافق موسم الصوم الأربعيني، رفع والداي كتفيهما بلا مبالاة، ثم انهما ـ ما داما لا يعيران أي اهتمام لمخاوفي ـ قاما بدفعي أمامهما للسير في الشارع البغيض. صامتا كسمكة، كنت اشعر بخوف وتوجس كبيرين.

بعد هذا، اختفى ذلك الرعب. لكنني مع ذلك كنت أتحاشى الشارع بشدة. وفي أحد مساءات العيد، وانا في أوائل العشرينات، كنت أسير قرب «الالكريكية»، وإذا بي أفاجأ بوابل من المطر، فرجعت مسرعاً إلى المنزل، حيث تنتظرني متع كثيرة هناك. هكذا اختصرت الطريق: عبر الشارع الكريه بالطبع.

هناك لاحظت أن أحد المنازل البورجوازية قد تحول إلى مخبزة. ياه! كم أحب الكعك المحلى.

كان هناك بريق يتحرك كبندول الساعة مسقطا قوسا ذا ألوان متعددة فوق الطوار. وفوق الرفوف تتربع أنواع من الحلوى المتعددة الأشكال. هرم من الكعكات الصغيرة آثار انتباهي بشدة. دفعت الباب، فانتشر في المكان صدى القطع النحاسية الصغيرة المعلقة في خيوط عدة لتعلن مجيء الزبون. لكن، لم يحضر أحد.

ناديت: «هل يوجد أحد هنا؟». لكنني لم أتلق إلا الصمت كجواب، كانت هناك ستارة بنفسجية تفصل المكان عن صالة أخرى، رفعتها لأكشف عن صالة أنيقة وصغيرة للأكل الخفيف، وكانت النافذة مقفلة بإحكام بدفتين زجاجيتين ملونتين، ومضاءة من الخارج بواسطة ستارة حمراء شفافة، اعتقدتها في بادئ الأمر نارا كبيرة متأججة.

أطلقت نداء ثانيا لم يكن ذا جدوى.

كان هناك أيضا، باب جانبي يفترض أن يؤدي إلى ممر داخلي، كان مغلقا ولم استطع فتحه، في الخارج، ازداد المطر حدة وتكاثف الظلام، فجأة اتخذت قراراً في لا مبالاة لم أعهدها في نفسي.. كشفت عن هرم الكعكات ذاك وحشوت كيسين من الورق بها وأنا أقول لنفسي: «سأعود غدا لأؤدي ثمنها».

الجميع قالوا بأنها ـ الكعكات ـ ممتازة، كل من ذاقها اعترف انه لم يذق مثلها في حياته، وقد كان هذا صحيحا إلى حد بعيد.

لم اعد في الغد إلى المخبزة، لكن بعد أيام من ذلك، لم تكن هناك أية مخبزة! بل وجدت نفسي أمام ذلك المنزل البورجوازي الذي كنت أراه دائما.

اتجهت إلى حلاق مجاور للمنزل واستفسرته عن الأمر..

ـ مخبزة؟! لم توجد هنا أبدا ـ قال الرجل الطيب ـ منذ عشرين سنة وأنا اعمل هنا. أؤكد لك أنك مخطئ.

لكن، هناك ثلاثة شهود يؤكدون لي أنني لم أكن ضحية حلم أو هلوسة، فعندما فاجأني المطر، كنت برفقة أحد أصدقاء الدراسة. وعندما خرجت من الشارع، وفي نقطة التقائه مع شارع «ميروار»، قابلت جارتي «مدام بون» التي قالت لي: إن أكياسك الورقية ستبتل وتتمزق، دعني أضعها تحت معطفي.

ثم إننا ـ نحن الاثنين- تابعنا الطريق معا.

والكعكات الصغيرة.. لقد أتينا عليها عن آخرها، وقد كنا ثمانية أو عشرة أشخاص ممن شهدوا بمذاقها اللذيذ جدا!! كيف حدث ما حدث إذن؟ لن أستطيع أن اعرف أبدا.                             
    

  
«(جون راي) كاتب بلجيكي (1887 ـ 1964)، كتب نصوصا عديدة باللغة الفرنسية ، كان يعشق السفر والمغامرة - نشر الكثير.

بلاد الكرنفال


سنتزوج السبت القادم، قالها باولو ريجر. وسنرحل في مساء اليوم ذاته إلى نيويورك...
والتصقت ماري دي لورد بكتفه، وهي تبكي.
ـ مابك يا لوردينا؟ ألست سعيدة؟
ـ أجل يا باولو، ولكن....
ـ ولكن... ماذا؟
ـ أود أن أقول شيئاً.
ـ قولي يا حبيبتي.
ـ ليس الآن، بل هذا المساء يوجد كثير من الناس هنا. سنذهب في تزهه هذا المساء، وسأخبرك.

أمضى باولو طيلة بعد الظهر في حالة من نفاذ الصبر مجنونة. فأي شيء جدّي إلى هذا الحد كانت تزمع أن تخبره؟ لقد كان دائماً يوجس ريبة من سرٍ تكتمه عنه.
تلك الكآبة... وشعر ريجر بغمًّ شديدٍ يجتاحه. إنه يجزع من
ضياع السعادة التي صارت في متناول يده، من أن يرى نفسه من جديد غارقاً في الحيرة، بلا هدف.
وبكت ماريا دي لورد طيلة بعد الظهر... أن لا يغفر لها.


كانت الليلة أجمل منها في أي وقت آخر. ليلة عشاق كبيرة. قبل أن
يخرجا، تعانقا طويلاً في الدرج. وكان لديهما انطباع بأنهما يتعانقان لآخر مرة.
مشيا في الشارع وقتاً طويلاً دون أن ينبسا بكلمة. فهو كان يوجس
خيفة من الشيء الذي وعدته بإطلاعه عليه. وهي لا تملك الجرأة على إخباره بكل شيء. فحزم أمره وقال لها:
- تكلمي يا خطيبتي الحلوة...

وراحت تخبره وهي تجهش بالبكاء. إنها لم تعد عذراء. روت له حبها لأوسفالدو، وكيف استسلمت له ببراءة، دون أن تدري ما تفعل.
إنها تستحق الغفران. لكنها لم تخبره من قبل خوفاً من أن لا يغفر لها. فهل يغفر لها؟

أما هو، فقد انتابته رغبة وحشية في التلذذ بالألم فطلب منها أن تروي له كل ما جري بأدق التفاصيل.
وشعر بأن أضواء المدينة تنطفىء شيئاً فشيئاً، شاعت الظلمات في نفسه. وهربت السعادة. وغرقت المدينة في ظلام دامس.
تعلقت ماريا دي لورد بعنقه وراحت تعض شفتيه. وفجأة عاد النور بقوة إلى المصابيح الكهربائية. لكن نفس باولو ريجر ظلت غارقة في الظلمات.

قال لها وكأنه سكران:
- هيا بنا...
رافقها حتى بيتها. وتركها عند أسفل الدرج باكية. ومضى وهو يتنشق الهواء بقوة.
تتملكه رغبة في ضرب العابرين، في أن يبصق في وجه النساء،
في أن يتفوه بكلمات بذيئة.
اندهش أصحابه إذ رأوا سحنته. فسألوه عن السبب... " لا شيء، لا
شيء. دعوني وشأني يرحمكم الله".
طلب من الخادمة أن تأتيه بكأس " كاشاسا". شرب كثيراً. وفي آخر الليل قص على أصحابه حكاية شقائه وهو يبكي من شدة غيظه.
  فسأله جيرونيمو:
- والآن ماذا تنوي أن تفعل؟
- وهل أدري! هل أدري! هل بقي لي رأس يفكر؟... لا أريد التفكير بما سأفعل!

ارتأى ريكاردو أن خير ما يمكن أن يفعل هو أن يتزوج. هذا أفضل
حل. لابد أن تكون ماريا دي لورد صادقة. فليتزوج. أوليس هو من أعداء التقاليد؟
فاعترض خوسيه لوبيز قائلاً:
- ليس بهذه السهولة يمكن التغلب على التقاليد. إن وراءها تسعة عشر قرناً. ياله من إرث رهيب...
- أنت على حق يا خوسيه. أنا لا أستطيع التغلب على التقاليد. أنا أشعر بأنها جديرة بحبي. ولكني غير قادر على الزواج منها. أنا حيوان، لأني أترك السعادة تهرب مني.

رافقوه إلى بيته. وبقي ريكاردو براس لينام عنده. لربما أقدم على عمل جنوني.
ظل الاثنان يتحدثان طوال الليل. عقد باولو ريجر العزم على زيارة
ماريا دي لورد في صباح غد والزواج منها. ولم لا؟ فما شأنه بماضيها؟ وظل يجاهد نفسه. ومع ذلك فهو يشعر باستحالة التغاضي عن الماضي، باستحالة اقتلاعه من ذاكرته.
لماذا أخبرته كل شيء؟ لماذا لم تدعه يجهل كل شيء.
كان بوسعهما أن يكونا في غاية السعادة.

في اليوم التالي مرّ عدة مرات أمام بيتها، لكنه لم يجرؤ على الدخول، فقال لخوسيه لوبيز:
- أنا رجل شقي... أنا بائس! . لقد قتلت سعادتي بيدي! لأني لم أتمكن من قهر التقاليد! لكم أنا معتوه، أبله.



 
خورخي آمادو 1901- 2001 روائي، صحفي وسياسي برازيلي. واحد من أهم كتّاب البرازيل وأوسعهم شهرة. منذ أيام المدرسة بدأ الكتابة، وفي عام 1935 أنهى دراسة الحقوق في ريو دي جانيرو، وقد دخل حينذاك عالم الأدب وبدأ يشق طريق النجاح بمجموعة
 من المؤلفات، منها:

 - بلاد الكرنفال عام 1931 وكان له من العمر 19 عاماً.
   - كاكاو 1933
 - عَرَق 1934
- جوبيابا 1935
- بحر ميت 1936
- قباطنة الرمال  1937


وقد صار جورجي آمادو بعد انتشار أعماله هذه الكاتب المفضل لدى شعبه. والسر في هذا النجاح هو تمسكه ببعض الأشكال الاتباعية ممزوجة بالصعلكة وطعم التقاليد العريقة في مسقط رأسه، ولاية باهيا، التي كانت بحواضرها وريفها مسرح كل رواياته، وأناسها أبطاله الدائمين.
انغمس في النضال السياسي منذ شبابه المبكر، إذ انضم إلى الحزب الشيوعي البرازيلي في عام 1926.

يلقب بديكنز البرازيل المرشح الدائم لجائزة نوبل مات وهو يحلم بألا يحصل عليها.
"لن افرح اذا حصلت على جائزة نوبل" هذا هو تعليق أمادو عند ترشيحه كل عام لهذه الجائزة.
لم يفز بها رغم جدارته. يرجحون في الأوساط اللأدبية البرازيلية إن عدم فوزه بالجائزة يرجع الى حصوله على جائزة ستالين، وجوائز أخرى عديدة من البلدان الشيوعية السابقة، كان قد فاز بجائزة لينين الدولية/موسكو 1951،وجائزة ديميتروف بلغاريا/ 1986، وجائزة بابلو نيرودا التي تمنحها جمعية الكتاب السوفييت موسكو/ 1989.

بطاقة يانصيب


إيفان ديمتريتش، رجل ينتمي الى الطبقة المتوسطة ويعيش مع عائلته على دخل سنوي يبلغ 120,000 روبل، وهو سعيد تماماً بذلك المبلغ.


جلس بعد العشاء على الكنبة وبدأ بتصفح الجريدة.
قال محدثاً زوجته المنشغلة برفع الأطباق عن المائدة:
- فاتني اليوم أن أقرأ الجريدة.
قالت له زوجته:
- تأكد فيما إذا كانت قائمة السحب هناك.
رد عليها إيفان ديمتريتش قائلاً:
_ نعم إنها هناك، ولكن الم تسقط بطاقتك بعد؟
- لا لم تسقط بعد. إنها ضمن سحبة الثلاثاء.
- وما رقمها؟
- تسلسل 9499، رقم 26.
- حسناً دعيني أتحقق من الأرقام...9499 و 26.


ولم يكن إيفان ديمتريتش من الذين يؤمنون باليانصيب، وليس من عادته على الإطلاق أن يسعى وراء هذه القوائم والتحقق من الأرقام الفائزة، ولكن الآن والصحيفة بين يديه لم يعترض على الفكرة وانطلق يفتش في العمود أمامه عن الرقم المنشود.
في الحال ومن دون تأخير كأنما أرادت الأقدار أن تسخر من شكوكه وعدم إيمانه بالحظ، ولم يكن قد تجاوز الخط الثاني من الأعلى، وقعت عيناه على الرقم 9499. لم يصدق عينيه، وسارع الى رمي الصحيفة على ركبتيه دون أن يكلف نفسه مشقة التحقق من رقم البطاقة، كما لو أن دشاً من الماء البارد صب على رأسه، وسرت في معدته قشعريرة باردة تستفز رهبة خفية رغم لذتها.

قال بصوت بدا أجوفاً عديم الملامح:
- ماشا، التسلسل 9499 موجود في القائمة.
نظرت زوجته إلى وجهه الممتقع الذي صفعته الدهشة وأدركت للتو بأنه لم يكن يمزح. صرخت به وقد شحب وجهها:
- 9499؟
- نعم، نعم...صدقيني فهو موجود هنا في القائمة.
- ماذا عن رقم البطاقة؟
- آآ... نعم. رقم البطاقة موجود أيضاً. ولكن انتظري، لا...أعني، على كل حال تسلسل بطاقتنا موجود، أنت تعرفين....

ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة لا معنى لها كأنه طفل وقع بصره فجأة على شيء يلمع. تبسمت زوجته أيضاً. كانت هي الأخرى سعيدة لأنه ذكر التسلسل وفعل خيراً لأنه لم يحاول أن يكتشف رقم البطاقة الرابحة، فلا ضير أن يحلم المرء لبعض الوقت ويملؤه الأمل بثروة محتملة.
قال إيفان ديمتريتش بعد لحظة صمت دامت طويلاً:
- إنه تسلسلنا، وهذا يعني أننا قد نكون الرابحين. مجرد احتمال، نعم، ولكنه قائم.
- حسناً يمكنك أن تتحقق منه الآن.
- انتظري قليلاً ولا تتعجلي، فلدينا ما يكفي من الوقت كي نصاب بالخيبة. التسلسل يقع في الخط الثاني من أعلى القائمة وهذا يعني بأن الجائزة تبلغ 75,000 روبل. هذه ليست مجرد نقود، بل قوة ورأسمال. خلال دقيقة أو أقل يمكنني أن أنظر الى القائمة وأعرف بان الرقم هو ...26، اليس كذلك؟ ماذا لو كنا نحن الرابحين؟


راحا كلاهما يضحكان وهما يحدقان ببعضهما في صمت. احتمال الربح أقلقهما. شيء تجاوز الكلام وكذلك الأحلام. ما الذي يمكن أن يفعلاه ب(75,000) روبل؟ ماذا يشتريان؟ وأين يمكن أن يذهبا؟ لكن تفكيرهما لم يتجاوز الرقمين (9499) و(75000)، ولم تستطع مخيلتهما أن تعبر الى حجم السعادة التي يمكن أن تتحقق بهما.

كان إيفان ديمتريتش يتحرك من ركن الى آخر داخل الغرفة والصحيفة بين يديه، وفقط عندما صحا من صدمة المفاجأة الأولى بدأ يحلم قليلاً. قال محللاً:
- لو كنا نحن الرابحين، فهذا يعني حياة جديدة، أي تحول كامل في كل شيء. البطاقة تخصك بطبيعة الحال، ولكن لو كانت تعود لي فسوف أبادر في الحال إلى شراء عقار ب(25,000) روبل، و(10,000) للنفقات الآنية والأثاث الجديد والسفر وتسديد الديون إلى آخر هذه القائمة. أما ال(40,000) المتبقية فسوف أضعها في حساب مصرفي بفائدة.
قالت زوجته التي كانت تجلس على كرسي ويداها تستقران في حضنها:
- نعم،أنا أتفق معك حول فكرة شراء عقار.
- يمكننا أن نشتري هذا العقار في مقاطعة مثل (تيولا) أو في (أوريول)، لكننا بالتأكيد لن نكون بحاجة إلى سكن صيفي، إضافة إلى أن هذا العقار سيدر علينا دخلاً ثابتاً.

راحت الصور تتزاحم في مخيلته، وكل واحدة منها أكثر سحراً وشاعرية من الأخرى. وفي كل هذه الصور كان يرى نفسه وافر الصحة معافى ويعيش في دفء ورخاء. وفي الصيف، بعد أن يتناول حساءه البارد كالثلج يستلقي على الرمال الحارقة قرب الغدير أو في الحديقة تحت شجرة الليمون. الجو حار... وطفلاه الصغيران، ولد وبنت بطبيعة الحال، يزحفان بالقرب منه، يحفران في الرمل، أو يبحثان عن الخنافس الصغيرة بين الحشائش. يغلبه نعاس لذيذ فيغفو قليلاً ورأسه خالية من كل أنواع الهموم، و..أو بعد أن يضجر من عدم الحركة ينطلق عبر الحقول أو باتجاه الغابة ليجمع الفطر، أو ربما ليسلي نفسه بمشاهدة القرويين وهم يصطادون السمك بالشباك. وعندما تغرب الشمس يأخذ منشفة وصابونة ويتحرك باتجاه سقيفة الاستحمام حيث يبدأ بخلع ملابسه على مهل وباسترخاء تام، وببطء يبدأ بتدليك صدره العاري بكلتا يديه ثم يدخل إلى الماء. وفي الماء قرب دوائر الصابون القاتمة تسبح الأسماك الصغيرة جيئة وذهاباً، وأعشاب الماء الخضراء تداعب رؤوسها وأجسادها. وبعد الاستحمام يجد الشاي بالحليب في انتظاره. في المساء يلعب الورق مع الجيران.

قالت له زوجته التي كانت هي الأخرى غارقة في حلم لذيذ:
- نعم، أظنها فكرة جيدة أن نشتري عقاراً.

راح إيفان ديمتريتش يرسم الخريف في مخيلته بأمطاره وأمسياته الباردة وصيف سانت مارتن. خلال ذلك الموسم سينطلق في جولات يومية طويلة كي يشعر بقشعريرة البرد تسري في أطرافه، وعند عودته يتناول كأساً كبيرة من الفودكا ويأكل الفطر المملح أو الخيار المخلل، ثم يتناول كأساً أخرى... ويأتي الأطفال راكضين من حديقة المطبخ حاملين معهم الجزر والفجل، بعدها يستلقي على الكنبة وينشغل في تقليب صفحات مجلة مصورة، أو يغطي وجهه بها وهو يفتح أزرار صداره، مستسلماً في النهاية إلى إغفاءة قصيرة.

وبعد صيف سانت مارتن يأتي الجو الغائم والكئيب، ويتواصل هطول الأمطار ليل نهار، والأشجار العارية لا تتوقف عن نحيبها، والريح مشبعة بالرطوبة وشديدة البرودة. الكلاب والجياد والدجاج جميعها مبللة وحزينة. لا مجال للخروج في جولات، ويبقى المرء حبيس الدار لأيام عدة، وليس أمامه سوى الحركة الضيقة بين جدران الغرفة، والنظر بيأس من خلال زجاج النافذة الكالح. كل شيء يبعث على الكآبة.

ويلتفت إيفان ديمتريتش ناحية زوجته ليقول:
- لعله من المستحسن أن أغادر إلى خارج البلاد خلال موسم الشتاء.
ردت عليه زوجته قائلة:
- وأنا أيضا سوف أغادر إلى خارج البلاد، ولكن لماذا لا تتحقق من رقم البطاقة الآن؟
- انتظري، انتظري....


وانطلق من جديد يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وهو يفكر. ماذا لو حقاً قررت زوجته أن تسافر الى الخارج؟ لا يحلو السفر إلا إذا كنت وحيداً أو برفقة نسوة متحررات ويعشن من أجل الحاضر، وليس مثل أولئك اللواتي يتحدثن طوال الرحلة عن الأطفال، ويتأوهن وينتفضن بغضب لكل قرش تصرفه. ويتخيل إيفان ديمتريتش زوجته في القطار مع عدد لا يحصى من الصرر والسلال والحقائب، تئن وتشكو لأن القطار جلب لها الصداع، ولأنها بذرت الكثير من النقود... وفي كل محطة يتوقف فيها القطار يسارع إلى جلب الماء الساخن والخبز والزبد لأنها لم تتناول العشاء....

نظر إلى زوجته ثم واصل تفكيره... ستظل تناكدني حول كل قرش لأن ورقة اليانصيب تعود لها وليست لي. إضافة لذلك، ما حاجتها للسفر إلى الخارج؟ ما الذي يمكن أن تفعله هناك غير أن تحبس نفسها وتحبسني معها في الفندق طول الوقت؟ نعم، فأنا أعرف ذلك.

وللمرة الأولى في حياته تنبه إلى حقيقة أن زوجته قد شاخت وكبرت، وتعبق منها طول الوقت روائح الطبخ، بينما هو لا يزال شاباً قوياً وافر الصحة ولعل الأفضل له أن يفكر في الزواج من امرأة أخرى.
قال محدثاً نفسه بانزعاج "نعم هذا هراء. لماذا تريد أن تسافر إلى الخارج؟ وما الفائدة التي يمكن أن تجنيها من السفر؟ لكني أعرف بأنها ستصر على السفر رغم أن الأمر واحد بالنسبة لها سواء كانت في نابولي أو في كلن. كل ما يهمها أن تقف في طريقي وتبقي الحبل مشدوداً حول رقبتي وأظل معتمداً عليها وعلى نقودها. نعم بإمكاني تخيل الأمر، فهي مثل أي امرأة عادية، ستبادر منذ الوهلة الأولى إلى الاستيلاء على النقود... لتعتني فقط بأقاربها، بينما ستظل تناكدني في كل قرش أطلبه منها".

وراح إيفان ديمتريتش يفكر بأقاربها. كل هؤلاء الأخوة والأخوات والأعمام والعمات سيأتون زاحفين حالما يسمعون بالبطاقة الرابحة ويبدؤون في الحال بالأنين كالشحاذين، متوددين متملقين بابتساماتهم الزائفة المنافقة. بائسون ومقيتون. إذا أعطيتهم شيئاً فسيطلبون المزيد. أما إذا أنكرت الأمر عليهم فسيظهرون لك وجهاً قبيحاً ولساناً سليطاً ولا يتمنون الخير لك أبداً.

وتذكر إيفان ديمتريتش أقاربه ووجوههم التي طالما نظر لها في الماضي بشكل محايد، لكنها بدت له في هذه اللحظة كريهة ومقرفة.
قال لنفسه "إنهم أشبه بالزواحف".
بل حتى وجه زوجته كان كريهاً ومقرفاً، وراح قلبه يمتلئ غيظاً وغضباً وحقداً عليها.
واصل إيفان ديمتريتش حديثه مع نفسه "هي بالتأكيد لا تعرف شيئاً عن النقود، وهي شديدة البخل. لو حقاً ربحت تلك البطاقة فستعطيني مائة روبل وتغلق على الباقي".
ونظر إلى زوجته، ليس بابتسامته المعهودة، ولكن بغلّ وحقد. وبادلته هي الأخرى ذات النظرة الحاقدة الغاضبة. كانت هي أيضاً لديها أحلامها وخططها وتأملاتها، وفهمت تماماً طبيعة أحلام زوجها الذي سيكون أول من يبادر إلى سلبها أموالها. وكانت عيناها تقولان "نعم، جميل أن تحلم على حساب الآخرين، لكنك لن تنال شيئاً".

وفهم زوجها المعنى الحقيقي لنظرتها، وراح الحقد يغلي في صدره من جديد، ولكي يتجنبها سارع إلى الصحيفة كي يتأكد من رقم البطاقة.
- تسلسل 9499، رقم 46 وليس 26.

الحقد والأمل كلاهما تبخرا في الحال، وبدا البيت لهما صغيراً متهالكاً ومعتماً، والعشاء الذي تناولاه قبل لحظات لم يكن عشاء بالمرة وما يزال يجثم ثقيلاً على المعدة ويخنق الأنفاس، والأمسيات طويلة ومرهقة....
قال إيفان ديمتريتش وقد بدا متعكر المزاج:
- بحق الشيطان ما كل هذا؟ أينما أضع قدمي هناك فتات وقشور وفضلات. غرف البيت مليئة بالأوساخ ولم تنظف منذ دهور. المرء ببساطة قد يفضل الهرب على البقاء في هذا المكان. فلتأخذ السماء روحي. سأخرج وأشنق نفسي عند أقرب شجرة حور.





أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860 - 1904)
طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. بدأ تشيخوف الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء واستمر أيضاً في مهنة الطب وكان يقول " إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".









                                                                        

              
Twitter Bird Gadget