أكابر

مقطع من "أكابر" ل ميخائيل نعيمة

بقي أبو رشيد وأم رشيد حتى ساعة متأخرة من الليل يتداولان في أمر بالغ الأهمية, فما يستقران على رأي. فقد جاءهما من (الأستاذ) أنه قادم في الغد ليقسم البيدر, وإذا لابد من إعداد الغداء التقليدي. فماذا يعدان له ؟. لقد كان المرحوم والده رجلاً أمياً مثلهما, وكان كلما جاء لقسمة البيدر في أواخر الصيف يأبى

الجلوس إلا على التراب.. والغداء مهما أسرفت أم رشيد في البذخ ما كان يتجاوز بضع بيضات مقلية (بالقاورمة) مع لبن رائب وبصل وخيار وخبز مرقوق وقليل من عسل إن تيسر العسل.

و(الأستاذ) محامٍ يعيش في العاصمة عيشة الكبار, وزوجه كذلك من بنات الكبار, ولهما ابنة وحيدة في سن رشيد. ومن الأكيد أن الأستاذ لن يأتيهم وحده, بل سيصطحب زوجه وابنته وخادمته وسائق سيارته, فكيف يليق بأبي رشيد وأم رشيد أن يستقبلوهم ؟ وأين يجلسانهم. في خيمتهما المصنوعة من الأشجار؟ أيجلسانهم على الطراريح أم يمدان لهم فراشهما ليجلسا عليه ؟ وماذا يقدمان لهم ؟ وكيف ؟.. إنهم كبار لا يأكلون إلا بالسكاكين والشوكات وفي صحون صينية. ولاشيئ من ذلك عند أبي رشيد حتى ولا طاولة. وجل ما يملكانه من هذا بضعة صحون معدنية وإبريق من الخزف وبضع ملاعق خشبية.

تلك هي الأمور التي كانت تشغل بالهما تلك الليلة . فإن يتفقان على رأي حتى تقوم في وجهه صعوبات ومشكلات. هكذا اتفقا في البداية على أن يذبحا جديهما المدلل, فما إن سمع ابنهما رشيد بذلك حتى جن جنونه وأخذ يبكي ويلطم.. فقد كان الجدي أعز ما لديه في الدنيا. وكانت النتيجة أن نجا الجدي وجعل الديك فداءه. ولم يكن لأبي رشيد غير ذلك الديك وثلاث دجاجات. وهنا انتابت رشيد نوبة من البكاء والعويل والغصص والسعال حتى خشي والده عليه فقد كان يحب ديكه الأحمر ويطعمه من يده ويعتز بجماله وقوته ورخامة صوته, فكان أن عدل الوالدان عن ذبح الديك, وكان أن نام
ابنهما من بعد أن بلل مخدته بدموعه. ثم كان أن اتفق الوالدان في
النهاية على ذبح دجاجة من دجاجاتهما الثلاث. وإذا بلغ الزوجان تلك النهاية تنهدت أم رشيد وقالت بحرقة بالغة: ولدي؟ لقد نام والغصة في حلقه, وستعاوده الغصة عندما يستفيق في الصباح فيرى أننا قد ذبحنا دجاجة من الثلاث فهو يحبهن جميعاً. فقال أبو رشيد: سيبكي قليلاً ثم ينساها, وما العمل ؟ أيأتينا الأستاذ أول مرة ولانقوم بواجبه؟


_ دعنا منه يارجل . كل دمعة من عين ابني تساوي كل ما يملك, إن ظفره عندي بالدنيا.

_ لاتنسي يامرأة أننا شركاء, وأننا مدينون لصاحب الأرض بثلاثة آلاف قرش. فيجدر بنا أن نحسن استقباله وضيافته. ولو كنا نعرف أنه سيكون رفيقاً بنا كوالده لهان الأمر, ولكننا نجهل دخيلته.

_ رحمة الله على والده, فما كان يطالبنا حتى بالفائدة.

_ أي, رحمة الله على عظامه. لقد كان طيب القلب. ولكن الزمان تغير بسرعة يا امرأة.. فما ندري كيف يكون طالعنا مع الأبن.

_ قلبي يحدثني بأنه طالع خير.

وفي الصباح الباكر انصرفت أم رشيد لترتيب هندامها وتنظيف خيمتها وإعداد الغداء لضيوفها, وحلق أبو رشيد ذقنه ولبس أحسن سراويله, وانصرف إلى البيدر يكنسه, ويغربل ما تبقى من القمح دون غربلة ثم يطرحه على الكومة القائمة في وسط البيدر, ثم يدور حول الكومة آسفاً في قلبه لأنها لا تكون نصف ما كانت عليه في الموسم الماضي. لقد بخلت السماء بالمطر في أوانه وجاءت به في غير أوانه. فكان القحط وكانت هذه الكثرة الهائلة من الزؤان مع القمح..

عاد أبو رشيد إلى الخيمة فوجد زوجه منهمكة في تصفيف الصحون المعدنية والملاعق الخشبية ووجد ابنه يلاعب الجدي وكان يدعوه تحبباً (عفريت) فآناً يركض وراءه, وآونة يحمله, وأخرى يمضي يدور وإياه دورات كأنها الرقص الموقّع خير توقيع. ثم يترك الجدي وينادي الديك وقد سماه (سلطان) فيهرول سلطان إليه في الحال, ويأتيه بشيئ من الحب فيلتقطه من يده. ثم يدفعه الولد صعوداً في الهواء فيصفق تصفيق الهلع بجناحيه فيأخذه الولد بين يديه ويطبع قبلة على كل عين من عينيه ثم يرسله في سبيله..

قاربت الساعة الثانية. فكاد أبو رشيد وأم رشيد يقنطان من مجيء ضيوفهما. وإذا بهدير سيارة يأتي من بعيد, وإذا بالسيارة تقف على مرمى حجر من الخيمة. وإذا برجل وامرأة وخادمة وابنة صغيرة يترجلون من السيارة ويسيرون في اتجاه الخيمة. فيسرع أبو رشيد وأم رشيد للقائهم..

وعندما بلغ الجمع الخيمة بعد عناء وتأفف من قبل زوجة الأستاذ واعتذار مستمر من قبل أبي رشيد. وأم رشيد وقفت هذه الأخيرة بجانب الباب وانحنت وهي تفرك يديها بارتباك وتقول بصوت متلجلج:

تفضلوا .. ياعيب الشوم .. لاتؤاخذونا.. ما في شيْ من قيمتكم ..

فالتفتت إليها زوجة الأستاذ وقالت بازدراء ظاهر:

وإلى أين ؟ أين البيت ؟

واختنقت أم رشيد وأجابت بلسان متلعثم:

البيت ياست؟!.. هذا هو البيت يا ست, هذه الخيمة التي ترين هي بيتنا الصيفي في هذه الجبال.

وهنا تناول الأستاذ الحديث مخاطباً زوجته بالفرنسية:

هكذا يعيش هؤلاء الفلاحون في جبالنا في مثل هذه الخيام صيفاً, ومن بعد أن يجمعوا غلالهم ويزرعوا زرعهم للموسم القادم ينحدرون إلى قراهم... فأجابته زوجته بالفرنسية:

إنهم يعيشون في الصيف كالذئاب وفي الشتاء كالدببة. وأين تريدنا هذه العجوز أن نجلس ؟

فقال : في الخيمة.

فقالت الزوجة: في هذه الخيمة! وعلى الأرض ..لا.. لن أدخل هذه الخيمة على الأطلاق..

فقال الأستاذ : ولكنهم أعدوا لنا غداء ونحن جياع وابنتنا على الأخص, وإن نحن لم نأكل أعتبروا ذلك إهانة لهم.

فقالت: ليعتبروه كيفما شاؤوا .. أنأكل من هذه الصحون المعدنية وبمعلقة من خشب, ألعلك فقدت عقلك ؟

فقال لها: ما فقدت عقلي, ولكنني لا أستطيع أن أطعن هؤلاء الناس في الصميم.

