لم تكن لي مشكلة قبل أن أصل سن الثلاثين.
كنت إنساناً عادياً، نلتُ دبلوم التجارة، وعينتُ في وظيفة حكومية، ووصلتُ إلى مرتب معقول... خمسة وعشرين جنيهاً في الشهر، وكنتُ أقيم وحدي في شقة صغيرة بالدور الأعلى من عمارة كبيرة بميدان المحطة، وليس لي أطماع، ولا أضايق أحداً ولا يضايقني أحد، أو على الأصح، لا أحس بأحد، ولا يحس بي أحد. وكنت أفكر في الزواج!
ثم حدث أن جاء زميلي في العمل، الأستاذ عبد العظيم عبد المقصود وهو يحمل في يده نظارة معظمة كبيرة... نظارة كبيرة جداً... ليست كالنظارة التي يحملها هواة سباق الخيل، ولكنها نظارة حربية مما يستعملها الضابط في الميدان... أنها أقرب إلى سلاح حربي منها إلى مجرد نظارة، وهى بعين واحدة، تطول وتقصر، ولها أرقام خاصة تضبط بها عدستها ولها حامل تثبتها عليه.
أبهرتني هذه النظارة... لا أدري ما حدث، ولكني أمسكت بها، وأحسست أني أستطيع أن أكون أسعد إنسان في العالم لو استطعت أن أملكها.
بدأ الأستاذ عبد العظيم عبد المقصود يشرح لي كيف تعمل هذه النظارة. ثم ثبتها أمام الشباك، وضبط عدستها، ونظر فيها ثم صاح: تعالى شوف الست اللي بتطبخ دي !.....
وضعت عيني على النظارة وقلت للأستاذ عبد المقصود: دي فين الست دي؟ أشار الأستاذ عبد المقصود إلى عمارة بعيدة في شارع الساحة وقال: في العمارة اللي هناك.
ازدادت دهشتي، إننا ننظر إليها من نافذة الوزارة في ميدان لاظوغلي...أي أن بيننا وبينها أكثر من أربع محطات ترام، ورغم ذلك فأنني أكاد ألمسها بيدي!
عدت أضع عيني على النظارة... إني أرى المنديل الأخضر الذي تربط به رأسها، والجلباب الأصفر الملتصق بجسدها، وأرى الشبشب في قدمها... لونه أحمر... بل إني أستطيع أن أرى الطعام الذي تطبخه... إنها تطبخ بامية!... ياهوه ....
رفعت عيني عن النظارة وأنفاسي مبهورة، وقلت لعبد المقصود بصوت متهدج: أتبيعها؟
والأستاذ عبد المقصود رجل صعب، ظل يتدلل عليّ، وأنا أرجوه... بل أتوسل إليه، إلى أن قبل أن يبيعني النظارة بعشرة جنيهات، أدفعها له على قسطين، كل قسط خمسة جنيهات.
حملت النظارة كأني أحمل كل حياتي، وذهبتُ بها إلى غرفتي في أعلى العمارة الكبيرة بميدان محطة مصر. ثبتّها على سور الشرفة، وقضيت بقية اليوم وأنا أحاول أن أضبط عدستها. يااااه!... إني أستطيع أن أرى بها حتى شارع 26 يوليو وأنا أسكن محطة مصر! أستطيع أن أرى ما يدور داخل حجرات المحكمة العليا، وما يدور في ملهى سيروس الذي يقع فوق سينما ريفولي!
أخذت أوجه النظارة إلى داخل البيوت التي تحيط بي من خلال نوافذها!
إني أرى في النظارة سيدة شابة وبجانبها رجل يتناول العشاء في بيتها، لعل الرجل زوجها... فهي تميل عليه، وتضع له الطعام في فمه... ثم تقبله. وهو يستدير لها ثم يحتضنها بذراعيه ويبادلها القبل ثم يعود إلى تناول العشاء.
و... ما هذا!!! فتاة تخلع ثيابها! تتبعتها إلى أن اختفت من الغرفة، لعلها دخلت الحمام، ثم عادت وارتدت ثوب النوم واستلقت في فراشها، وأخذت تقرأ... عنوان الكتاب (حبي الوحيد)... ثم أطفأتْ النور!
و رجل عجوز... يبدو أنه يوناني، يتناول عشاء مكوناً من زيتون ومرتديلا، وبجانبه زوجته...عجوز مثله...هي لا تأكل، ولكنها تتكلم... تتكلم كثيراً هذه المرأة!
ظلت عيني فوق النظارة حتى الساعة الرابعة صباحاً، عندما أطفئت كل الأنوار ولم يعد هناك شيء أراه.
نمت... لعلني لم أنم...إنما أغمضت عيني لأستعيد مناظر الناس الذين رأيتهم، الناس في حياتهم الخاصة، في أدق تفاصيل حياتهم... إن الناس في حياتهم الخاصة... في أدق تفاصيل حياتهم، مخلوقات عجيبة... ومثيرة، غير الناس الذين تلتقي بهم في الشارع!
فتحت عيني في الساعة السابعة ملهوفاً وجريت إلى الشرفة إلى النظارة... وعدت أرى الناس، يتثاءبون... يغسلون وجوههم... بعضهم مكشر، وبعضهم مبتسم.
هل تعرف من بين مائة شخص لا تجد واحد ينزل من فراشه بنفس الطريقة التي ينزل بها الأخر.
وهل تعرف أن ليس هناك زوج يقبِّل زوجته عندما يفتح عينيه في الصباح، بل أول ما يفعله هو أن يدير وجهه عنها! إنها حياة عجيبة... مثيرة، حياة الناس الخاصة!
تنهدت إلى أن وصلت الساعة إلى الثامنة... لقد تأخرت عن موعد العمل، للمرة الأولى في حياتي أتأخر.
ارتديت ثيابي سريعاً، وذهبت للوزارة. لم أقبل على التحدث مع زملائي كعادتي، إنما بقيت سارحاً في الحياة التي رأيتها خلال النظارة، بل إني لم أستطع أن أحضر ذهني في دوسيه واحد من الدوسيهات المكومة أمامي، ولم أؤد عملاً!... بقيتُ أتعجل ساعة الانصراف... ثم انطلقتُ كالمجنون عائداً إلى النظارة!
ومرت الأيام... وحياتي كلها محصورة في هذه العدسة الضيقة التي أطل منها على حياة الناس الخاصة. وقد عرفت هؤلاء الناس كما لم يعرفهم أحد، وكما لا يتمنون أن يعرفهم أحد. عرفتهم، حتى كأني أصبحت أعيش معهم. أعرف موعد عودة كل منهم... وأعرف ماذا يأكل كل منهم... وكم بدلة أو كم فستان في دولابه أو دولابها... وأعرف مزاج كل منهم... وأعرف شذوذ كل منهم. أعرف... وأعرف... آه لو ذكرتُ كل ما أعرفه عن هؤلاء الناس. لو عرفوا كل ما أعرفه عنهم... لفضلوا أن يقتلوني!
كنت ألتقي بعضهم أحياناً في الطريق، فأهم أن أصافحه... أحس كأنه قطعة من حياتي. إني أراه كما لا يرى نفسه. كما لم تره أبداً امرأته... وأحياناً كنت أرى واحد منهم يسير محترماً مهاباً... فأضحك... لقد رأيته بالأمس تحت قدمي امرأة. وأرى فتاة تسير في دلال ورقة، فأضحك... لقد رأيتها بالأمس حيوانة شرسة مع أهلها!
مرت الأيام... ولم يعد لي سوى النظارة... لا أصدقاء، ولا أقارب، ولا إحساس، ولا مزاج...لا شيء...لا شيء. كل شيء في هذه النظارة.
ثم مرضت، ولم أستطع أن أقوم من فراشي لأطل من النظارة... تعذبت كثيراً. انتابتني نوبة هستيرية كالتي تنتاب مدمن المورفين عندما يعجز عن الوصول إلى المورفين. لكن النوبة خفت في اليوم التالي... وحلت محلها آلام المرض... أنا مريض جداااً...
وأنا وحيد في غرفتي، اكتشفتُ شيئاً كنت قد نسيته، اكتشفت إني لم أتزوج! واكتشفت شيئاً آخر، اكتشفتُ إني أصبحت من الموظفين المنسين، ولم أنل ترقية ولا علاوة منذ أكثر من عشرين سنة! نعم... لقد نسيت نفسي... نسيت حياتي الخاصة، وأنا ملهوف على تتبع حياة الناس... والسبب؟!... السبب هو هذه النظارة!
انتابتني ثورة على النظارة، يجب أن أتخلص منها... يجب أن أحطمها... يجب أن أعيش حياتي أنا، لا حياة الناس.
تحاملت على نفسي، وقمت من فراشي أحمل آلامي، اندفعت إلى الشرفة، وأمسكت بالنظارة بكلتا يديّ لألقى بها إلى الشارع... لأحطمها.
ولكني قبل أن أنزعها من مكانها وضعت عيني على العدسة الصغيرة ولم أرفعها.
إحسان عبد القدوس
كاتب وروائي مصري، تحولت أغلب قصصه إلى أفلام سينمائية.
تُرجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة. والدته روز اليوسف مؤسِسة مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير. أما والده فهو محمد عبد القدوس فقد كان ممثلاً ومؤلفاً مصرياً.
أشهر أعماله التي تحولت إلى أفلام سينمائية:
الراقصة والسياسي
يا عزيزي كلنا لصوص
لا تسألني من أنا
أرجوك أعطني هذا الدواء
أين عقلي
بئر الحرمان
أبي فوق الشجرة
النظارة السوداء
البنات والصيف
أشهر أعماله التي تحولت إلى دراما تلفزيونية:
لن أعيش في جلباب أبي
لا تطفئ الشمس
دمي ودموعي وابتسامتي
شيء في صدري