للأديب الروسي: أنطون تشيكوف
ترجمها: يوسف بوسعيد
في إحدى ليالي الخريف المظلمة, كان مصرفيّ يتمشّى في مكتبه جيئة وذهاباً, مُسترجعاً ذكرى الحفل الذي أقامه في إحدى أمسيّات الخريف قبل خمس عشرة سنة. لقد حضر الحفل عددٌ كبير من الشّخصيات المرموقة, حيث دارت بينها نقاشات هامّة .من بين المواضيع التي تحدّثوا عنها برزت قضيّة عقوبة الإعدام. استنكر معظم الضّيوف بما فيهم الصّحفيّون ورجال الفكر هذه العقوبة,
معتبرين إيّاها من مساوئ الماضي, لا أخلاقيّة وغير ملائمة للدول المسيحيّة. رأى بعض المتحاورين أن عقوبة الإعدام يجب أن تُعوَّض بعقوبة السّجن المؤبّد. قال المصرفيّ وصاحب الدّعوة:" أنا لا أتّفق معكم, في الحقيقة, أنا لم أجرّب عقوبة الإعدام أو السّجن المُؤبّد, لكن إن حقّ للمرء الحُكم في الأمر, فإنّه لمن البديهي أنّ عقوبة الإعدام أكثر أخلاقيّة وإنسانيّة من السّجن مدى الحياة. الإعدام يقتل المرء دفعة واحدة, بينما السّجن مدى الحياة هو ذاته الموت البطيء. فبالله عليكم, أيّ الجلاّدين يستحقّ أن يُوصف بالإنسانيّة, أهو ذاك الذي يقتلكم في بضع دقائق, أم الذي يسلبكم الحياة خلال سنوات عدّة ؟
ردّ أحد الضّيوف:" هما يشكلان على حدّ سواء عملاً لا أخلاقياً، فالغاية التي تجمعهما هي ذاتها, فصل الرّوح عن الجسد. الحكومة ليست إله يحقّ له ذلك، فإن هي سلبت المرء الحياة, فإنّها لن تستطيع استعادتها متى شاءت."
من بين الضّيوف كان هنالك محام شاب في الخامسة والعشرين من عمره. لمّا سُئل عن رأيه في الموضوع أفصح قائلا: " إن الحُكم بالإعدام والحُكم بالسّجن المؤبّد كلاهما عمل لا أخلاقي, لكن لو خُيِّرتُ بين الأمرين لاخترتُ بالتّأكيد السّجن المؤبّد, فأنْ تعيش, بأيّة حال, أحسن من أن تفارق الحياة." نشأت عن ذلك إثارة في النّقاش، فالمصرفيّ الأصغر سناً والأكثر عصبيّة في تلك الأيام صرخ فجأة بحماس, وهو يضرب بقبضة يده على الطّاولة, قائلاً للشّاب: " هذا غير صحيح! سأراهن بمليونين على أن تمكثَ في حبس انفرادي لمدّة خمس سنوات.
ردّ الشّاب: " إن كُنت جاداً في هذا، فسأقبل التّحدّي, ولكن لن أمكث خمس سنوات و إنّما خمس عشرة سنة." - " خمس عشرة سنة ؟ حسنا! "." أيّها السّادة, أنا أراهن بمليونين! " - " موافق ! راهن أنت بمليونين وأراهن أنا بحرّيتي." وهكذا نُفّذ هذا الرِّهان المتهوّر الذي لا معنى له. المصرفيّ الطّائش بالملايين ضمن حسابه البنكي كان مسروراً جداً بهذا الرّهان. عند العشاء أخذ يسخر من الشاب قائلاً له :" فكّر ثانية في الأمر مادام هنالك وقت, فبالنسبة لي مليونين مبلغ تافه, أمّا أنت فستخسر ثلاث أو أربع سنوات من أزهى فترات حياتك. أقول ثلاث أو أربع سنوات لأنّك لن تقدر على أكثر من ذلك. لا تنس كذلك، أيّها الرجل التّعيس, أن السّجن الاختياري أكثر مشقّة وصرامة من الإجباري. فأن تُفكّر في تخطّي عتبة السّجن نحو الخارج في أي لحظة, سيُفسد الغاية من وجودك في السّجن. أنا متأسّف على هذا الإجراء." أمّا الآن فالمصرفيّ يتمشى جيئة و ذهاباً, متذكّراً كل تلك الأحداث, مخاطباً نفسه:"ما الغاية من هذا الرّهان؟ما الذي سيجنيه هذا الشّاب من إضاعة خمس عشرة سنة من حياته, وماذا سأستفيد أنا من هدر مليونين عبثاً؟. هل هذا سيُثبت أنّ عقوبة الإعدام أحسن من السّجن المؤبّد؟. لا , لا يمكن. إنّ كلّ هذا عمل تافه وغير معقول. من جهتي, هي الرّغبة في إشباع نزوات شخصيّة, أمّا من جهته فإنّه الطمع في المال....." بعد ذلك تذكّر المصرفيّ ما أعقب تلك الأمسيّة. لقد تقرّر أن يمضي الشّاب سنوات الأسر تحت الرّقابة الصّّارمة في حُجرة داخل حديقة المصرفيّ. تم الاتّفاق على ألاّ يتعدّى الشاب عتبة باب الحُجرة لرؤية النّاس أو سماع أصواتهم, كما لا يحقّ له استلام الرّسائل والصّحف. لقد سُمِح له بالحصول على آلةٍ موسيقية وكتب. كما حقّ له كتابة الرّسائل, شرب الخمر وكذا التّدخين. بمقتضى الاتفاقيّة فإن المنفذ الوحيد للشّاب نحو العالم الخارجي يتمثّل في نافذة صغيرة أُعدّت لهذا الغرض. يمكن للشّاب الحصول على كل ما يريد: كتب, موسيقى, خمر,...وبأيّة كميّة يشاء بعد أن يكتب طلباً خطيّاً, على أن يستلم كل هذه الأشياء عبر النّافذة. نصّت الاتفاقية على كلّ التّفاصيل, حتّى وإن بدت تافهة أحياناً, فقط لضمان عزل الشاب بشكل صارم, وإلزامه بالمكوث في السّجن خمس عشرة سنة بالضبط : بداية من الرابع عشر من نوفمبر من عام 1870 على السّاعة الحادية عشر وانتهاء في الرّابع عشر من نوفمبر من عام 1885 على السّاعة الحادية عشر. إنّ أيّ محاولة من قبل الشّاب لخرق شروط الاتفاقية, ولو قُبيل دقيقتين من نهايتها، ستعفي المصرفيّ من التزامه بدفع المليونين.
بقدر ما يُمكن للمرء الحُكم على السّجين من خلال مذكراته المختصرة, فقد عانى بشدّة في السّنة الأولى من الأسر من الوحدة والكآبة. نغمات جهاز البيانو المنبعثة من الحُجرة كانت تُسمع بشكل
مستمر ليل نهار. رفض الشّاب الخمر والتّبغ, فالخمر, حسبما كتب, يثير الشّهوات والشّهوات هي أخطر عدو للسّجين, فضلاً عن هذا, فليس هنالك شيء أفظع من شرب الخمر وعدم رؤية النّاس, أمّا عن التدخين, فإنّه يُلوّث هواء الحُجرة. الكتب التي طلبها الشّاب في السّنة الأولى تعلّقت بشخصيّات لامعة, روايات حُبّ ذات حبكة معقّدة, قصص مثيرة وخياليّة...
في السّنة الثّانيّة من الأسر كان البيانو ساكناً في الغرفة . ما طلبه الشّاب اقتصر فقط على الدّراسات القديمة. في السّنة الخامسة لم تكن الموسيقى مسموعة كذلك, غير أنّ السّجين طلب الخمر. قال الأشخاص الذين شاهدوه عبر النّافذة أنّه لم يمض تلك السّنة إلا في الأكل والشرب والاستلقاء على سريره, التثاؤب على نحو مستمرّ والحديث مع نفسه بغضب. ببساطة, لم يقرأ الشّاب الكتب. أحيانا في اللّيل كان يجلس للكتابة لكنّه في الصباح يمزّق كل ما كتبه, لقد سُمع يصرخ لأكثر من مرّة. في النّصف الثاني من السّنة السّادسة لأسره, بدأ الشّاب بشغف في دراسة اللّغات, الفلسفة والتّاريخ. انصبّ بشغفٍ على هذه الدّراسات لدرجة أن المصرفيّ أضحى مطالباً بعمل ما فيه الكفاية لجلب الكُتب التي طلبها الشّاب.في غضون أربع سنوات تمّ جلب حوالي ستّة مائة مجلّد كانت تحت طلبه. خلال تلك الفترة استلم المصرفيّ الرسالة التالية من الأسير: " عزيزي السَّجَّان, أنا أكتب لك هذه السّطور بستّ لغات. اعرضها على الأشخاص الذين يتقنون هذه اللّغات , دعهم يقرؤونها , فإن لم يجدوا أيّ خطأ, أرجو منك أن تطلق طلقة ناريّة في الحديقة, فتلك الطلقة ستُثبت لي أنّ جهودي لم تذهب سدى. إنّ العباقرة على مَرِّ العصور وفي كلّ البقاع يتحدّثون بلغات مختلفة, غير أنّ نفس اللّهب يلفحهم جميعا. آهٍ ! لو عرفتَ السّعادة غير الدنيوية التي أشعرُ بها الآن من القدرة على فهمهم جميعاً ! " تم تنفيذ رغبة السّجين, فقد أمر المصرفيّ بإطلاق طلقتين ناريّتين في الحديقة.
بعد العام العاشر جلس الشّاب بثبات أمام الطّاولة لا ليقرأ شيئا عدا الإنجيل. بدا من الغريب بالنّسبة للمصرفيّ أنّ هذا الرجل الذي تضلّع في فهم ستة مائة مجلد في غُضون أربع سنوات، يُضيّع قرابة السّنة في قراءة كتاب سهل الفهم كهذا. أعقب دراسة الإنجيل التّفرغ لعلم اللاهوت وتاريخ الأديان. في السّنتين الأخيرتين من الأسر, قرأ الشاب كميّة معتبرة من الكتب في شتّى الميادين. في
إحدى الفترات كان منشغلاً بالعلوم الطبيعية .بعد ذلك طلب أعمال "بايرون" و"شكسبير". في نفس الوقت كانت هنالك مذكّرات طلب فيها كتباً في الكيمياء والطّبّ والرّواية, فضلاً عن بعض الأطروحات في الفلسفة وعلم اللاهوت. لقد أوحتْ قراءاته بأنّه كمثل رجل يسبح بين حطام سفينته الغارقة, محاولاً أن ينقذ نفسه من خلال التشبّث تارة بساريّة و تارة بأخرى. تذكّر المصرفيّ العجوز كلّ هذا و فكّر قليلاً: "غداً عند السّاعة الحادية عشر سيستعيد حريّته. بمقتضى اتفاقيّتنا, يجب عليّ أن أدفع له مليونين. لو دفعتُ سينتهي كل شيء بالنّسبة لي. سأغدو مفلساً بالكامل." قبل خمس عشرة سنة كانت الملايين تحت حسابه البنكي , أمّا الآن فهو خائف من أن يُسأل عن الشيء الأنبل, أهو التّعهد أم المال؟. المضاربات الخاسرة في البورصة والقمار المفرط فضلاً عن الإثارة المعهودة التي لم يعد قادراً على التّغلّب عليها مع تقدّم السّنوات, كلّها أدّت تدريجياً إلى أفُول نجم المليونير الثّري, الجسور, الفخور والواثق من نفسه. لقد أصبح الآن مصرفيّ من الدّرجة الوسطى يرتعد لكل ارتفاع أو سقوط في الأسهم. تمتم الرجل العجوز وهو يمسك رأسه بيأس: "رهانٌ ملعون!", " لماذا لا يموت الرجل ؟ إنّه فقط في الأربعين من عمره. سيأخذ مني آخر فلس أملكه, سيتزوّج ويستمتع بالحياة, سيضارب في البورصة, بينما أنا أنظر إليه بعين الحسد مثل المتسوّل, لأسمع منه يومياً نفس العبارة:' دعني أساعدك, فأنا مدين لك بالسّعادة في الحياة!', الطريقة الوحيدة التي تنجيني من الإفلاس والخزي هي وفاة الرجل! " دقّت السّاعة الثالثة, أنصت المصرفيّ، الجميع في المنزل نائمون. لا شيء يُسمع في الخارج عدا حفيف الأشجار المتمايلة. دون إحداث جلبة, تناول من الخزانة المضادة للحرائق مفتاح الحجرة التي لم تُفتح منذ خمس عشرة سنة. وضعه في معطفه وخرج من المنزل. كانت الحديقة مظلمة وباردة, فقد كانت الأمطار تتساقط والريّاح العاصفة تهب عبر الحديقة محدثة صفيراً ومؤدية إلى تمايل الأشجار تارة نحو اليمين وتارة أخرى
نحو اليسار. أجهد المصرفيّ بصره لكنه لم ير شيئاً, لا الأرضية, لا النُّصُب البيضاء, لا الحُجرة ولا حتّى الأشجار. مندفعاً نحو المكان الذي توجد فيه الحُجرة, نادى المصرفيّ على الحارس مرّتين, لكنّه لم يتلقّ أي استجابة. من الواضح أنّ الحارس لجأ إلى مكان يقيه من الجوّ العاصف, فلا بد أن يكون الآن نائماً في مكان ما في المطبخ أو الدّفيئة. فكّر الرجل العجوز قليلا: " إذا كانت لديّ الشّجاعة على تنفيذ ما عزمت عليه, فإنّ الشُّبهة ستقع مباشرة على الحارس." تحسّس الرجل العجوز الدّرج والباب وسط الظلام وتوجّه نحو مدخل الحُجرة. التمس طريقه عبر ممرٍّ صغير وأوقد عود ثقاب. لم يكن هنالك أحد, ما كان هنالك إلا هيكل سرير دون أفرشة, وفي الزّاوية الأخرى موقد مصنوع من الحديد . سِداد الباب المؤدّي إلى غرفة السّجين كان سليماً. عند أفول عود الثّقاب، ارتجف الرّجُل العجوز كليّاً, وهو يحاول أن يختلس النّظر عبر النّافذة. كانت الشّمعة تشتعل بشكل خافت في حُجرة الأسير. لقد كان جالساً على الطّاولة, لا شيء يمكن أن يُرى عدا ظهره, شعر رأسه ويديه. كانت بعض الكُتب المفتوحة ملقاة على الطّاولة,على كرسيي الاستراحة وعلى البساط. مضت خمسُ دقائق والسّجين لم يُحرّك ساكناً .خمس عشرة سنة علّمته كيف يجلس في سكون. قرع المصرفيّ بأصابعه على النّافذة, لكنّ السجين لم يحدث أيّ حركة بالمقابل. بحذر قام المصرفيّ بكسر سِداد الباب ليضع المفتاح في فتحة المفاتيح. أحدث القُفل الصّدِئ صريراً, ليفتح الباب بصرير آخر. توقّع المصرفيّ أن يسمع وقع أقدام وصراخاً من الدّهشة, لكن مضت ثلاث دقائق والهدوء يُخيّم على المكان. عندئذٍ قرّر المصرفيّ الدّخول. عند الطّاولة كان رجلٌ ليس كباقي النّاس يجلس في سكون. إنّه مجرّد هيكلٌ عظميّ بطبقةٍ من الجِّلد تكسو عظامه بإحكام، وبخصلة شعر طويلة كأنما هي خصلة شعر امرأة أو لحية شعثاء. كان وجهه مُصفرّاً تغشاه بعض بقع التّراب, أمّا وُجنتيه فقد كانتا متداخلتين. كان ظهره طويلاً ونحيلاً. يده التي كانت تدعم لحيته الكثيفة بدت نحيلة ورقيقة لدرجة أنّها تفزع الناظر عليها. كان شعره قد صُبغ بمسحةٍ فضّية, غير أن رؤية وجهه الهزيل الذي يُحاكي وجه شيخ هرم يجعل الجميع لا يصدقون بأنّه لا يزال في الأربعين من عمره.....لقد كان نائماً وأمام رأسه المنحني كانت هنالك ورقة ملقاة على الطّاولة, حيث كُتِب عليها شيء ما بخط رفيع. فكّر المصرفيّ:"رجلٌ مسكين!" لعلّه الآن نائم وأحلام الملايين تُراوده, وما عليّ الآن إلاّ أن ألقي به على السّرير وأقومُ بخنقه قليلاً باستخدام الوسادة, ولا أحسب أن خبيراً يقظاً سيجد دليلاً على أنه قُتل, لكن عليّ أولا أن أقرأ ما كتبه هنا...." أخذ المصرفيّ الورقة من الطّاولة وقرأ ما يلي: "غداً على السّاعة الحادية عشر سأستعيد حرّيتي والحقّ في الاجتماع مع أناس آخرين, لكن قبل أن أغادر هذا المكان لرؤية أشعّة الشّمس, أعتقد أنّه من الضّروري أن أوجّه لك بعض الكلام. بضمير طاهر, وفي حضرة الإله الذي يشاهدني, أخبرك أنّني أحتقرُ الحرّية , الحياة , الرّخاء, وكل ما يعتبر في كُتبك هذه على أنّه أحسن شيء في الدّنيا. " لقد انكببتُ طيلة خمس عشرة سنة على دراسة الحياة الدّنيوية. صحيح أنّني لم أشاهد العالم والنّاس, لكن في كُتبك شربتُ الخمر الأرج، أنشدتُ الأغاني, اصطدتُ الأيل والخنزير البرّي في الغابات, عشقتُ النساء.......الحسناوات اللائي اختُلقن من قبل الشُّعراء والعباقرة, لقد زرنني جميعا في المساء وروين لي أحلى الحكايات, التي جعلتني أفكّر بانتظام. في كُتُبك تسلّقتُ قمم البُرْز ومون بلان ومن هنالك شاهدتُ شروق الشّمس, كما شاهدتُها في المساء تغشى السّماء والبحر وقمم الجبال بلونها القرمزي. من هنالك شاهدتُ عن قرب لمعان البرق الذي يشقّ الغيوم العاصفة. رأيتُ الغابات الخضراء, الحقول, الأنهار، البحيرات والمُدن. سمعتُ غناء جنيّات البحر وعزف الرعاة. لمست أجنحة الشياطين التي حلّقت نحوي لتحدثني عن الإله. في كتبك ألقيت بنفسي في الهاوية, أحدثتُ المعجزات، قتلتُ, أحرقتُ المدن, بشّرتُ بأديانٍ جديدة, غزوتُ مملكات بأكملها... " منحتني كُتبك الحكمة, إنّ جميع الأفكار التي شغلت الإنسان على مر العصور مضغوطة في مساحة صغيرة من دماغي. أنا أعلم أنّني أعقل منكم جميعاً. " أنا أحتقرُ كُتبك وأحتقر الحكمة وكلّ نِعَم هذه الدّنيا.كلّها تافهة, زائلة, وهمية وخادعة مثل السراب. يمكن لك أن تكون فخوراً, حكيماً, بارعاً, لكنّ الموت سيزيلك من على وجه الأرض كما لو كنت مجرد فأر يختبئ في القعر . وذريتك, تاريخك, عبقريتك الخالدة ستحترق معاً أو تزول مع زوال الحياة الدّنيوية. " لقد فقدتَ صوابك واتّخذتَ الطريق المنحرف, لقد آثرتَ الكذب على الصدق والبشاعة على الجمال. ستتعجّب لو , بداعي أحداث غريبة لبعض الأنواع, فجأة تستسيغ الضّفادع والعظاءات أشجار التّفّاح والبرتقال بدلاً من الفاكهة, أو أن تفوح الورود برائحة حصانٍ مُتعرِّق . لهذا أنا أتعجّب منك كيف تستبدل الجنّة بالدّنيا. أنا لا أريد أن أفهمك. " لأثبتَ لك احتقاري لكلّ ما تنعم به أنت الآن, فإنّني أتخلّى عن المليونين التي كنتُ أعتقد كذا مرّة أنّها الجنّة, والتي أنا الآن أحتقرها. لأجرّد نفسي من حقّي في المال, فإنّني سأخرج من هنا قبل خمس ساعات من الوقت المحدّد. وهكذا أكون قد خرقت الاتّفاق....." عندما قرأ المصرفيّ هذا ألقى الورقة على الطّاولة, قبّل رأس الرجل الغريب وخرج من الحُجرة باكياً.
عندما وصل إلى المنزل تمدّد على سريره, لكن دموعه وعواطفه حالت دون نومه على الفور. في الصّباح التالي سارع الحرّاس بوجوه شاحبة ليخبروه بأنّهم رأوا الرجل الذي يقيم في الحُجرة قد تسلّق عبر النّافذة إلى الحديقة, ثم توجه إلى البوّابة حتى توارى عن الأنظار.على الفور توجّه المصرفيّ مع الخدم إلى الحُجرة للتّأكد من فرار الأسير. لتجنّب إثارة الحديث الذي لا طائل منه, فقد أخذ المصرفيّ الورقة التي تخلّى بموجبها الأسير عن المليونين, وعندما وصل للبيت أقفل عليها في الخزانة المضادة للنيران.
معتبرين إيّاها من مساوئ الماضي, لا أخلاقيّة وغير ملائمة للدول المسيحيّة. رأى بعض المتحاورين أن عقوبة الإعدام يجب أن تُعوَّض بعقوبة السّجن المؤبّد. قال المصرفيّ وصاحب الدّعوة:" أنا لا أتّفق معكم, في الحقيقة, أنا لم أجرّب عقوبة الإعدام أو السّجن المُؤبّد, لكن إن حقّ للمرء الحُكم في الأمر, فإنّه لمن البديهي أنّ عقوبة الإعدام أكثر أخلاقيّة وإنسانيّة من السّجن مدى الحياة. الإعدام يقتل المرء دفعة واحدة, بينما السّجن مدى الحياة هو ذاته الموت البطيء. فبالله عليكم, أيّ الجلاّدين يستحقّ أن يُوصف بالإنسانيّة, أهو ذاك الذي يقتلكم في بضع دقائق, أم الذي يسلبكم الحياة خلال سنوات عدّة ؟
ردّ أحد الضّيوف:" هما يشكلان على حدّ سواء عملاً لا أخلاقياً، فالغاية التي تجمعهما هي ذاتها, فصل الرّوح عن الجسد. الحكومة ليست إله يحقّ له ذلك، فإن هي سلبت المرء الحياة, فإنّها لن تستطيع استعادتها متى شاءت."
من بين الضّيوف كان هنالك محام شاب في الخامسة والعشرين من عمره. لمّا سُئل عن رأيه في الموضوع أفصح قائلا: " إن الحُكم بالإعدام والحُكم بالسّجن المؤبّد كلاهما عمل لا أخلاقي, لكن لو خُيِّرتُ بين الأمرين لاخترتُ بالتّأكيد السّجن المؤبّد, فأنْ تعيش, بأيّة حال, أحسن من أن تفارق الحياة." نشأت عن ذلك إثارة في النّقاش، فالمصرفيّ الأصغر سناً والأكثر عصبيّة في تلك الأيام صرخ فجأة بحماس, وهو يضرب بقبضة يده على الطّاولة, قائلاً للشّاب: " هذا غير صحيح! سأراهن بمليونين على أن تمكثَ في حبس انفرادي لمدّة خمس سنوات.
ردّ الشّاب: " إن كُنت جاداً في هذا، فسأقبل التّحدّي, ولكن لن أمكث خمس سنوات و إنّما خمس عشرة سنة." - " خمس عشرة سنة ؟ حسنا! "." أيّها السّادة, أنا أراهن بمليونين! " - " موافق ! راهن أنت بمليونين وأراهن أنا بحرّيتي." وهكذا نُفّذ هذا الرِّهان المتهوّر الذي لا معنى له. المصرفيّ الطّائش بالملايين ضمن حسابه البنكي كان مسروراً جداً بهذا الرّهان. عند العشاء أخذ يسخر من الشاب قائلاً له :" فكّر ثانية في الأمر مادام هنالك وقت, فبالنسبة لي مليونين مبلغ تافه, أمّا أنت فستخسر ثلاث أو أربع سنوات من أزهى فترات حياتك. أقول ثلاث أو أربع سنوات لأنّك لن تقدر على أكثر من ذلك. لا تنس كذلك، أيّها الرجل التّعيس, أن السّجن الاختياري أكثر مشقّة وصرامة من الإجباري. فأن تُفكّر في تخطّي عتبة السّجن نحو الخارج في أي لحظة, سيُفسد الغاية من وجودك في السّجن. أنا متأسّف على هذا الإجراء." أمّا الآن فالمصرفيّ يتمشى جيئة و ذهاباً, متذكّراً كل تلك الأحداث, مخاطباً نفسه:"ما الغاية من هذا الرّهان؟ما الذي سيجنيه هذا الشّاب من إضاعة خمس عشرة سنة من حياته, وماذا سأستفيد أنا من هدر مليونين عبثاً؟. هل هذا سيُثبت أنّ عقوبة الإعدام أحسن من السّجن المؤبّد؟. لا , لا يمكن. إنّ كلّ هذا عمل تافه وغير معقول. من جهتي, هي الرّغبة في إشباع نزوات شخصيّة, أمّا من جهته فإنّه الطمع في المال....." بعد ذلك تذكّر المصرفيّ ما أعقب تلك الأمسيّة. لقد تقرّر أن يمضي الشّاب سنوات الأسر تحت الرّقابة الصّّارمة في حُجرة داخل حديقة المصرفيّ. تم الاتّفاق على ألاّ يتعدّى الشاب عتبة باب الحُجرة لرؤية النّاس أو سماع أصواتهم, كما لا يحقّ له استلام الرّسائل والصّحف. لقد سُمِح له بالحصول على آلةٍ موسيقية وكتب. كما حقّ له كتابة الرّسائل, شرب الخمر وكذا التّدخين. بمقتضى الاتفاقيّة فإن المنفذ الوحيد للشّاب نحو العالم الخارجي يتمثّل في نافذة صغيرة أُعدّت لهذا الغرض. يمكن للشّاب الحصول على كل ما يريد: كتب, موسيقى, خمر,...وبأيّة كميّة يشاء بعد أن يكتب طلباً خطيّاً, على أن يستلم كل هذه الأشياء عبر النّافذة. نصّت الاتفاقية على كلّ التّفاصيل, حتّى وإن بدت تافهة أحياناً, فقط لضمان عزل الشاب بشكل صارم, وإلزامه بالمكوث في السّجن خمس عشرة سنة بالضبط : بداية من الرابع عشر من نوفمبر من عام 1870 على السّاعة الحادية عشر وانتهاء في الرّابع عشر من نوفمبر من عام 1885 على السّاعة الحادية عشر. إنّ أيّ محاولة من قبل الشّاب لخرق شروط الاتفاقية, ولو قُبيل دقيقتين من نهايتها، ستعفي المصرفيّ من التزامه بدفع المليونين.
بقدر ما يُمكن للمرء الحُكم على السّجين من خلال مذكراته المختصرة, فقد عانى بشدّة في السّنة الأولى من الأسر من الوحدة والكآبة. نغمات جهاز البيانو المنبعثة من الحُجرة كانت تُسمع بشكل
مستمر ليل نهار. رفض الشّاب الخمر والتّبغ, فالخمر, حسبما كتب, يثير الشّهوات والشّهوات هي أخطر عدو للسّجين, فضلاً عن هذا, فليس هنالك شيء أفظع من شرب الخمر وعدم رؤية النّاس, أمّا عن التدخين, فإنّه يُلوّث هواء الحُجرة. الكتب التي طلبها الشّاب في السّنة الأولى تعلّقت بشخصيّات لامعة, روايات حُبّ ذات حبكة معقّدة, قصص مثيرة وخياليّة...
في السّنة الثّانيّة من الأسر كان البيانو ساكناً في الغرفة . ما طلبه الشّاب اقتصر فقط على الدّراسات القديمة. في السّنة الخامسة لم تكن الموسيقى مسموعة كذلك, غير أنّ السّجين طلب الخمر. قال الأشخاص الذين شاهدوه عبر النّافذة أنّه لم يمض تلك السّنة إلا في الأكل والشرب والاستلقاء على سريره, التثاؤب على نحو مستمرّ والحديث مع نفسه بغضب. ببساطة, لم يقرأ الشّاب الكتب. أحيانا في اللّيل كان يجلس للكتابة لكنّه في الصباح يمزّق كل ما كتبه, لقد سُمع يصرخ لأكثر من مرّة. في النّصف الثاني من السّنة السّادسة لأسره, بدأ الشّاب بشغف في دراسة اللّغات, الفلسفة والتّاريخ. انصبّ بشغفٍ على هذه الدّراسات لدرجة أن المصرفيّ أضحى مطالباً بعمل ما فيه الكفاية لجلب الكُتب التي طلبها الشّاب.في غضون أربع سنوات تمّ جلب حوالي ستّة مائة مجلّد كانت تحت طلبه. خلال تلك الفترة استلم المصرفيّ الرسالة التالية من الأسير: " عزيزي السَّجَّان, أنا أكتب لك هذه السّطور بستّ لغات. اعرضها على الأشخاص الذين يتقنون هذه اللّغات , دعهم يقرؤونها , فإن لم يجدوا أيّ خطأ, أرجو منك أن تطلق طلقة ناريّة في الحديقة, فتلك الطلقة ستُثبت لي أنّ جهودي لم تذهب سدى. إنّ العباقرة على مَرِّ العصور وفي كلّ البقاع يتحدّثون بلغات مختلفة, غير أنّ نفس اللّهب يلفحهم جميعا. آهٍ ! لو عرفتَ السّعادة غير الدنيوية التي أشعرُ بها الآن من القدرة على فهمهم جميعاً ! " تم تنفيذ رغبة السّجين, فقد أمر المصرفيّ بإطلاق طلقتين ناريّتين في الحديقة.
بعد العام العاشر جلس الشّاب بثبات أمام الطّاولة لا ليقرأ شيئا عدا الإنجيل. بدا من الغريب بالنّسبة للمصرفيّ أنّ هذا الرجل الذي تضلّع في فهم ستة مائة مجلد في غُضون أربع سنوات، يُضيّع قرابة السّنة في قراءة كتاب سهل الفهم كهذا. أعقب دراسة الإنجيل التّفرغ لعلم اللاهوت وتاريخ الأديان. في السّنتين الأخيرتين من الأسر, قرأ الشاب كميّة معتبرة من الكتب في شتّى الميادين. في
إحدى الفترات كان منشغلاً بالعلوم الطبيعية .بعد ذلك طلب أعمال "بايرون" و"شكسبير". في نفس الوقت كانت هنالك مذكّرات طلب فيها كتباً في الكيمياء والطّبّ والرّواية, فضلاً عن بعض الأطروحات في الفلسفة وعلم اللاهوت. لقد أوحتْ قراءاته بأنّه كمثل رجل يسبح بين حطام سفينته الغارقة, محاولاً أن ينقذ نفسه من خلال التشبّث تارة بساريّة و تارة بأخرى. تذكّر المصرفيّ العجوز كلّ هذا و فكّر قليلاً: "غداً عند السّاعة الحادية عشر سيستعيد حريّته. بمقتضى اتفاقيّتنا, يجب عليّ أن أدفع له مليونين. لو دفعتُ سينتهي كل شيء بالنّسبة لي. سأغدو مفلساً بالكامل." قبل خمس عشرة سنة كانت الملايين تحت حسابه البنكي , أمّا الآن فهو خائف من أن يُسأل عن الشيء الأنبل, أهو التّعهد أم المال؟. المضاربات الخاسرة في البورصة والقمار المفرط فضلاً عن الإثارة المعهودة التي لم يعد قادراً على التّغلّب عليها مع تقدّم السّنوات, كلّها أدّت تدريجياً إلى أفُول نجم المليونير الثّري, الجسور, الفخور والواثق من نفسه. لقد أصبح الآن مصرفيّ من الدّرجة الوسطى يرتعد لكل ارتفاع أو سقوط في الأسهم. تمتم الرجل العجوز وهو يمسك رأسه بيأس: "رهانٌ ملعون!", " لماذا لا يموت الرجل ؟ إنّه فقط في الأربعين من عمره. سيأخذ مني آخر فلس أملكه, سيتزوّج ويستمتع بالحياة, سيضارب في البورصة, بينما أنا أنظر إليه بعين الحسد مثل المتسوّل, لأسمع منه يومياً نفس العبارة:' دعني أساعدك, فأنا مدين لك بالسّعادة في الحياة!', الطريقة الوحيدة التي تنجيني من الإفلاس والخزي هي وفاة الرجل! " دقّت السّاعة الثالثة, أنصت المصرفيّ، الجميع في المنزل نائمون. لا شيء يُسمع في الخارج عدا حفيف الأشجار المتمايلة. دون إحداث جلبة, تناول من الخزانة المضادة للحرائق مفتاح الحجرة التي لم تُفتح منذ خمس عشرة سنة. وضعه في معطفه وخرج من المنزل. كانت الحديقة مظلمة وباردة, فقد كانت الأمطار تتساقط والريّاح العاصفة تهب عبر الحديقة محدثة صفيراً ومؤدية إلى تمايل الأشجار تارة نحو اليمين وتارة أخرى
نحو اليسار. أجهد المصرفيّ بصره لكنه لم ير شيئاً, لا الأرضية, لا النُّصُب البيضاء, لا الحُجرة ولا حتّى الأشجار. مندفعاً نحو المكان الذي توجد فيه الحُجرة, نادى المصرفيّ على الحارس مرّتين, لكنّه لم يتلقّ أي استجابة. من الواضح أنّ الحارس لجأ إلى مكان يقيه من الجوّ العاصف, فلا بد أن يكون الآن نائماً في مكان ما في المطبخ أو الدّفيئة. فكّر الرجل العجوز قليلا: " إذا كانت لديّ الشّجاعة على تنفيذ ما عزمت عليه, فإنّ الشُّبهة ستقع مباشرة على الحارس." تحسّس الرجل العجوز الدّرج والباب وسط الظلام وتوجّه نحو مدخل الحُجرة. التمس طريقه عبر ممرٍّ صغير وأوقد عود ثقاب. لم يكن هنالك أحد, ما كان هنالك إلا هيكل سرير دون أفرشة, وفي الزّاوية الأخرى موقد مصنوع من الحديد . سِداد الباب المؤدّي إلى غرفة السّجين كان سليماً. عند أفول عود الثّقاب، ارتجف الرّجُل العجوز كليّاً, وهو يحاول أن يختلس النّظر عبر النّافذة. كانت الشّمعة تشتعل بشكل خافت في حُجرة الأسير. لقد كان جالساً على الطّاولة, لا شيء يمكن أن يُرى عدا ظهره, شعر رأسه ويديه. كانت بعض الكُتب المفتوحة ملقاة على الطّاولة,على كرسيي الاستراحة وعلى البساط. مضت خمسُ دقائق والسّجين لم يُحرّك ساكناً .خمس عشرة سنة علّمته كيف يجلس في سكون. قرع المصرفيّ بأصابعه على النّافذة, لكنّ السجين لم يحدث أيّ حركة بالمقابل. بحذر قام المصرفيّ بكسر سِداد الباب ليضع المفتاح في فتحة المفاتيح. أحدث القُفل الصّدِئ صريراً, ليفتح الباب بصرير آخر. توقّع المصرفيّ أن يسمع وقع أقدام وصراخاً من الدّهشة, لكن مضت ثلاث دقائق والهدوء يُخيّم على المكان. عندئذٍ قرّر المصرفيّ الدّخول. عند الطّاولة كان رجلٌ ليس كباقي النّاس يجلس في سكون. إنّه مجرّد هيكلٌ عظميّ بطبقةٍ من الجِّلد تكسو عظامه بإحكام، وبخصلة شعر طويلة كأنما هي خصلة شعر امرأة أو لحية شعثاء. كان وجهه مُصفرّاً تغشاه بعض بقع التّراب, أمّا وُجنتيه فقد كانتا متداخلتين. كان ظهره طويلاً ونحيلاً. يده التي كانت تدعم لحيته الكثيفة بدت نحيلة ورقيقة لدرجة أنّها تفزع الناظر عليها. كان شعره قد صُبغ بمسحةٍ فضّية, غير أن رؤية وجهه الهزيل الذي يُحاكي وجه شيخ هرم يجعل الجميع لا يصدقون بأنّه لا يزال في الأربعين من عمره.....لقد كان نائماً وأمام رأسه المنحني كانت هنالك ورقة ملقاة على الطّاولة, حيث كُتِب عليها شيء ما بخط رفيع. فكّر المصرفيّ:"رجلٌ مسكين!" لعلّه الآن نائم وأحلام الملايين تُراوده, وما عليّ الآن إلاّ أن ألقي به على السّرير وأقومُ بخنقه قليلاً باستخدام الوسادة, ولا أحسب أن خبيراً يقظاً سيجد دليلاً على أنه قُتل, لكن عليّ أولا أن أقرأ ما كتبه هنا...." أخذ المصرفيّ الورقة من الطّاولة وقرأ ما يلي: "غداً على السّاعة الحادية عشر سأستعيد حرّيتي والحقّ في الاجتماع مع أناس آخرين, لكن قبل أن أغادر هذا المكان لرؤية أشعّة الشّمس, أعتقد أنّه من الضّروري أن أوجّه لك بعض الكلام. بضمير طاهر, وفي حضرة الإله الذي يشاهدني, أخبرك أنّني أحتقرُ الحرّية , الحياة , الرّخاء, وكل ما يعتبر في كُتبك هذه على أنّه أحسن شيء في الدّنيا. " لقد انكببتُ طيلة خمس عشرة سنة على دراسة الحياة الدّنيوية. صحيح أنّني لم أشاهد العالم والنّاس, لكن في كُتبك شربتُ الخمر الأرج، أنشدتُ الأغاني, اصطدتُ الأيل والخنزير البرّي في الغابات, عشقتُ النساء.......الحسناوات اللائي اختُلقن من قبل الشُّعراء والعباقرة, لقد زرنني جميعا في المساء وروين لي أحلى الحكايات, التي جعلتني أفكّر بانتظام. في كُتُبك تسلّقتُ قمم البُرْز ومون بلان ومن هنالك شاهدتُ شروق الشّمس, كما شاهدتُها في المساء تغشى السّماء والبحر وقمم الجبال بلونها القرمزي. من هنالك شاهدتُ عن قرب لمعان البرق الذي يشقّ الغيوم العاصفة. رأيتُ الغابات الخضراء, الحقول, الأنهار، البحيرات والمُدن. سمعتُ غناء جنيّات البحر وعزف الرعاة. لمست أجنحة الشياطين التي حلّقت نحوي لتحدثني عن الإله. في كتبك ألقيت بنفسي في الهاوية, أحدثتُ المعجزات، قتلتُ, أحرقتُ المدن, بشّرتُ بأديانٍ جديدة, غزوتُ مملكات بأكملها... " منحتني كُتبك الحكمة, إنّ جميع الأفكار التي شغلت الإنسان على مر العصور مضغوطة في مساحة صغيرة من دماغي. أنا أعلم أنّني أعقل منكم جميعاً. " أنا أحتقرُ كُتبك وأحتقر الحكمة وكلّ نِعَم هذه الدّنيا.كلّها تافهة, زائلة, وهمية وخادعة مثل السراب. يمكن لك أن تكون فخوراً, حكيماً, بارعاً, لكنّ الموت سيزيلك من على وجه الأرض كما لو كنت مجرد فأر يختبئ في القعر . وذريتك, تاريخك, عبقريتك الخالدة ستحترق معاً أو تزول مع زوال الحياة الدّنيوية. " لقد فقدتَ صوابك واتّخذتَ الطريق المنحرف, لقد آثرتَ الكذب على الصدق والبشاعة على الجمال. ستتعجّب لو , بداعي أحداث غريبة لبعض الأنواع, فجأة تستسيغ الضّفادع والعظاءات أشجار التّفّاح والبرتقال بدلاً من الفاكهة, أو أن تفوح الورود برائحة حصانٍ مُتعرِّق . لهذا أنا أتعجّب منك كيف تستبدل الجنّة بالدّنيا. أنا لا أريد أن أفهمك. " لأثبتَ لك احتقاري لكلّ ما تنعم به أنت الآن, فإنّني أتخلّى عن المليونين التي كنتُ أعتقد كذا مرّة أنّها الجنّة, والتي أنا الآن أحتقرها. لأجرّد نفسي من حقّي في المال, فإنّني سأخرج من هنا قبل خمس ساعات من الوقت المحدّد. وهكذا أكون قد خرقت الاتّفاق....." عندما قرأ المصرفيّ هذا ألقى الورقة على الطّاولة, قبّل رأس الرجل الغريب وخرج من الحُجرة باكياً.
عندما وصل إلى المنزل تمدّد على سريره, لكن دموعه وعواطفه حالت دون نومه على الفور. في الصّباح التالي سارع الحرّاس بوجوه شاحبة ليخبروه بأنّهم رأوا الرجل الذي يقيم في الحُجرة قد تسلّق عبر النّافذة إلى الحديقة, ثم توجه إلى البوّابة حتى توارى عن الأنظار.على الفور توجّه المصرفيّ مع الخدم إلى الحُجرة للتّأكد من فرار الأسير. لتجنّب إثارة الحديث الذي لا طائل منه, فقد أخذ المصرفيّ الورقة التي تخلّى بموجبها الأسير عن المليونين, وعندما وصل للبيت أقفل عليها في الخزانة المضادة للنيران.
طبيب وكاتب مسرحي
ومؤلف قصصي روسي كبير ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب
القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص
القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير
عظيم على دراما القرن العشرين. بدأ تشيخوف الكتابة
عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو ولم يترك الكتابة حتى أصبح من اعظم
الادباء واستمر أيضاً في مهنة الطب وكان يقول " ان الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي
".
فهم كنه الحياة واستبصار ماهية الوجود
ReplyDeleteلا تقود إلا إلى سبيل واحد
سبيل العشق الألهي والطمع في ما عند الرب
والزهد بالدنيا وما فيها من زائف وزائل
روعة الخيال
ReplyDelete