بقلم الكاتب الكوبي : كارلوس لوفيرا
ترجمة : ساسي حمام
امتلات
زوايا الشارع ذات صباح جميل بمعلقات ملطخة بألوان صارخة. معلقات تُعلِمُ
السكان بالخبر الهام الذي انتظروه سنة ونصف. إنها زيارة السيرك في دورة
صاخبة لايرقى اليها الشك: قدوم السيرك المكسيكي الكبير بكل عناصره: باصق
النار الهندي الذي هز المتفرجين المثقفين في انكلترا وفرنسا وبقية دول
أوروبا و" هوكوكين " أقوى امرأة في العالم تستطيع أن تحمل الاثقال بأسنانها
فقط وفيل البرازيل المسن والمعيز والزنجيان الصغيران اللذين قلدهما صاحب
الجلالة ملك اسبانيا ميدالية ذهبية.
"السيرك … السيرك …" نداء تردد في كل بيوت القرية وانتشر في كل الارجاء
فوصل الى مصنع السكر على ضفة "ساغالاتيكا" ومعمل القرميد والمنازل
المحيطة به. النداء الصاخب المرح مثل أنشودة تصدح بها الابواق يتعالى في
منازل القرية وفي معمل السكر وفي معمل القرميد يثير همسات القرويين التي
لاتنتهي وتثير في نفوس الاطفال أحلاما فياضة. لايمكن للاطفال أن يتخلفوا
ولو عن جزء بسيط من الحدث العظيم: استعراض العربات والفرق عند منتصف
النهار ونصب الخيمة في ساحة الكنيسة والفرجة على الجوقة الاستعراضية في
المساء يتقدمها الاكورديون والطبل يتبعها فيل البرازيل الذي فقد أنيابه.
هنا تدور عقول الصبيان: البعض يفكرون في حيلة ليضمنوا مكانا والبعض الاخر
اتفقوا على الخروج من المنازل ساعة الذهاب الى المدرسة دون تأخير مخبئين
كتبهم تحت قمصانهم حتى يتحلقوا مع المتفرجين في الشارع الملكي… يقود الاطفال
الى خارج القرية أكثر الاطفال جرأة: " براكوتاي" اليتيم الذي يرعاه الكاهن.
"براكوتاي" طفل
شقي يقوم بشعائر القداس متهجياً اللاتينية الغريبة التي علمه إياها الكاهن،
يمكن أن يعمل صباحاً كاملاً في جمع ونقل أثاث عائلة تريد الانتقال الى مسكن
آخر، يشق الحقول عند منتصف الليل دون خوف ملبياً دعوة الداية التي تسكن قرب
معمل القرميد لمعالجة جارة ألم بها مرض مفاجئ أو ظهرت عليها أعراض الطلق
ويستطيع بمهارة أن يثقب بحجر ثقبا كقرص الشمس في واجهة دكان العطار
البلورية. "براكوتاي" هو الاقوى والامهر فهو يتسلق في لمح البصر شجرة جوز
الهند ويستطيع أن يفك بأنفه الثورين الاماميين المربوطين الى عربة غائصة في
الوحل، يصطاد الطيور بمهارة ويحطم مصابيح نجفة بمقلاع ويجني ثمار شجرة
تعدت أغصانها السياج وهو الاسرع والامهر في قطع أعرض نهر سباحة دون توقف.
بفضل
هذه الاعمال انتزع "براكوتاي" الاعجاب وافتتن به الاطفال الذين يأتمرون
بأمره مستعينا ب " ميغيل " اليتيم هو الاخر الذي تبناه أصحاب معمل السكر وهو
كذلك منافسه وصديقه.
لايستطيع
شقيا القرية البقاء ساكنين وهما يترقبان ضجة بعيدة تشي بقرب عربات. لقد
فكرا منذ وصولهما الى"أوجوـ دي ـ أغا" في استغلال جرأتهما وحيل القرويين
الاشقياء وموهبتهما في التخطيط ونشر أتباعهما في الحقول المجاورة لجني الثمار وقلع البطاطا الحلوة وجمع بيض الدجاج. تناهى الى سمعهما الضجيج الذي طالما ترقباه فتخليا عن كل المشاريع.
- ألاتكون الشرطة ؟ سأل أصغر الصبيان وأقلهم تجربة.
- إنه ضجيج العربات دون شك !.. قال "براكوتاي" بكل ثقة ناظراً في كل الاتجاهات باحثاً عن "ميغيل" الذي قال موافقاً:
إنها العربات … ثم صاح مبتهجاً … الجوالون…
صاح
الجميع "الجوالون" واندفعوا وراء "براكوتاي" ليسبقوا العربات التي تئز
وتترنح عند مرورها على الاثلام والنتوءات والاخاديد الجافة المنتشرة في
الطريق.
عند
الساعة الثامنة دخلت القرية ثلاث عربات مغطاة بأغطية مصنوعة من قطع سوداء
قصت من خيمة قديمة، يجر كل عربة ثوران مسنان يغلفهما الغبار ويظهر على
كفليهما آثار دامية لمنخس يستعمل في أجزاء الطريق الوعرة، أمام العربات
"تونيكو" الشخص الذي لايمكن الاستغناء عنه صاحب الوجه الملطخ طحينا والثياب
اللامعة يضرب على طبل يمتطي الحمار الذي سيقوم بالعمليات الحسابية، تسير في
آخر الطابور كتلة رمادية مغلفة قشورا وتجاعيد حيوان لبون ضخم متناوم يؤرجح
خرطومه بفتور وضجر. أحاط أطفال القرية بثيابهم الرثة بالبهلوانيين، اندس
بينهم "براكوتاي" ومعاونه محاولين بجرأة الوصول الى الفيل جالبين الانتباه
اليهما بمزاحهما وبسفالتهما.
من
حين لاخر يتفرق الصبيان ثم يتجمعون بأكثر اندفاع صائحين مصفقين ليحيطوا
بعجوز"كتلة من الاعصاب" حذاؤها البالي بيدها تحاول انتزاع حفيدها الهارب
من المدرسة من أبيه القاسي الفظ الغاضب الذي يجري وراء ابنه القذر وهو يحاول
اخفاء كتبه تحت قميصه .
اتجهت
العربات نحو الكنيسة. لقد جاء الوكيل في الصباح الباكر على حصان يحمل
المعلقات الجميلة. اتفق مع الكاهن على الاستقرار في ساحة الكنيسة. قص
زنجيان دائرة كبيرة من العشب. وما ان وقفت العربات حتى بدأوا في تنزيل
الادباش، وبعد قليل التحق بهم البهلوانيون والمهرجون يحيط بهم حب الاطلاع
الشعبي.
ينظر
الاطفال المحتشدون الى كل شيء بذهول. فاغري الافواه، الفتيات الريفيات
الخجولات تجتمعن في زوايا الشارع حالمات متنهدات يتخيلن أعمال المهرجين
لاينقص هذا المشهد غير العجوز صاحبة القلنسوة التي لايمنعها الحدث العظيم
من الثرثرة.
حُفِرَ مكان
عمود الخيمة الرئيسي بسرعة، استؤصلت الجذور التي قاومت الفأس بالركاسة،
ثبتت دائرة من المثلثات ومد قماش الخيمة الكبيرة وأقيم شباك التذاكر ونظمت
الواح المدرجات المرقمة وشرعوا في نصب الخيمة الكبيرة فقطعوا بمنشار بعض
القطع الخشبية التي سقطت في صخب ثم ارتفع صرير بكرات الرافعة الجافة لرفع
العمود الكبير.
رجع
"ميغيل" الى معمل السكر ليخفف عقوبة حتمية وبقي "براكوتاي" يعمل هنا وهناك
ليضمن حضور العرض مجاناً. قاد الثيران للنهر لتشرب وأحضر حملا من قصب السكر
للفيل وذهب الى الصيدلية ليشتري مراهم للمرأة القوية ووزع مائتي معلقة في
بعض شوارع القرية.
اسمعوا أيها الاطفال كم هو قاس المهرج…! أأكد لكم أنه فظ ! لقد ضرب الحمار لانه رفض اكل السردين بالزيت …. أقسم لكم !
سردينا بالزيت ؟ وهل ياكل الحمار السردين المعلب ؟
طبعا أيها الغبي … انه حمار يجري العمليات الحسابية … مثل الانسان تماما …
ونحن ألسنا في حاجة للسوط حتى نتعلم الحساب ؟ … اعرفت الفرق ؟ …
-وماذا عن المرأة القوية "براكوتاي" ؟
- لها عضلات هكذا!
- كم أنت محظوظ يا "براكوتاي" ! تعرف دائما أين تضع نفسك !
نال "براكوتاي" إعجاب
الجميع وخاصة اعجاب المرأة القوية: تقول انه يساوي ثقله ذهباً وتميزه بصفة
غريبة ولا ترسل غيره للعطار ليشتري لها الماء وهو الذي ينظف حذاءها … كم
هو محظوظ "براكوتاي" !
على
الساعة الخامسة والنصف أصبح السيرك جاهزاً، بعض البهلوانيين يتدربون على
قفزاتهم الخطيرة وعلى بعض التمارين على الارجوحات. وصل "ميغيل" إلى مدخل
الخيمة عندما كان البعض يستعد للقيام بجولة في أرجاء القرية… وقف بين
مجموعة من الصبيان فاغري الافواه أمام الستار الرقيق الاحمر المتدلي الذي
يخفي جنة أخاذة مجهولة.
ظهر"براكوتاي" بهيئة شخص مهم … يمشي بخيلاء ولما رأى "ميغيل" اقترب منه وقال له بلهجة رسمية وبصوت مرتفع:
- أنت .. اقترب حتى أريك شيئاً.
- ماذا عندك ؟
- شيء مدهش… أصبحنا منهم.
- ضمنت لي مكانا؟
- لا أحسن من هذا !
- مال ؟
- أحسن بكثير !
وعندما انعطفا حول زاوية الكنيسة تحسس "براكوتاي" جيب سرواله المنتفخ بشيء مستدير …وأخيراً
قال لـ "ميغيل":
-أرأيت هذا ؟
- نعم …
- هذا سر المرأة القوية … لقد سرقته لها … أنا كذلك أريد رفع الاثقال بأسناني فقط….
- كيف ؟
-
ستفهم كل شيء… أمرتني هذا الصباح بالذهاب لتنظيف فستان وعندما رجعت نظرت
من ثقب الباب.. رأيتها ترتدي ثياباً قصيرة جداً… تصل الى ركبتيها… لم أجرؤ على
الدخول وبقيت أراقب أخرجت من حقيبتها الصغيرة التي كانت بيدها هذا الصباح علبة صغيرة تشبه علبة الاقراص تحتوي
على مسحوق أحمر مثل الدم وأخذت فرشاة بيضاء وضعت عليها قليلا من ذلك
المسحوق وشرعت في حك أسنانها … وبقيت تحك وتحك … لم أترك العلبة والفرشاة
تغيبان عن نظري وعندما دخلت لاعطيها الفستان سرقتهما إنهما الان في جيبي .
- اخرجهما … دعني أراهما …
- انظر…!
- اذن …. ولكن … هذا مسحوق أسنان وهذه الفرشاة…
- ماذا؟
-
ما قلته يا عزيزي …هذا لايفيد ولايقوي أحداً …هما نفسهما تستعملهما سيدة
معمل السكر … تستعملهما لتنظيف أسنانها وتلميعها حتى تظهر أجمل …
- غير معقول ؟
- أأكد لك … هذا يستعمله الاغنياء من أجل أسنانهم…
اذهب
وانظر هل "دوناكارلا" سيدة معمل السكر تحمل أثقالاً بأسنانها رغم أنها
تستعملهما … يرسلون لها المسحوق من "هافانا" مع الصابون ومدقوق قشور البيض …
ولما رأى "ميغيل" أن "براكوتاي" يشك في كلامه أخذ العلبة من يده وقال بثقة:
- أنظر …اقرأهذا "مسحوق أسنان" نفس النوع الذي تستعمله "دوناكارلا".
ولد في كوبا من عائلة فقيرة، هاجر الى الولايات المتحدة في بداية حرب
الاستقلال سنة 1895، وعند رجوعه الى الوطن عام 1908اشتغل عاملاً في سكة الحديد.
كوّن عدة نقابات وله صلات بالمجموعات النقابية في كامل أمريكا الوسطى التي
زار جميع بلدانها.
أنتخب عضو في الاكاديمية الكوبية للفنون والآداب سنة1926.
نشر العديد من الروايات والمجموعات القصصية .
يعتبر أحد اكبر المتحمسين للأفكار الاشتراكية وواحد من القادة المؤسسين للحركة العمالية الحديثة.
السيرك نموذج عن مدينة متكاملة، تعشش الحياة في زواياه كما تعشش التناقضات بزوايا الأيام. في السيرك- كما في الحياة- مهرجون حزانى، وأصحاب عقول لامعة طمرهم سوء الحظ بالذل والمهانة، وفيها أصحاب عقول شريرة استخدموها لأجل مصالحهم الخاصة. لكن لا بد أن يواجه المدَّعون أحداً أكثر خبرة منهم ليكشف زيفهم لدى مَن يستغلون صغر عقولهم وإنعدام ثقافتهم ليقنعوهم بما يريدون أن يقنعوا به أنفسهم قبل غيرهم
ReplyDelete