قصة قصيرة للكاتب الكبير
..
د. يوسف إدريس
د. يوسف إدريس
كانت أشجار الكافور طويلة متباعدة وحيدة ،
وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض
وكان الطريق الذي أتى منه مهجوراً كعادته ،
والناس يسلكون غيره من الطرق ،
والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان
وقصور الجن ،
وأمامه تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة
في سكون أمين صادق،
وهناك على قبوة الشيخ أبو المعاطي
الذي لا يؤمه أحد ، وقف غراب أسود ينعق في الحاح ،
وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد في قبره
وفوقه أحجار وأزمان. وراح في شيء ممزوج
من الوحشة والخوف يحدق في بياض القبر،
ويقرأ الكلمات التي نقشتها يد فنان القرية في سذاجة
وبلا تزويق ،
وقرأ الكلمات مراراً،
ومع كل حرف كان يستعيد عاماً قضاه
في بحبوحه أبيه ويذرف عقله الذكريات.
كان رجلاً طيباً،
عبقرياً في طيبته،
والبسمة دائما تضيء وجهه الأسمر المرح،
وتنير الطريق أمام الناس الى انسانيته
وسبح في سيل طويل من الذكريات،
ولكنه لم يبلغ منتهاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه ..
الشوق الى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم،
والشوق الى كل دقيقة عاشها معه ..
ولم يستطع المقاومة
وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بذراعه وبكى،
وكان وهو يبكي كأنما يعتصر حياته في دموعه
فلا يبقى منها إلا قشر تافه جاف وذكرته الدموع وهو يبكي بعرق أبيه،
والصيف ، وإقباله الباسم عليه ويديه القويتين
حين يضمه، وكان حينئذ يقبله
ويتحسس ما جاء إليه به فيقبله مرة أخرى،
كان كلما تذكر الصيف وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى،
حتى يخيل إليه ان الدنيا تسللت من امامه حاملة
كل ما لها وما عليها تاركة اياهما وحيدين معانقين.
وعن عما يشغله عن البكاء،
وكذلك راح يخطط باصبعه رغماً عنه
في تراب الجبانه الذي امرضته شمس العصر الصفراء الشاحبة..
وبدأت أصبعه تتعثر في قطع عظام،
وتستخرج بقايا شعر آدمى،
وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد،
وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماماً،
فهو يستطيع ان يقسم ان هذه العظام ليست لأبيه،
فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين،
ولكن غداً .. أو بعد غد ...
من يدري ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض ؟؟
وما يدريه أنه لن يستحيل غداً تحت هذا التراب أو هذه الكومة؟،
ودار السؤال في رأسه دورات،
وفي كل مرة تزداد حيرته وتظلم الحقائق امامه،
تبتعد، حتى بدأ يشك في القبر الذي يعانقه
حين يتأمل في صوت مرتجف لكنه مسموع .. حقيقة ..
ما الذي أعانقه؟،
وجاء الجواب شاحباً عليلاً ميت الروح كشمس العصر،
انه يعانق قبراً من تراب فوق كومة من تراب ..
وعز عليه ان تفقده هذه الحقيقة البسيطة
كل ما بقي له من أبيه،
فسأل نفسه مرة اخرى ليفحمها إفحاماً - وأين قبر أبي إذن ؟
ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب
فقد أدرك ان اباه هناك - في عقله -
في تلافيف مخه،
حين يستقر القبر
الذي يضم حياته ومماته والسنين التي قضاها
تحت اجنحته،
واما القبور التي تتبعثر امامه
فهي نواتئ جوفاء في أرضنا السمراء،
وعاد الى القرية في ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة.
يوسف إدريس علي (1927 - 1991):
مفكر وأديب مصري كبير، قدم للأدب العربى عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وشعر ومسرحيات. ترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية منها 65 قصة ترجمت إلى الروسية. كتب عدة مقالات هامة فى الثمانينيات بجريدة الاهرام صدرت فى كتاب فقر الفكر وفكر القصة.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عام 1966. هو واحد من أشهر الأطباء الذين تركوا الطب ليمتهنوا الأدب. كان يتلمس الالغام الاجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها بقلمه وظل يتمتع بحيوية الرفض لكل ما يحد من حرية الانسان فى كل ما يكتب.
جدير بالذكر انّ الاقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسين كانت ما تزال في مراحلها وخطواتها الأولى ، ثمّ جاء يوسف إدريس ورسّخها وثبّت أقدامها ونقلها من المحليّة إلى العالميّة. إختار يوسف إدريس مواضيع مسحوبة من حياة الإنسان العربي المهمّش. إدريس خلق أقصوصة عربيّة، بلغة عربيّة مصرية قريبة من لغة الإنسان العادي وبذلك نقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي. وبالنسبة لشخصيات قصصه نلمس أنّه ثمّة نمطين من أنماط الشّخصيّة القصصيّة يركز إدريس عليهما وهما على النحو التالي:
1. شخصيّة المرأة باعتبار أنّ المرأة عنصرًا مسحوقًا ومهمّشًا أكثر من غيره، فنذر حياته للدّفاع عنها وللكتابة من أجلها .
2. الشّخصيات الرّجوليّة وهي شخصيّات ،بمعظم الحالات، من قاعدة الهرم، من الشريحة المظلومة في مصر . فشخصياته معظمها تمثيل للإنسان المصري الذي يعيش على هامش الحياة المصرية بكل مستوياتها .
وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض
وكان الطريق الذي أتى منه مهجوراً كعادته ،
والناس يسلكون غيره من الطرق ،
والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان
وقصور الجن ،
وأمامه تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة
في سكون أمين صادق،
وهناك على قبوة الشيخ أبو المعاطي
الذي لا يؤمه أحد ، وقف غراب أسود ينعق في الحاح ،
وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد في قبره
وفوقه أحجار وأزمان. وراح في شيء ممزوج
من الوحشة والخوف يحدق في بياض القبر،
ويقرأ الكلمات التي نقشتها يد فنان القرية في سذاجة
وبلا تزويق ،
وقرأ الكلمات مراراً،
ومع كل حرف كان يستعيد عاماً قضاه
في بحبوحه أبيه ويذرف عقله الذكريات.
كان رجلاً طيباً،
عبقرياً في طيبته،
والبسمة دائما تضيء وجهه الأسمر المرح،
وتنير الطريق أمام الناس الى انسانيته
وسبح في سيل طويل من الذكريات،
ولكنه لم يبلغ منتهاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه ..
الشوق الى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم،
والشوق الى كل دقيقة عاشها معه ..
ولم يستطع المقاومة
وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بذراعه وبكى،
وكان وهو يبكي كأنما يعتصر حياته في دموعه
فلا يبقى منها إلا قشر تافه جاف وذكرته الدموع وهو يبكي بعرق أبيه،
والصيف ، وإقباله الباسم عليه ويديه القويتين
حين يضمه، وكان حينئذ يقبله
ويتحسس ما جاء إليه به فيقبله مرة أخرى،
كان كلما تذكر الصيف وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى،
حتى يخيل إليه ان الدنيا تسللت من امامه حاملة
كل ما لها وما عليها تاركة اياهما وحيدين معانقين.
وعن عما يشغله عن البكاء،
وكذلك راح يخطط باصبعه رغماً عنه
في تراب الجبانه الذي امرضته شمس العصر الصفراء الشاحبة..
وبدأت أصبعه تتعثر في قطع عظام،
وتستخرج بقايا شعر آدمى،
وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد،
وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماماً،
فهو يستطيع ان يقسم ان هذه العظام ليست لأبيه،
فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين،
ولكن غداً .. أو بعد غد ...
من يدري ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض ؟؟
وما يدريه أنه لن يستحيل غداً تحت هذا التراب أو هذه الكومة؟،
ودار السؤال في رأسه دورات،
وفي كل مرة تزداد حيرته وتظلم الحقائق امامه،
تبتعد، حتى بدأ يشك في القبر الذي يعانقه
حين يتأمل في صوت مرتجف لكنه مسموع .. حقيقة ..
ما الذي أعانقه؟،
وجاء الجواب شاحباً عليلاً ميت الروح كشمس العصر،
انه يعانق قبراً من تراب فوق كومة من تراب ..
وعز عليه ان تفقده هذه الحقيقة البسيطة
كل ما بقي له من أبيه،
فسأل نفسه مرة اخرى ليفحمها إفحاماً - وأين قبر أبي إذن ؟
ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب
فقد أدرك ان اباه هناك - في عقله -
في تلافيف مخه،
حين يستقر القبر
الذي يضم حياته ومماته والسنين التي قضاها
تحت اجنحته،
واما القبور التي تتبعثر امامه
فهي نواتئ جوفاء في أرضنا السمراء،
وعاد الى القرية في ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة.
يوسف إدريس علي (1927 - 1991):
مفكر وأديب مصري كبير، قدم للأدب العربى عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وشعر ومسرحيات. ترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية منها 65 قصة ترجمت إلى الروسية. كتب عدة مقالات هامة فى الثمانينيات بجريدة الاهرام صدرت فى كتاب فقر الفكر وفكر القصة.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عام 1966. هو واحد من أشهر الأطباء الذين تركوا الطب ليمتهنوا الأدب. كان يتلمس الالغام الاجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها بقلمه وظل يتمتع بحيوية الرفض لكل ما يحد من حرية الانسان فى كل ما يكتب.
جدير بالذكر انّ الاقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسين كانت ما تزال في مراحلها وخطواتها الأولى ، ثمّ جاء يوسف إدريس ورسّخها وثبّت أقدامها ونقلها من المحليّة إلى العالميّة. إختار يوسف إدريس مواضيع مسحوبة من حياة الإنسان العربي المهمّش. إدريس خلق أقصوصة عربيّة، بلغة عربيّة مصرية قريبة من لغة الإنسان العادي وبذلك نقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي. وبالنسبة لشخصيات قصصه نلمس أنّه ثمّة نمطين من أنماط الشّخصيّة القصصيّة يركز إدريس عليهما وهما على النحو التالي:
1. شخصيّة المرأة باعتبار أنّ المرأة عنصرًا مسحوقًا ومهمّشًا أكثر من غيره، فنذر حياته للدّفاع عنها وللكتابة من أجلها .
2. الشّخصيات الرّجوليّة وهي شخصيّات ،بمعظم الحالات، من قاعدة الهرم، من الشريحة المظلومة في مصر . فشخصياته معظمها تمثيل للإنسان المصري الذي يعيش على هامش الحياة المصرية بكل مستوياتها .
أعماله:
مجموعات قصص قصيرة- أرخص ليالي. 1954 وهي أوّل مجموعة قصصية.
- جمهورية فرحات.
- أليس كذلك.
- قاع المدينة.
- لغة الآي آي.
- بيت من لحم 1971.
- آخر الدنيا.
- البطل.
- النداهة.
- أنا سلطان قانون الوجود.
- حادثة شرف.
- مشوار .
- أحمد المجلس البلدي.
- العيب 1962.
- الحرام 1959.
- العسكري الأسود.
- البيضاء (رواية).
- ملك القطن.
- المهزلة الأرضية.
- الجنس الثالث.
- الفرافير 1964.
- المخططين.
- البهلوان.
This comment has been removed by the author.
ReplyDeleteتحوي القبور رفات عظامهم
ReplyDeleteلكن ذكراهم خالدة في القلب والروح