في العاصفة

مناجاة من تأليف ميخائيل نعيمة


وإذ ذاك يهتف بي هاتف. فأذكر نيسان وما أهدى إليَّ، وتموز وما أهدى إليَّ، وأيلول وما أهدى إليَّ. فأجمع ما تبقَّى لي من قوَّة وأزحف في ظلمتي إلى حيث الكأس والقلب والعينان، وفي داخلي يأس صارخ: "أهذا كلُّ جناي من ربيعي وصيفي وخريفي، يا ألله؟!"

وأُقبِلُ على الكأس فأجرعها ولا أبقي فيها ثمالة. وتجري قطراتُها جَرْيَ السحر في بدني، فأحسها في عروقي دمًا سخينًا وقويًّا.

وأظفر بالقلب النابض فألتهمه بشراهة. وللحال أشعر بنشاط ما شعرت قبلُ بمثله قط، فأراني قديرًا على امتطاء صهوات العواصف.

وأقع على العينين المطبقتين فأشعلهما بالثقاب الباقي لديَّ. وفي لمحة تشرق عيناي بنور لا عهد لهما بنظيره، فينحسر سقفُ بيتي من فوق رأسي، وتتقلَّص جدرانُه، ثم تذوب في فضاء طافح بالنور، عابق بالأريج.

وإذا بالبساط الأبيض سهلٌ فسيح، فسيح. وإذا ببحور الدم مروجٌ تموج، وتموج بالأخضر وبالأصفر وبالأحمر وبكلِّ ألوان الأرض والسماء. وإذا بمخلوقاتك المشتبكة منذ لحظة في عراك الموت والحياة تتعانق عناق الأخوَّة الأبدية في أحضان أبوَّتك السرمديَّة، وبينها هرَّتي البيضاء، تحيط بها جماعةٌ آمنة من الفئران والجرذان.


وإذا بك، يا ألله، في وسط الكلِّ، ومن حول الكلِّ، ومن فوق الكل، تغمرهم ببسمة من بسماتك، وتُحْييهم بنسمة من نسماتك، وتهمس في كلِّ أذن من آذانهم:

"مَنْ لم يرتوِ بدموعه لن يرتوي إلى الأبد"

"مَنْ لم يتغذَّ بقلبه لن يشبع إلى الأبد"

"ومَنْ لم يُحرِقْ عينيه لن يبصر إلى الأبد"

والذين ما سمعوا وما فقهوا اليوم سيسمعون – لا شكَّ – في الغد ويفقهون.

فما أجملك

وما أعدلك

وما أكملك

يا ألله! 



ميخائيل نعيمة 1889 - 1988 مفكر لبناني وهو واحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية وأحدث اليقظة وقاد إلى التجديد . فهو شاعر وقاص ومسرحي وناقد وكاتب مقال ومتفلسف
في الحياة والنفس الإنسانية وقد أهدى إلينا آثاره بالعربية والإنجليزية والروسية وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية.

ولد في بسكنتا في جبل صنين في لبنان وأنهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية فيها، تبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 حيث تسنّى له الاضطلاع على مؤلّفات الأدب الروسي، ثم اكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية (منذ عام 1911) وحصل على الجنسية الأمريكية. انضم إلى الرابطة القلمية التي أسسها أدباء عرب في المهجر وكان نائباً لجبران خليل جبران فيها. عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي. لقّب ب"ناسك الشخروب".
 

مؤلفاته:

في الدراسات والمقالات والنقد والرسائل وضع ميخائيل نعيمة ثقله التأليفي (22 كتاباً)، نوردها بتسلسلها الزمني:
كان ما كان 1932.
المراحل، دروب 1934.
جبران خليل جبران 1936.
زاد المعاد 1945.
البيادر 1946.
كرم على درب 1948.
صوت العالم 1949.
النور والديجور 1953.
في مهب الريح 1957.
أبعد من موسكو ومن واشنطن 1963.
اليوم الأخير 1965.
هوامش 1972.
في الغربال الجديد 1973.
مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب 1974.
مختارات من ميخائيل نعيمة وأحاديث مع الصحافة 1974.
رسائل، من وحي المسيح 1977.
ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول.

مجموعته الشعرية الوحيدة هي "همس الجفون" وضعها بالإنكليزية.

قصصه:
"سنتها الجديدة" - "العاقر" - "مرداد" - "أبو بطة" - "أكابر" "التي يقال أنه وضعها مقابل كتاب النبي لجبران.

No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget