صمت ثقيل يلف الجميع إلا من أزيز المحرك الذي يشاغب الفضاء، السائق في وضع لا يحسد عليه متضايق من شيء ما، يقبض على صدره. بعد نهاية تنقلاته المكوكية بين المدينة وضواحيها، أوقفه شخصان في طريق عودته إلى بيته، وألحا عليه أن يوصلهما إلى ما وراء التل، ويقف حيث يبزغ القمر..
قلما سلك تلك الطريق لوعورتها فهي شبه خالية من السكان، وتزيدها الغابة المترامية على أطرافها وحشة مع حلول الظلام، لكن أمام إلحاحهما وإغرائه بمبلغ مالي لم يرفض طلبهما..
رجل وامرأة في منتصف العمر يجلسان وراءه جنبا إلى جنب، حدق فيهما من خلال المرآة..المرأة بدينة شيئاً ما، ترتدي ملابس سوداء مثل الرجل، وجهها يعلوه الشحوب وعيناها فارغتان، لولا اهتزازها وقبضة يدها على الحزام المتدلي لحسبتها من الأموات..أما الرجل قلما يرفع عينيه المركزتين باستمرار على يديه التي يفركهما بعصبية، فكلما التقت نظراتهما أخفضها السائق بسرعة رهبة من شرارتها، أحس بالجبن، وساورته الشكوك من العبارة التي بدأت تتردد في داخله على إيقاع غريب (قف حيث يبزغ القمر..).
الطريق كان وعراً زلقا بسبب الأمطار التي تساقطت في الصباح، كان يسوق حذراً رغم أنها كانت محفورة في ذاكرته، ويعرف جيداً كيف يجتاز المنعطفات التي تمتلئ بها.. مع بداية الغروب الذي بدا كئيباً يحمل بين طياته حزناً عميقاً، اجتاحته رهبة اقشعر لها بدنه، وتفصد العرق من مسامه، رغم أن الجو كان بارداً، وريح خفيفة تلج إلى الداخل من النافذة نصف الموصدة.. امتدت يده ليشغل المذياع، ويبدد هذا السكون الخانق.. ما إن حركها نحوه حتى أشار إليه الرجل بالنفي، أراد الكلام، لكن لسانه انعقد من الخوف، لهول نظراته القاسية..
سارت السيارة ومن فيها كقطعة من الظلام تمشي على هذه الطريق الخالية، كأنها الوحيدة التي تتحرك بهذا العالم..عند المنعرج الأخير بدا التل كشبح يسد الطريق، ورسمت أضواء السيارة الباهتة المسلطة عليه ظلاً عملاقاً بجانبه، أما الأشجار فقد بدت كوحوش رابضة تحرك الريح أغصانها كأيادي تبطش بالفضاء.. بدد الصمت زفرات المرأة المتتابعة كأنها عادت إلى الحياة، وتزحزح الرجل من مكانه كمن يريد أن يفلت من نفسه.. استولى الخوف والارتباك على السائق فهم بالعودة، إلا أن الرجل حط يده على كتفه قائلاً بصوت رصين:
- لا تخش شيئاً، لم يبق إلا القليل..
- لا تخش شيئاً، لم يبق إلا القليل..
أحس بشيء غير واضح وملتبس يكتنفه، وكأنه يسافر في أعماقه، ويكرر مشهداً للحظة عاشها من قبل.. هذه الرحلة الغامضة، هذان الوجهان بملامحهما المألوفة لديه..
فجأة بزغ القمر من وراء التل فأضاء المكان، أشار إليه الرجل بالوقوف، نزلا على مهل متشابكي الأيدي، لم يلتفتا إلى السائق الذي ظل يراقبهما حتى غابا عن بصره.. تنفس الصعداء بعد رحلة مضنية محفوفة بالخوف والقلق، اتكأ على المقود وهو يشحذ ذهنه ليتذكر وجهيهما، لحظة قفز من مكانه.. فالمرأة تشبه زوجته، والرجل هو نفسه..
بوشعيب عطران (1963 - ):
كاتب مغربي، شاعر وقاص، حاصل على دبلوم في شعبة تدبير الإعلاميات، عضو "الراصد الوطني للنشر والقراءة"، بدأ النشر سنة 2007 بعدة جرائد مغربية ومجلات عربية، كما نشرت له عدة نصوص قصصية وشعرية ببعض المواقع الإلكترونية والمنتديات الأدبية : "المحلاج"، "طنجة الأدبية"، "حريات"، "ناشرون".. وتعتبر المجموعة القصصية "مصائد النسيان" الإصدار الثاني بعد ديوانه "رعشات من رصيف الانتظار" الصادر عن دار العالمية سنة 2012.