أهل الكَرامات فيهُم عَلامات*



 
كان الشّيخ "أبو علي سياغه" من أفاضل الرجال. ولكنّه بالإضافة إلى ذلك كان "صاحب شوفة"، أي أنّه كان صاحب خبرة بمعرفة الناس، فإذا رأى رجلًا عرف حالًا ما إذا كان صادقًا أم كاذباً، ذكياً أم غبياً، كريماً أم بخيلاً، وهذا ما عُرف بعِلم الفراسة عند الأقدمين.
وحدث يوماً أن كان الشيخ أبو علي متوجِّهاً على قدميه من حاصبيّا إلى مرجعيون، وكان ذلك قبل عهد السيّارات.
وعند وصوله إلى مفرق سوق الخان، التقى رجلًا يركب حماراً قادماً من المفرق الآخر وفي نفس الاتجاه، فحدَّق في وجهه وقال: شوفتي أنّه ابن حرام.
إلّا أنّ الرجل، ما إن اقترب من الشيخ حتّى ترجّل عن حماره و"صابح" الشيخ آخذًا يمناه بكلتا يديه. وبعد أن قبّلها، سأل الشيخ أين يقصد، فقال: جديدة مرجعيون.
فهتف الرجل: ومن حسن حظّي أن أكون أنا كذلك ذاهباً إليها.
ودعا الشيخ إلى الركوب على الحمار.
قال الشيخ بنفسه: كيف يمكن أن تصدر هذه البادرة النبيلة من ابن حرام؟

وأعاد النظر في وجه الرجل فبدت له إمارات قلّة الشرف واضحة جليّة، فاعتذر عن عدم ركوب الحمار، وقال إنّه يفضّل المشي على مهله.
فصاح الرجل: ولكن هذا مستحيل لأنّه لا يليق أن أركب أنا وتمشي أنت، فقد يمرّ من يعرفنا وينسب إليّ قلّة الحَياء.
فركب الشيخ أخيراً على الحمار مكرهاً، بعد أن تضايق من إلحاح الرجل.
وكان كلّما أراد أن يهمّ بالنزول عن ظهر الحمار، اعترضه الرجل وقال: وحقّ جميع الأنبياء، إذا نزلت عن الحمار، مزّقت بطنه بخنجري هذا، لأنّ ذلك أهون عليّ من أن أراك ماشياً في هذا الحرّ الشديد.
فيلبث الشيخ راكباً.

وفيما انصرف الرجل إلى التكلّم عن تقواه، وعن إكرامه واحترامه لرجال الدين، كان الشيخ قلقاً مشغول الخاطر: شوفتي بالرجل إنّه ابن حرام، إلّا أنّ سلوكه معي يدلّ على أنّه رجل فاضل، فما العمل إذن بهذه المشكلة؟ فإذا ثبتت فضيلة الرجل، توجّب عليَّ أن أعيد النّظر بالمقاييس الّتي اعتدت أن أقيس الناس بها، لأنّي أكون إذنْ قد أخطأت في حكمي على هذا الرجل، وربّما على كثيرين سواه. وهذه مصيبة كبرى بالنسبة إليَّ، أخشى معها أن أخسر ثقتي بنفسي.
وبلغا أخيراً جديدة مرجعيون، حيث ترجّل الشيخ وودّع الرجل بحرارة شاكراً له صنيعه، ومشى في سبيله. إلّا أنّه لم يبتعد قليلًا حتّى ناداه الرجل قائلًا: يا حضرة الشيخ لم تدفع لي أجرة الحمار. فرجع الشيخ وقال له: عفواً كم تريد؟
قال: نص مجيدي.
فقال الشيخ: ما بيصحّ إلّا الصحيح، هذا مجيدي كامل، ولّا خابت شوفتي فيك.



سلام الراسي 1911- 2003
ولد في قرية إبل السقي قضاء مرجعيون.
يلقبه أهل الجنوب بـ "أبو علي". هو أحد من أعمدة التراث الحكائي. وتراث الأمثال والفلكلور وكل ما يخص التجربة الشعبية اللبنانية وتجربة المنطقة اللبنانيّة الريفية الجنوبية بشكل عام.
وقد عُرِف سلام الرّاسي بلقب "شيخ الأدب الشّعبي" وتمتاز كتاباته بسلاسة الأسلوب وقدرة المزج ما بين اللغة الفصحى والمحكيّة.


* كتاب لئلا تضيع...
 
مؤلفاته: · لئلا تضيع 1971
· في الزوايا خبايا 1974
· حكي قرايا وحكي سرايا 1976
· شيح بريح 1978
· الناس بالناس 1980
· حيص بيص 1983
· الحبل على الجرار 1988
· جود من الموجود 1991

· ثمانون 1993
· القيل والقال 1994
· قال المثل 1995
· الناس أجناس 1995
· أقعد أعوج وإحكي جالس 1996
· من كل وادي عصا 1998
· السيرة والمسيرة 1998
· ياجبل ما يهزك ريح 2000
· أحسن أيامك، سماع كلامك 2001
· حكايات أدبية من الذاكرة الشعبية 2002


No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget