بقلم الأديب التونسي: ساسي حمام
توسطت
شمس أواخر شهر ماي السماء الزرقاء وشرعت تلسع الكون بسياط من نار . وسقطت
ساحة القرية في لجة من الصمت العميق لايعكر هدوء صفحتها غير صوت المعلم
يتردد ضعيفا مرهقا بين جدران فصل وحيد يتيم اعتلى هذه الربوة المشرفة على
الفضاء الممتد . كان يتنقل بين ارجاء السبورة يفسر بعض الكلمات أو يشرح بعض
الصور ومن حين لاخر يقترب من المكتب ويأخذ منديلا ويمسح العرق المتصبب على
جبينه ، يشعر بجفاف في حلقه فيأخذ قارورة ويشرب… يضع
القارورة وينظر الى ما بقي فيها … لم يشعر بالارتواء رغم الكميات الكبيرة
من الماء التي شربها ، يدب الوهن في مفاصله فيتهالك على الكرسي ويأمر
التلاميذ بأخذ أوراق التصوير … تدب الحركة في كتل اللحم الهامدة ويكثر
الهمس والحديث والخصام والاخذ والعطاء وينهض بعضهم لاخذ
الاقلام استعدادا لتصوير ما يأمربه المعلم … يطول الانتظار فيتشجع أحدهم ويسأل بصوت مرتفع :
الاقلام استعدادا لتصوير ما يأمربه المعلم … يطول الانتظار فيتشجع أحدهم ويسأل بصوت مرتفع :
ـ سيدي ماذا نصور ؟
ـ صوروا ما شئتم …
يخيم الصمت على القسم من جديد وتنقطع الحركة وتزيغ النظرات حيرة واظطرابا وعجزا وتضيع العيون في بياض الورقة المترامية الاطراف …
ـ سيدي ماذا نصور ؟
ـ ألم أقل لكم صوروا ما تريدون !
تزداد وطأة الحيرة ويتكاثف الغموض ويزداد بياض الورقة اتساعا …
ـ سيدي أصور ساحة المدرسة ؟
ـ نعم …
ـ سيدي أرسم حقل جارنا ؟
ـ أرسم ….
ـ سيدي … سيدي أرسم ؟ سيدي أصور ؟ سيدي ..سيدي…
ـ كل واحد يرسم المشهد الذي يراه …
حسم
الامر ووضع حد للفوضى التي سادت فتهللت الوجوه وخرجت العيون تتسكع في
أرجاء القسم وفي ساحة المدرسة وفي أرجاء القرية وفي البساتين التي تحيط
بالمدرسة وفي الحقول المجاورة تبحث عن المناظر التي يمكن أن ترسم ونشطت
الاصابع وساد مرة أخرى الصمت العميق …
يمر
بعض الوقت فيشعر المعلم بقليل من الراحة فينهض وينظر فيما يرسمه الاطفال …
يلفت نظره رسم أحدهم يجلس بجانب النافذة … يتوجه نحوه بسرعة ويقف بجانبه …
يتأمل المشهد فاغر الفم…يفرك عينيه وينحني قليلا ليتأمل هذا المشهد الفظيع
الذي اختاره هذا التلميذ…
ـ ماذا رسمت ؟
لم يسمع التلميذ كلام المعلم ولم يابه للهجته القاسية وواصل التصوير بكل شغف واهتمام …يضع يده على كتفه يرجه قليلا …
يخطف
الورقة من يدي التلميذ ويمزقها قطعا صغيرة ثم يضغط عليها بعنف ويرميها في
سلة المهملات …احمر وجه التلميذ وارتعشت أطرافه خوفا وفزعا ويتكور حول نفسه
ويقول بصوت لايكاد يسمع …
ـ سيدي لقد قلتم صوروا ما تشاهدونه … انظروا من النافذة !
ينظر المعلم …تمتد الرؤوس …يخاف المعلم أن يرى بقية التلاميذ المشهد فيصيح آمرا
ـ أغلقوا هذه النوافذ بسرعة …أغلقوا النوافذ بسرعة …هيا … بسرعة …
ساسي حمام:
اديب تونسي ولد عام 1947.
كتب القصة القصيرة والمقالة الأدبية. عضو نادي القصة منذ سنة 1967 واتحاد الكتاب التونسيين 1982.
اهم الإصدارات:
ـ لاهثون معي ـ مجموعة قصصية، الدار العربية للكتاب 1985
ـ قطع الغيار ـ مجموعة قصصية، الدار العربية للكتاب 1994
* له عديد من المخطوطات التي تنتظر النشر.
اهم الإصدارات:
ـ لاهثون معي ـ مجموعة قصصية، الدار العربية للكتاب 1985
ـ قطع الغيار ـ مجموعة قصصية، الدار العربية للكتاب 1994
* له عديد من المخطوطات التي تنتظر النشر.