وهكذا كان. فقد اعتذر الأستاذ لأبي رشيد, فنزل عذره عليهما نزول الصاعقة, وانعقل لسانهما.. وامتقع وجهاهما .. وأخيراً أخذ الأستاذ أبا رشيد جانباً وذكره بالدين, وطلب إليه أن يدفع الفائدة عن السنوات الخمس التي مرت. فانكمش قلب أبي رشيد وراح يفرك يديه فركاً عصبياً ويقول من غير أن يدري ما يقول:

ليضربني الله بعيني الاثنتين, ما نسيت الدين وسأدفعه إن شاء الله مع الفائدة .. ولكن حصتي من الموسم هذا العام لاتكفيني .. ولا
أدري من أين آتي بالمال لأبتاع حاجتنا من القمح.


فقال الأستاذ: تدبر أمرك بمعرفتك يا أبا رشيد. أما مالي فمن حقي أن يعود إلي.

فقال أبو رشيد: حقك .. نعم ياسيدي حقك. ولكن الله سبحانه لم يعطني موسماً يضاهي أتعابي ! فماذا أفعل ؟

فقال: ذلك شغلك. سأرسل إليك سائقي في الغد وهو يجري قسمة البيدر. أما الآن فنحن مضطرون إلى العودة..

في أثناء ذلك كانت ( نونو) مأخوذة بألعاب رشيد وجديه وديكه .. وعندما همّ والداها بالإنصراف التفتت إلى أمها وخاطبتها بالفرنسية: ماما. إني أريد هذا الجدي وهذا الديك فأجابتها أمها:

سيكون لك ما تريدين يا نونو .

وأمرت أبا رشيد أن يحمل الجدي والديك إلى السيارة, ففعل صاغراً وقلبه يكاد ينفطر غيظاً .. وإذ ذاك أدرك رشيد ما جرى واستفاق كمن كان في غيبوبة, وطفق يعدو في إثر السيارة بكل مافي ساقيه من قوة وسرعة وهو يصيح كالمذبوح:

عفريت يا عفـــــــــــــــــريت ! سلطان يا سلــــــــــــــطان!

وكانت السماء تسمع الصراخ والوادي يردد صداه.





ميخائيل نعيمة 1889 - 1988 مفكر عربي لبناني وهو واحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية وأحدث اليقظة وقاد إلى التجديد . فهو شاعر وقاص ومسرحي وناقد وكاتب مقال ومتفلسف
في الحياة والنفس الإنسانية وقد أهدى إلينا آثاره بالعربية والإنجليزية والروسية وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية.


ولد في بسكنتا في جبل صنين في لبنان وأنهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية فيها، تبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 حيث تسنّى له الاضطلاع على مؤلّفات الأدب الروسي، ثم اكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية (منذ عام 1911) وحصل على الجنسية الأمريكية. انضم إلى الرابطة القلمية التي أسسها أدباء عرب في المهجر وكان نائباً لجبران خليل جبران فيها. عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي. لقّب ب"ناسك الشخروب".
 
مؤلفاته:

في الدراسات والمقالات والنقد والرسائل وضع ميخائيل نعيمة ثقله التأليفي (22 كتاباً)، نوردها بتسلسلها الزمني:
كان ما كان 1932.
المراحل، دروب 1934.
جبران خليل جبران 1936.
زاد المعاد 1945.
البيادر 1946.
كرم على درب 1948.
صوت العالم 1949.
النور والديجور 1953.
في مهب الريح 1957.
أبعد من موسكو ومن واشنطن 1963.
اليوم الأخير 1965.
هوامش 1972.
في الغربال الجديد 1973.
مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب 1974.
مختارات من ميخائيل نعيمة وأحاديث مع الصحافة 1974.
رسائل، من وحي المسيح 1977.
ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول.

مجموعته الشعرية الوحيدة هي "همس الجفون" وضعها بالإنكليزية.

قصصه:
"سنتها الجديدة" - "العاقر" - "مرداد" - "أبو بطة" - "أكابر" "التي يقال أنه وضعها مقابل كتاب النبي لجبران.

1 comment:

  1. البسطاء سعداء بما لديهم... وطمع الأغنياء لا ينتهي عند ما لديهم، فهم يستكثرون أقل القليل في يد الفقراء، ولا بأس من سلبهم إياه إن كان في ذلكَ ارضاءاً لطمع وغرور طفل مدلل

    لله دركَ يا رشيد... كم ستعاني من سخافة هذه الطفلة التي أفسدها الدلال

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget