مأمور المحطة

 قصة من الأدب الألماني ل اميليو كارير.
ترجمة: د.سعدي الدبس


كان الدكتور غريمل الأخصائي المشهور بأمراض الأطفال كثيراً ما يكون شارد الذهن، حتى أنه في إحدى المرات، عندما كان يركب قطار الخامسة وأربعين دقيقة بعد منتصف الليل، راجعاً من إحدى زياراته في الشمال، وقع ضحية هذا الشرود، وجره حظه السيء إلى قضاء ليلته في إحدى القرى النائية "أنتانون".

كان البرد في تلك الليلة قارصاً جداً، وبما أن القطار توقف في محطة "انتانون" لمدة خمسة عشر دقيقة، خطر على بال الدكتور غريمل أن يتناول فنجان قهوة مع الحليب، فنزل من القطار دون

أن يرافقه أحد، وتوقف لحظة عند بائع الصحف لشراء مجلة تساعده قراءتها على وقت الانتظار الممل، ثم توجه إلى مقهى المحطة الذي كان خالياً تماماً من الضيوف، إلاّ من صاحبة المقهى التي جلست ملفوفة بالسواد بجانب المدفأة، وكأنها تريد أن تقهر البرد القارص. ولم تنتبه باديء الأمر إلى دخول الضيف، وما أن شعرت بوجوده حتى نادت النادل بأعلى صوتها، الذي جاء مسرعاً يمسح عينيه المتورمة من شدة النعاس. وقد خيّل للدكتور غريمل وكأن المقهى مليءٌ بحيوانات متذمرة، وتمنى لو أن الزمن لا يقف عن المسير حتى لا يضطر إلى قضاء ليلته هناك، ولكنه عندما رفع عينيه إلى ساعة الحائط الكبيرة، سمع ضرباتها الواضحة تملؤ سكون المكان.

أخذ يشرب قهوته وهو يقلب صفحات المجلة، وفجأة اندمج في قراءة إحدى المقالات المشوقة، حتى أنه لم يسمع صفارة إعلان

بدء سفر القطار، أو ربما أن مأمور المحطة لم يعطِ الإشارة الخاصة لذلك. فعندما انتهى الدكتور غريمل من القراءة كانت الساعة تشير إلى تجاوزها سبع دقائق من زمن الانتظار، فنادى النادل الذي كان نائماً في إحدى زوايا المقهى، والذي احتاج إلى بعض من الوقت قبل أن يلبي النداء، ثم غادر المقهى، وعندما وصل إلى رصيف المحطة تجهم وجهه، لأنه لم يدري كيف أضاع القطار.

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير، ولم يتواجد في المحطة غير الدكتور غريمل، وحتى الصباح لنِ يأتي قطار آخر، فاستسلم لقدره، وجلس على أحد المقاعد، حيث ساد المكان الظلام الدامس والبرد الشديد، ما عدا من مصباح كهربائي كان يرسل نوراً خافتاً
من سقف المحطة لم يستطع القراءة عليه، فأشعل غليونه، وأخذ ينتظر على مذاق التبغ موعد قطار الصباح بعد أربع ساعات قادمة. وبينما كان مسترخياً في جلسته هذه رأى النادل يتحدث مع مأمور المحطة، وبين حين وآخر كانوا يشيرون إلى المقعد الذي كان يجلس عليه، ثم توجه مأمور المحطة نحوه.

يا دكتور "إنني أبحث عنك، تعال معي من فضلك، إن حفيدتي ترقد على فراش الموت". فنظر الطبيب إلى وجه الرجل مستغرباً، حيث أنه لم يشاهده من قبل، فسأله "هل تعرف من أنا".

"لقد قلت لك إنني أبحث عنك في كل مكان، وإنني متأكد تماماً، بأنك الشخص الوحيد الذي يستطيع إنقاذها، فأرجو أن تتبعني من فضلك، إن كل لحظة ثمينة".

فأسرع الدكتور غريمل خلف الرجل، وكأنه كان فرحاً لفقدانه القطار، وكأنه يبارك تلك الليلة التي ستدفعه إلى إنقاذ حياة طفلة من مخالب الموت، رغم تعبه، فأنار النادل الذي رافقهم الطريق مشعلاً لينير لهم ظلام الطريق الذي ساد المكان. أما مأمور المحطة فقد خطا أمامهم بخطوات واسعة بسهولة، رغم كبر سنه، ولم ينبس بكلمة واحدة.

بعد نصف ساعة من المسير وصلوا إلى مقبرة القرية التي أُحيطت بأسوار بيضاء، ظهرت بكل وضوح تحت نور المشعل، وعلى طرفها كان يقع كوخ صغير بانت عليه علامات البؤس والفقر،
وأحيط بصمت موحش. فدخل مأمور المحطة العجوز أمامهم، مشيراً لهم أن يتبعوه، وفي الداخل كانت علامات الفقر أكثر شدة، إذ جلست إمرأة تلبس السواد على حافة سرير الطفلة المريضة، بينما سرير آخر كان في الطرف الآخر من الغرفة، وبين السريرين عُلّقت صورة فوتغرافية على الحائط لمأمور المحطة العجوز.

كان وجه المريضة شاحباً يميل إلى الزرقة، وعلى شفتيها ظهرت ملامح الموت، فمما لا شكَ فيه كانت حالة الطفلة خطيرة جداً. فسأل الدكتور غريمل المرأة بالسواد إذا كانت الطفلة ذهبت لطبيب ما، فأجابت، "كلا يا سيدي، إنها ومنذ البارحة ترقد في مثل هذه الحالة، وقد خُيّل لي، في بداية الأمر، أنها مصابة بالحمّى، ولكن هذه الليلة، وقبل ساعة من الآن، ازدادت حالتها خطراً، حتى اعتقدت بأنها ستموت بين يدي".

– "لقد جئت إذاً في الوقت المناسب، وسأعمل لها عملية في الحنجرة الهوائية، ولحسن الحظ يوجد معي الأدوات الضرورية
لذلك، لأنني كنتُ قبل ذلك عند مريضة مصابة بنفس الداء". وفي نفس الوقت أخذ الدكتور غريمل يفكر في المقال الذي قرأه في مقهى المحطة، حيث وجد نفسه يتفق مع كاتب المقال، بأن القدر ليس لعبة في أيادي الأيام. وبينما كان يشق الحنجرة الهوائية، أراد من مأمور المحطة أن يحضر له بعض الأدوية الضرورية من صيدلية القرية، غير أنه لم يجد غير النادل، فقال له، "أخبر من فضلك الرجل الطيب الذي رافقني إلى هنا أن يُحضر لي قائمة هذه الأدوية"، فنظرت المرأة بالسواد، وقد ظهرت على وجهها علامات إستفهام، ثم قالت، "لا أدري يا سيدي من رافقكِ إلى هنا، فأنا وحيدة في هذا المنزل الذي يبعد حوالي ميلين من القرية، ولسوء الأحوال الجوية، لم يمر أحد اليوم من هنا".

– إن جد الطفلة هو الذي طلب مني أن أحضر إلى حفيدته المريضة، ثم نظر إلى النادل، وقال له، "أليس كذلك"، ولكن النادل أجابه مستغرباً، "إنني لم أرى أحداً، يا سيدي، كل ما أعرفه، أنك نطقت ببعض الكلمات الغامضة، وخيل لي أنك تبحث عن مكان للنوم، وبما أنك لم تعرف الطريق، أنرتُ أمامك مشعلاً، ورافقتك إلى هناك".

– "إذا كان الأمر كذلك، فكيف عرفت، أن في هذا المنزل بالذات مريضة تحتاجني"، ثم أشار إلى الصورة المعلقة على الحائط، وقال، "إن هذا الرجل هو الذي رافقني إلى هنا".

فنظرت المرأة إلى الطبيب، وكأنها لم تفهم شيئاً مما قيل، وأجابت بصوت مرتعش، "يا سيدي، إن هذه الصورة هي صورة والدي، وقد كان بالفعل مأموراً للمحطة، ولكنه توفي قبل خمسة أعوام في مثل هذا اليوم".

فنظر الدكتور غريمل إلى الصورة مرة أخرى، المعلقة بين السريرين، وكأنها تراقب قدر العائلة، ثم تمتم لنفسه بعض الكلمات، "إنني متأكد تماماً بأن هذا الرجل هو الذي رافقني إلى هنا، وبما أنه توفي قبل خمسة أعوام، فإنني متأكد أكثر من أي وقتٍ مضى، بأنه أحضرني إلى هنا لإنقاذ حياة هذه الطفلة.

لم يفكر الدكتور غريمل مطلقاً بمغادرة القرية وبأخذ قطار الصباح، بل ظل عدة أيام عند الطفلة حتى تحسنت حالتها، وكأنه أراد من ذلك أن يقدم واجبه أمام الرجل الذي رافقه إلى هذا البيت الذي أصبح قريب منه طيلة المدة التي قضاها في "أنتانون".

1 comment:

Twitter Bird Gadget