أقــدار

 تأليف الكاتب البلغاري: تونتشو أندرييف
ترجمة: علي أحمد ناصر




اهتزَ زجاج النوافذ بقوة بسبب الضجيج العالي والمتصاعد، وتصادمت الكؤوس على الطاولة فاستيقظ مذعوراً.
قرع أحدهم بإلحاح شديد على بوابة الدار، وناداه باسمه، فنهض عاري الصدر وخرج حافي القدمين. قرب السور الخشبي كان البلدوزر يزأر بعناد تتقدمه شفرته الضخمة. ومن كبينه ظهر وجه
السائق الدهني النعسان. أما المختار إيليا فقد كان ما يزال يقرع خشب البوابة بعكازه الدقيق.
اختفت كف العم سابي تحت سترته مفتوحة الأزرار وبدأ يفرك جسمه لا شعورياً، إذ لم يكن هناك ما يهرشه، ربما كان السبب القشعريرة الناتجة عن لسعات برودة الفجر الواخزة.
نظر نحو الجهة التي تحاول فيها الشمس فتح جفنيها المحمرين وجرى بحذر على درجات السلم الحجري الباردة، تمطَّى متثائباً عند البوابة الخارجية وتساءل بضجر: " ما هذا؟ لماذا يزعجون الناس في الصباح الباكر هكذا؟"
- سوف نقتلع شجرة الدردار.
أعلن المختار قراره، وهو يشير بعكازه اللامع نحو الشجرة الضخمة أمام البوابة الخشبية لدار العم سابي.
نظر العم سابي نحو شجرة الدردار الضخمة. ساقها المنتصبة باستقامة، المغطاة بقشرة بنية مجعدة، الأغصان السامقة وارفة الظلال، جميعها بدت بسكونها العميق وكأنها مذنبة . ومن أعلى
الشجرة صفقت بجناحيها يمامة بغضب وطارت بعيداً عن عشها أعلى الشجرة.
كان العم سابي يعلم أنهم سيقتلعونها ذات يوم. لذلك كان يقف عند عودته من الحقل كل يوم تحت أغصانها ويحدق ،غير مصدق، بجزعها المنتصب كي يتأكد من بقائها ثم يبتسم ويلوح بيده محيياً قبل أن يدخل داره.
كان يستيقظ كل صباح على صوت تغريد عزيز عليه لذكر الشحرور. الذي اعتاد إعادة بناء عشه كل عام فيها، وكان ينتظر قدومه مطلع كل ربيع، حين يصدح بقوة جنونية ليوقظه، عندها ينزع عنه لحافه الملتف به ويراه عبر النافذة على الأغصان المتدلية فيبتسم ويخرج لاستقباله برجليه المتخشبتين من الصقيع.
" كنت أعلم أنهم سيقتلعون....."
- إنه قرار يا عم سابي..
أيقظه من ذهوله صوت المختار.
- ومن صاحب القرار؟ الشجرة شجرتي! صرخ العم سابي بغضب.
- إنها مريضة، مصابة بمرض هولندي، هيا انظر ، تعال وانظر..
و أشار المختار بعكازه نحو غصن يابس. ثم تابع:
- لقد أمروا باستئصالها!
وجم العم سابي. فقد كانت الشجرة شاهداً على أفراحه وأتراحه. كما كان قد اعتاد عند شعوره بالوحدة المضنية الجلوس عند ساقها القوية، كي يصغي لحفيف أوراقها. كان ذلك الحفيف الأمر الوحيد
الذي يعيد للوراء الكثير من صفحات الذكريات في حياته.
قبل كل شيء، كان ذاك الطفل الحافي القدمين يجمع التراب الساخن، ويوزعه كومات صغيرة براحتيه حول ساق الشجرة. إنه هو. في ذلك الوقت ولدت أغلى الذكريات ذكرى "يوم غيورغي"
(( يوم غيورغي: لكل اسم قديس يوم في السنة يحتفل فيه من يحملون هذا الاسم. المترجم )) حيث تجمع سكان الحي جميعاً هنا. ربطوا أرجوحة مشدودة بحبلين متينين لأغلظ غصن في الشجرة، وبدؤوا يتأرجحون. وكان الفتيان يوخزون سيقان الصبايا بحواف الأوراق الإبرية، فيصرخْن ويضحكْنَ و يُغنِّينَ . لم يكن صراخهنَّ بسبب الألم بل من الفرح، ولأنهنَّ، أيضاً، كنَّ يردن لهذه اللعبة أن لا تنتهي. وكانت حبال الأرجوحة تدور وتنطلق نحو السماء العالية.

بعد زمن، كانت هناك أرجوحة أيضاً، كانت هذه المرة من أجل ستانتشو. وقد ربطت على الغصن نفسه. وكان ستانتشو يتأرجح لاهياً ويركل الهواء برجليه الحافيتين، ويصرخ بفرح غامر وهو يظن أنه يستطيع الطيران للوصول إلى الأوراق الصاخبة في الأعلى. في حين كان مع والدته يوزعان العيدان اليابسة على سور الدار، والعرق المالح يغطي وجهيهما.
في الصفحة التالية.... الصفحة التي ربما لا يريد تصفحها.. يتحول همس الجزع إلى دوي..
كان ذلك عندما عاد ستانتشو من صوفيا، وقال أنه ببساطة عاد كي يمكث ليوم أو يومين فقط. لقد فهم الوالد حالته، ولم يرد الإلحاح بالأسئلة عن أسباب عودته المفاجئة، قريباً سيصبح مهندساً، ماذا يستطيع تفكير قروي بسيط مثله أن يقدم له! فخرج عند الظهيرة يتجول في القرية عله يشم رائحة خبر ما عن أمر ابنه. لكن، وقبل
أن يعبر الجسر الصغير فوق النهر الذي يسقي القرية ويقسمها إلى حيين، لاحظ نشاطاً غير عادي أمام المبنى الحكومي، حيث ظهرت بعض القبعات الزرقاء. توقف يراقب حركة رجال الشرطة وهم يعبرون النهر الصغير بسرعة نحو الشارع المقابل، بعد قليل سمع طلقات نارية تلاها صراخ وعويل عالٍ يصدر من هناك، والناس يركضون تجاه حارته، فركض ليرى ما يحدث في حيه، شعر بحدس غريب يحثه للتوجه نحو البيت. عندما وصل، كان يلهث بصعوبة بالغة، وجد داره تعج برجال الشرطة، ومن الغصن الأكبر لشجرة الدردار التي اعتاد ربط أرجوحة الأولاد عليه، كان ولده ستانتشو يتدلى مشنوقاً! تجمد كحجر وبدا مصعوقاً قبالة البوابة وهو يحدق بابنه بعينين لا ترفان. لم يستطع الصراخ وقتذاك أو التحرك من مكانه.
يتذكر العم سابي دوماً هذه الأشياء عندما يريح ظهره لجزع الشجرة المنتصب...
اعتاد شبان القرية القدوم في مثل ذاك اليوم من كل سنة، يحملون إكليلاً كبيراً من الزهور، يضعونه على ساق الشجرة، ثم يتجمعون حول العجوز، يرجونه أن يحدثهم عن ستانتشو. يبقون، ينصتون، ثم يغادرون. أما العم سابي فيستمر جالساً يمسح بيديه بلطف على الأوراق الطرية لأزهار وورود الإكليل حتى وقت متأخر من الليل، عندما يطغى الندى برطوبته على شاربيه المصفرين.
كان يصغي ذلك اليوم لحفيف أوراق الشجرة ويرجو أن لا يتصفح أوراق الماضي.

قبل عامين، في ذلك الربيع الجليدي لاحظ تأخر ازدهار شجرة الدردار، في حين كانت تبكر بتساقط أوراقها في الخريف.
سألها:
- ما بك يا أختاه؟
لكن الشجرة لم تجبه. وشيئاً فشيئاً بدأت أغصانها العارية ترتجف وتئن كأن عارضاً ثقيلاً يؤلمها.
- وأنا أيضاً أشعر بشيء يعصر قلبي، شخنا يا أختاه شخنا.
كان يتحدث مع الشجرة..
في الربيع التالي لم تنمُ الأغصان العلوية للشجرة، بل يبست!
تابع العم سابي كلامه:
- هكذا إذن! عاجلاً أم آجلاً سيسبق أحدنا الآخر، مغادراً هذا العالم. لكن الدردار يموت صامتاً، دون أن تعلم سبب موته، دون أن تعرف مرضه. ها هم يقولون الآن أن المرض الهولندي هذا لا شفاء منه. يبدو أنه كالسرطان عند الإنسان.
- لا يهم يا عم سابي. أجابه المختار وتابع موجهاً كلامه لسائق البلدوزر:
- هيا أيها الشاب هيا!
تحرك الشاب بخفة، ربط طرف سلسلة فولاذية حول ساق الشجرة الضخمة، بينما ثبت الطرف الآخر بحلقة البلدوزر.
تجمد العم سابي في مكانه. إنه نوع من الشنق، إنها تشبه عملية الشنق التي....
- توقف! ماذا تفعل؟ هذا مستحيل! أنا لا أسمح...
زأر البلدوزر بصوت عالٍ وتحرك مبتعداً فاستقامت السلسلة الفولاذية، أصبحت مشدودة، أنَّت جذور الشجرة بصوت عال، تقطعت أوصالها، وانفصلت عن بعضها متكسرة، إنهم يحطموها! تصدعت الشجرة اليابسة، طلبت النجدة. شيء ما يتقطع في صدر العم سابي أيضاً. اليمامة تطير مرعوبة وتحط أحياناً على طرف النافذة، ورأسها الرمادي يدور وهي تحدق مستنكرة في كل الاتجاهات.
..
بعد أيام قليلة، حلق رفٌّ من طيور اليمام فوق المكان الفارغ للشجرة، حدقوا بآثار جنزير البلدوزر في الأرض الخالية، أصدروا أصوات غريبة وعالية ومذعورة، ثم طاروا بعيداً إلى مكان مجهول.


1 comment:

  1. وحدهم من عاشوا في الطبيعة وتأملوا في جمال خلقها وحكمة وجودها، يعلمون أن جذور الأشجار هي صفحات من تاريخ الوجود، يُسجل عليها تاريخ البشرية، فكل غصن هو رواية إنسان وكل ورقة هي ذكرى من ذكرياته. أن يقطعوا شجرة عاش معها إنسانٌ ما كل أفراحه وأتراحه، كمن جمع ذكرياته في سلة مهملات وأحرق أوراقها وأسمى معانيها

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget