سنتزوج السبت القادم، قالها باولو ريجر. وسنرحل في مساء اليوم ذاته إلى نيويورك...
والتصقت ماري دي لورد بكتفه، وهي تبكي.
ـ مابك يا لوردينا؟ ألست سعيدة؟
ـ أجل يا باولو، ولكن....
ـ ولكن... ماذا؟
ـ أود أن أقول شيئاً.
ـ قولي يا حبيبتي.
ـ ليس الآن، بل هذا المساء يوجد كثير من الناس هنا. سنذهب في تزهه هذا المساء، وسأخبرك.
أمضى باولو طيلة بعد الظهر في حالة من نفاذ الصبر مجنونة. فأي شيء جدّي إلى هذا الحد كانت تزمع أن تخبره؟ لقد كان دائماً يوجس ريبة من سرٍ تكتمه عنه.
تلك الكآبة... وشعر ريجر بغمًّ شديدٍ يجتاحه. إنه يجزع من
ضياع السعادة التي صارت في متناول يده، من أن يرى نفسه من جديد غارقاً في الحيرة، بلا هدف.
وبكت ماريا دي لورد طيلة بعد الظهر... أن لا يغفر لها.
كانت الليلة أجمل منها في أي وقت آخر. ليلة عشاق كبيرة. قبل أن
يخرجا، تعانقا طويلاً في الدرج. وكان لديهما انطباع بأنهما يتعانقان لآخر مرة.
مشيا في الشارع وقتاً طويلاً دون أن ينبسا بكلمة. فهو كان يوجس
خيفة من الشيء الذي وعدته بإطلاعه عليه. وهي لا تملك الجرأة على إخباره بكل شيء. فحزم أمره وقال لها:
- تكلمي يا خطيبتي الحلوة...
وراحت تخبره وهي تجهش بالبكاء. إنها لم تعد عذراء. روت له حبها لأوسفالدو، وكيف استسلمت له ببراءة، دون أن تدري ما تفعل.
إنها تستحق الغفران. لكنها لم تخبره من قبل خوفاً من أن لا يغفر لها. فهل يغفر لها؟
أما هو، فقد انتابته رغبة وحشية في التلذذ بالألم فطلب منها أن تروي له كل ما جري بأدق التفاصيل.
وشعر بأن أضواء المدينة تنطفىء شيئاً فشيئاً، شاعت الظلمات في نفسه. وهربت السعادة. وغرقت المدينة في ظلام دامس.
تعلقت ماريا دي لورد بعنقه وراحت تعض شفتيه. وفجأة عاد النور بقوة إلى المصابيح الكهربائية. لكن نفس باولو ريجر ظلت غارقة في الظلمات.
قال لها وكأنه سكران:
- هيا بنا...
رافقها حتى بيتها. وتركها عند أسفل الدرج باكية. ومضى وهو يتنشق الهواء بقوة.
تتملكه رغبة في ضرب العابرين، في أن يبصق في وجه النساء،
في أن يتفوه بكلمات بذيئة.
اندهش أصحابه إذ رأوا سحنته. فسألوه عن السبب... " لا شيء، لا
شيء. دعوني وشأني يرحمكم الله".
طلب من الخادمة أن تأتيه بكأس " كاشاسا". شرب كثيراً. وفي آخر الليل قص على أصحابه حكاية شقائه وهو يبكي من شدة غيظه.
فسأله جيرونيمو:
- والآن ماذا تنوي أن تفعل؟
- وهل أدري! هل أدري! هل بقي لي رأس يفكر؟... لا أريد التفكير بما سأفعل!
ارتأى ريكاردو أن خير ما يمكن أن يفعل هو أن يتزوج. هذا أفضل
حل. لابد أن تكون ماريا دي لورد صادقة. فليتزوج. أوليس هو من أعداء التقاليد؟
فاعترض خوسيه لوبيز قائلاً:
- ليس بهذه السهولة يمكن التغلب على التقاليد. إن وراءها تسعة عشر قرناً. ياله من إرث رهيب...
- أنت على حق يا خوسيه. أنا لا أستطيع التغلب على التقاليد. أنا أشعر بأنها جديرة بحبي. ولكني غير قادر على الزواج منها. أنا حيوان، لأني أترك السعادة تهرب مني.
رافقوه إلى بيته. وبقي ريكاردو براس لينام عنده. لربما أقدم على عمل جنوني.
ظل الاثنان يتحدثان طوال الليل. عقد باولو ريجر العزم على زيارة
ماريا دي لورد في صباح غد والزواج منها. ولم لا؟ فما شأنه بماضيها؟ وظل يجاهد نفسه. ومع ذلك فهو يشعر باستحالة التغاضي عن الماضي، باستحالة اقتلاعه من ذاكرته.
لماذا أخبرته كل شيء؟ لماذا لم تدعه يجهل كل شيء.
كان بوسعهما أن يكونا في غاية السعادة.
في اليوم التالي مرّ عدة مرات أمام بيتها، لكنه لم يجرؤ على الدخول، فقال لخوسيه لوبيز:
- أنا رجل شقي... أنا بائس! . لقد قتلت سعادتي بيدي! لأني لم أتمكن من قهر التقاليد! لكم أنا معتوه، أبله.
والتصقت ماري دي لورد بكتفه، وهي تبكي.
ـ مابك يا لوردينا؟ ألست سعيدة؟
ـ أجل يا باولو، ولكن....
ـ ولكن... ماذا؟
ـ أود أن أقول شيئاً.
ـ قولي يا حبيبتي.
ـ ليس الآن، بل هذا المساء يوجد كثير من الناس هنا. سنذهب في تزهه هذا المساء، وسأخبرك.
أمضى باولو طيلة بعد الظهر في حالة من نفاذ الصبر مجنونة. فأي شيء جدّي إلى هذا الحد كانت تزمع أن تخبره؟ لقد كان دائماً يوجس ريبة من سرٍ تكتمه عنه.
تلك الكآبة... وشعر ريجر بغمًّ شديدٍ يجتاحه. إنه يجزع من
ضياع السعادة التي صارت في متناول يده، من أن يرى نفسه من جديد غارقاً في الحيرة، بلا هدف.
وبكت ماريا دي لورد طيلة بعد الظهر... أن لا يغفر لها.
كانت الليلة أجمل منها في أي وقت آخر. ليلة عشاق كبيرة. قبل أن
يخرجا، تعانقا طويلاً في الدرج. وكان لديهما انطباع بأنهما يتعانقان لآخر مرة.
مشيا في الشارع وقتاً طويلاً دون أن ينبسا بكلمة. فهو كان يوجس
خيفة من الشيء الذي وعدته بإطلاعه عليه. وهي لا تملك الجرأة على إخباره بكل شيء. فحزم أمره وقال لها:
- تكلمي يا خطيبتي الحلوة...
وراحت تخبره وهي تجهش بالبكاء. إنها لم تعد عذراء. روت له حبها لأوسفالدو، وكيف استسلمت له ببراءة، دون أن تدري ما تفعل.
إنها تستحق الغفران. لكنها لم تخبره من قبل خوفاً من أن لا يغفر لها. فهل يغفر لها؟
أما هو، فقد انتابته رغبة وحشية في التلذذ بالألم فطلب منها أن تروي له كل ما جري بأدق التفاصيل.
وشعر بأن أضواء المدينة تنطفىء شيئاً فشيئاً، شاعت الظلمات في نفسه. وهربت السعادة. وغرقت المدينة في ظلام دامس.
تعلقت ماريا دي لورد بعنقه وراحت تعض شفتيه. وفجأة عاد النور بقوة إلى المصابيح الكهربائية. لكن نفس باولو ريجر ظلت غارقة في الظلمات.
قال لها وكأنه سكران:
- هيا بنا...
رافقها حتى بيتها. وتركها عند أسفل الدرج باكية. ومضى وهو يتنشق الهواء بقوة.
تتملكه رغبة في ضرب العابرين، في أن يبصق في وجه النساء،
في أن يتفوه بكلمات بذيئة.
اندهش أصحابه إذ رأوا سحنته. فسألوه عن السبب... " لا شيء، لا
شيء. دعوني وشأني يرحمكم الله".
طلب من الخادمة أن تأتيه بكأس " كاشاسا". شرب كثيراً. وفي آخر الليل قص على أصحابه حكاية شقائه وهو يبكي من شدة غيظه.
فسأله جيرونيمو:
- والآن ماذا تنوي أن تفعل؟
- وهل أدري! هل أدري! هل بقي لي رأس يفكر؟... لا أريد التفكير بما سأفعل!
ارتأى ريكاردو أن خير ما يمكن أن يفعل هو أن يتزوج. هذا أفضل
حل. لابد أن تكون ماريا دي لورد صادقة. فليتزوج. أوليس هو من أعداء التقاليد؟
فاعترض خوسيه لوبيز قائلاً:
- ليس بهذه السهولة يمكن التغلب على التقاليد. إن وراءها تسعة عشر قرناً. ياله من إرث رهيب...
- أنت على حق يا خوسيه. أنا لا أستطيع التغلب على التقاليد. أنا أشعر بأنها جديرة بحبي. ولكني غير قادر على الزواج منها. أنا حيوان، لأني أترك السعادة تهرب مني.
رافقوه إلى بيته. وبقي ريكاردو براس لينام عنده. لربما أقدم على عمل جنوني.
ظل الاثنان يتحدثان طوال الليل. عقد باولو ريجر العزم على زيارة
ماريا دي لورد في صباح غد والزواج منها. ولم لا؟ فما شأنه بماضيها؟ وظل يجاهد نفسه. ومع ذلك فهو يشعر باستحالة التغاضي عن الماضي، باستحالة اقتلاعه من ذاكرته.
لماذا أخبرته كل شيء؟ لماذا لم تدعه يجهل كل شيء.
كان بوسعهما أن يكونا في غاية السعادة.
في اليوم التالي مرّ عدة مرات أمام بيتها، لكنه لم يجرؤ على الدخول، فقال لخوسيه لوبيز:
- أنا رجل شقي... أنا بائس! . لقد قتلت سعادتي بيدي! لأني لم أتمكن من قهر التقاليد! لكم أنا معتوه، أبله.
خورخي آمادو 1901- 2001 روائي، صحفي وسياسي برازيلي. واحد من أهم كتّاب البرازيل وأوسعهم شهرة. منذ أيام المدرسة بدأ الكتابة، وفي عام 1935 أنهى دراسة الحقوق في ريو دي جانيرو، وقد دخل حينذاك عالم الأدب وبدأ يشق طريق النجاح بمجموعة
من المؤلفات، منها:
- بلاد الكرنفال عام 1931 وكان له من العمر 19 عاماً.
- بلاد الكرنفال عام 1931 وكان له من العمر 19 عاماً.
- كاكاو 1933
وقد صار جورجي آمادو بعد انتشار أعماله هذه الكاتب المفضل لدى شعبه. والسر في هذا النجاح هو تمسكه ببعض الأشكال الاتباعية ممزوجة بالصعلكة وطعم التقاليد العريقة في مسقط رأسه، ولاية باهيا، التي كانت بحواضرها وريفها مسرح كل رواياته، وأناسها أبطاله الدائمين.
انغمس في النضال السياسي منذ شبابه المبكر، إذ انضم إلى الحزب الشيوعي البرازيلي في عام 1926.
يلقب بديكنز البرازيل المرشح الدائم لجائزة نوبل مات وهو يحلم بألا يحصل عليها.
"لن افرح اذا حصلت على جائزة نوبل" هذا هو تعليق أمادو عند ترشيحه كل عام لهذه الجائزة.
لم يفز بها رغم جدارته. يرجحون في الأوساط اللأدبية البرازيلية إن عدم فوزه بالجائزة يرجع الى حصوله على جائزة ستالين، وجوائز أخرى عديدة من البلدان الشيوعية السابقة، كان قد فاز بجائزة لينين الدولية/موسكو 1951،وجائزة ديميتروف بلغاريا/ 1986، وجائزة بابلو نيرودا التي تمنحها جمعية الكتاب السوفييت موسكو/ 1989.
لو ترى اليوم يا جورج امادو أينَ أصبحت التقاليد، وكيف أصبح مفهوم العذرية والبكارة
ReplyDeleteنسبة إلى سنه التي كتب فيها هذه الأقصوصة تعتبر محاولة جيدة من شاب يجتهد ليجد طريقه الخاص على درب الحداثة بعيداً عن التقاليد التي أسماها بالية، كشبَّان كل عصر طبعاً.