مقطع من رواية "العمى" للروائي جوزيه ساراماجو
في اليوم التالي، نهض بعض العمي مبكراً، وبعضهم متأخراً، لأنَ الشمس لم تبزغ في الوقت نفسه على أولئك العمي، وهذا يعتمد غالباً على رهافة سمع كل منهم، وراح الرجال العمي والنساء العمياوات من مختلف الردهات يتجمعون قرب العتبات
الخارجية للمبنى، ما عدا الردهة التي يشغلها السفاحون، الذين كانوا يتناولون فطورهم في هذه الساعة. كانوا ينتظرون أن يفتح السفاحون البوابة، من خلال سماع صوت مفاصلها الحادة لعدم إدامة تزييتها، وأعلنت أصوات وصول الطعام، بعدها جاء صوت الضابط، لا تتحركوا من مكانكم، لن يقترب أحد منكم، كانوا يسمعون الجنود وهم يجرون بخطاهم، وأصوات حاويات الطعام الثقيلة، التي ترتطم على الأرض، وانسحابهم السريع، والأكثر من هذا قرقعة صوت البوابة، وأخيرا، صوت الآمر، والآن، بإمكانكم التقدم، استمروا ينتظرون الى منتصف النهار ومنه إلى وقت العصر، لا أحد، بما في ذلك، زوجة الطبيب، يسأل عن الطعام. وبقوا مدة طويلة لا يسألون فيها لأنهم لا يريدون ان يسمعوا كلمة لا، المرعبة، وبقوا فترة طويلة لم يسمعوا هذه الكلمة المرعبة ولا كلمات مرادفة لها لأنهم لم يسألوا، الطعام آت، الطعام آت، اصبروا، تحملوا الجوع قليلاً، بعضهم أراد، أن يقول، إنهم لن يستطيعوا التحمل أكثر من هذا، وأغمي عليهم كما لو أنهم غطوا في سبات، ومن حسن حظهم كانت زوجة
الطبيب هناك لتقديم إسعافات لهم، لا أحد يصدق، كيف تتدبر تلك المرأة كل ما يحدث، ربما أنها موهوبة بحاسة سادسة، أو نوع من الرؤية دون عينين، والفضل يعود لها لأنَ أولئك المساكين البؤساء لم يبقوا تحت أشعة الشمس المحرقة، وسرعان ما نقلوا إلى داخل ردهاتهم، ومع مرور الوقت، ورش الماء عليهم، والربت الخفيف على وجوههم استعادوا في نهاية الأمر وعيهم. ولكن، ليس بالإمكان الاعتماد عليهم في الحرب في نهاية المطاف، لأنهم لم يعد بمقدورهم الإمساك بقطة من ذيلها. وأخيرا، قال الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه، لم يأت الطعام، الطعام لن يأت. دعونا نذهب لنجلب الطعام. نهضوا، وذهبوا للاجتماع في الردهة البعيدة عن معقل السفاحين، كي لا يكرروا حماقاتهم التي قاموا بها في اليوم السابق، ومن هناك أرسلوا جواسيس الى الجناح الآخر، هم نزلاء في ذلك الجناح وأكثر ألفة معهم، وفي لحظة الشك الأولى، عادوا ليحذرونا. ذهبت معهم زوجة الطبيب وعادت تحمل معلومة مثبطة، أنهم أقاموا حواجز من الأسرَة في مدخل الجناح إذ وضعوا بعضها فوق البعض الآخر، كيف عرفتم عدد الأسرَة، سأل أحدهم، ليس بالأمر الصعب، فقد عرفتها عن طريق التلمس، وهل شخَصك أحدهم، لا أعتقد ذلك، ماذا سنفعل الآن، دعونا ننطلق، قال الرجل الأعمى ذوالعصابة السوداء، مكرراً كلامه، وننفذ ما قد قررناه، أو نحكم على أنفسنا بالموت البطيء. سيموت بعضنا إذا ذهبنا إلى هناك، قال الرجل الأعمى الأول، أي واحد يفكر بالموت فهو ميت، دون أن يشعر، أننا سنموت عاجلاً أو آجلاً أننا نعرف هذا منذ اللحظة الأولى التي ولدنا فيها، لذلك، وبطريقة ما، كما لو أننا ولدنا أمواتاً، علّقت الفتاة ذات النظارات السوداء، كفى ثرثرة، أنني لن أذهب وحدي إلى هناك، ولكن إذا تراجعنا من حيث كنَا اتفقنا عليه، في هذه الحالة أنني سأستلقي على سريري وأموت بالطريقة التي أشاء، كل امريء يموت في يوم أجله، ولا شيء آخر غير هذا، قال الطبيب، وهو يرفع صوته، على كل من يريد أن يذهب عليه أن يرفع يده، هذا ما يحدث لأولئك الذين لايفكرون مرتين قبل أن يتكلموا، فما فائدة رفع الأيدي اذا لم يكن هناك من يستطيع أن يعدَها، وهكذا، كان يعتقد عموماً، وبعد ذلك، قال، ثلاثة عشر، في هذه الحالة، من المؤكد سيشرع نقاش، يتأسس في ضوء المنطق، ليأخذ اتجاهاً صحيحاً، فيما اذا كانوا بحاجة الى متطوع آخر، لتجنب الرقم المشؤوم 13، أو تجنبه عن طريق إنقاصه رقماً واحداً ليكون إثني عشر، بعد إجراء القرعة لإسقاط أسمه، بعضهم رفعوا أيديهم بقناعة واهية، تصاحبها إيماءة من الشك والتردد المضلل، إن كان ذلك بسبب إدراكهم للخطر الذي سيعرضون أنفسهم اليه، أو بسبب إدراكهم لعبثية هذا النظام. ضحك الطبيب، كم كان الأمر سخيفا أن أسالكم أن ترفعوا أيديكم، دعونا نتعامل مع الأمر بطريقة أخرى، لندع أولئك الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في الانسحاب، ويبقى الآخرون ليقرروا ما الذي سيفعلونه. ثمة حركة، صوت أقدام، دمدمة، تنهدات، وانسحب الضعفاء والمتنرفزون تدريجيا، كانت فكرة الطبيب رائعة وأصيلة، وبهذه الطريقة سيكون من السهولة بمكان أن نعرف من الذي يبقى ومن الذي لا يبقى. عدَت زوجة الطبيب الذين قرروا المواجهة، كان عددهم سبعة عشر رجلا وحسبت نفسها فضلا عن زوجها. ومن الردهة التي تقع على الجانب الأيمن، كان الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه، ومساعد الصيدلي، والفتاة ذات النظارة السوداء، وجميع المتطوعين من الردهات الأخرى هم من الرجال، ما عدا المرأة التي قالت لزوجة الطبيب، أينما ذهبت، سأذهب معك، كانت هنا أيضا. شكلوا طابوراً عبر الممر، عدَهم الطبيب، سبعة عشر، نحن سبعة عشر، لم يكن عددا كبيرا، لاحظ مساعد الصيدلي، لسنا قادرين على تحقيق ما نصبوا اليه، فجبهة الهجوم، إذا جاز لي استخدام هذا المصطلح العسكري، ستكون ضيقة، قال الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينية، يجب أن نكون قادرين على الدخول من خلال الباب، أنا مقتنع أنَ الأمر سيكون أكثر تعقيداً اذا دخلنا بعددنا هذا، وسنكون هدفاً سهلاً، وافقه رجل آخر، ويبدو أنهم كانوا مسرورين جداً في نهاية الأمر أنَ عددهم كان أقل.
جوزيه دي سوزا ساراماغو (بالبرتغالية José de Sousa Saramago) ( 1922 - 2010) روائي حائز على جائزة نوبل
في اليوم التالي، نهض بعض العمي مبكراً، وبعضهم متأخراً، لأنَ الشمس لم تبزغ في الوقت نفسه على أولئك العمي، وهذا يعتمد غالباً على رهافة سمع كل منهم، وراح الرجال العمي والنساء العمياوات من مختلف الردهات يتجمعون قرب العتبات
الخارجية للمبنى، ما عدا الردهة التي يشغلها السفاحون، الذين كانوا يتناولون فطورهم في هذه الساعة. كانوا ينتظرون أن يفتح السفاحون البوابة، من خلال سماع صوت مفاصلها الحادة لعدم إدامة تزييتها، وأعلنت أصوات وصول الطعام، بعدها جاء صوت الضابط، لا تتحركوا من مكانكم، لن يقترب أحد منكم، كانوا يسمعون الجنود وهم يجرون بخطاهم، وأصوات حاويات الطعام الثقيلة، التي ترتطم على الأرض، وانسحابهم السريع، والأكثر من هذا قرقعة صوت البوابة، وأخيرا، صوت الآمر، والآن، بإمكانكم التقدم، استمروا ينتظرون الى منتصف النهار ومنه إلى وقت العصر، لا أحد، بما في ذلك، زوجة الطبيب، يسأل عن الطعام. وبقوا مدة طويلة لا يسألون فيها لأنهم لا يريدون ان يسمعوا كلمة لا، المرعبة، وبقوا فترة طويلة لم يسمعوا هذه الكلمة المرعبة ولا كلمات مرادفة لها لأنهم لم يسألوا، الطعام آت، الطعام آت، اصبروا، تحملوا الجوع قليلاً، بعضهم أراد، أن يقول، إنهم لن يستطيعوا التحمل أكثر من هذا، وأغمي عليهم كما لو أنهم غطوا في سبات، ومن حسن حظهم كانت زوجة
الطبيب هناك لتقديم إسعافات لهم، لا أحد يصدق، كيف تتدبر تلك المرأة كل ما يحدث، ربما أنها موهوبة بحاسة سادسة، أو نوع من الرؤية دون عينين، والفضل يعود لها لأنَ أولئك المساكين البؤساء لم يبقوا تحت أشعة الشمس المحرقة، وسرعان ما نقلوا إلى داخل ردهاتهم، ومع مرور الوقت، ورش الماء عليهم، والربت الخفيف على وجوههم استعادوا في نهاية الأمر وعيهم. ولكن، ليس بالإمكان الاعتماد عليهم في الحرب في نهاية المطاف، لأنهم لم يعد بمقدورهم الإمساك بقطة من ذيلها. وأخيرا، قال الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه، لم يأت الطعام، الطعام لن يأت. دعونا نذهب لنجلب الطعام. نهضوا، وذهبوا للاجتماع في الردهة البعيدة عن معقل السفاحين، كي لا يكرروا حماقاتهم التي قاموا بها في اليوم السابق، ومن هناك أرسلوا جواسيس الى الجناح الآخر، هم نزلاء في ذلك الجناح وأكثر ألفة معهم، وفي لحظة الشك الأولى، عادوا ليحذرونا. ذهبت معهم زوجة الطبيب وعادت تحمل معلومة مثبطة، أنهم أقاموا حواجز من الأسرَة في مدخل الجناح إذ وضعوا بعضها فوق البعض الآخر، كيف عرفتم عدد الأسرَة، سأل أحدهم، ليس بالأمر الصعب، فقد عرفتها عن طريق التلمس، وهل شخَصك أحدهم، لا أعتقد ذلك، ماذا سنفعل الآن، دعونا ننطلق، قال الرجل الأعمى ذوالعصابة السوداء، مكرراً كلامه، وننفذ ما قد قررناه، أو نحكم على أنفسنا بالموت البطيء. سيموت بعضنا إذا ذهبنا إلى هناك، قال الرجل الأعمى الأول، أي واحد يفكر بالموت فهو ميت، دون أن يشعر، أننا سنموت عاجلاً أو آجلاً أننا نعرف هذا منذ اللحظة الأولى التي ولدنا فيها، لذلك، وبطريقة ما، كما لو أننا ولدنا أمواتاً، علّقت الفتاة ذات النظارات السوداء، كفى ثرثرة، أنني لن أذهب وحدي إلى هناك، ولكن إذا تراجعنا من حيث كنَا اتفقنا عليه، في هذه الحالة أنني سأستلقي على سريري وأموت بالطريقة التي أشاء، كل امريء يموت في يوم أجله، ولا شيء آخر غير هذا، قال الطبيب، وهو يرفع صوته، على كل من يريد أن يذهب عليه أن يرفع يده، هذا ما يحدث لأولئك الذين لايفكرون مرتين قبل أن يتكلموا، فما فائدة رفع الأيدي اذا لم يكن هناك من يستطيع أن يعدَها، وهكذا، كان يعتقد عموماً، وبعد ذلك، قال، ثلاثة عشر، في هذه الحالة، من المؤكد سيشرع نقاش، يتأسس في ضوء المنطق، ليأخذ اتجاهاً صحيحاً، فيما اذا كانوا بحاجة الى متطوع آخر، لتجنب الرقم المشؤوم 13، أو تجنبه عن طريق إنقاصه رقماً واحداً ليكون إثني عشر، بعد إجراء القرعة لإسقاط أسمه، بعضهم رفعوا أيديهم بقناعة واهية، تصاحبها إيماءة من الشك والتردد المضلل، إن كان ذلك بسبب إدراكهم للخطر الذي سيعرضون أنفسهم اليه، أو بسبب إدراكهم لعبثية هذا النظام. ضحك الطبيب، كم كان الأمر سخيفا أن أسالكم أن ترفعوا أيديكم، دعونا نتعامل مع الأمر بطريقة أخرى، لندع أولئك الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في الانسحاب، ويبقى الآخرون ليقرروا ما الذي سيفعلونه. ثمة حركة، صوت أقدام، دمدمة، تنهدات، وانسحب الضعفاء والمتنرفزون تدريجيا، كانت فكرة الطبيب رائعة وأصيلة، وبهذه الطريقة سيكون من السهولة بمكان أن نعرف من الذي يبقى ومن الذي لا يبقى. عدَت زوجة الطبيب الذين قرروا المواجهة، كان عددهم سبعة عشر رجلا وحسبت نفسها فضلا عن زوجها. ومن الردهة التي تقع على الجانب الأيمن، كان الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه، ومساعد الصيدلي، والفتاة ذات النظارة السوداء، وجميع المتطوعين من الردهات الأخرى هم من الرجال، ما عدا المرأة التي قالت لزوجة الطبيب، أينما ذهبت، سأذهب معك، كانت هنا أيضا. شكلوا طابوراً عبر الممر، عدَهم الطبيب، سبعة عشر، نحن سبعة عشر، لم يكن عددا كبيرا، لاحظ مساعد الصيدلي، لسنا قادرين على تحقيق ما نصبوا اليه، فجبهة الهجوم، إذا جاز لي استخدام هذا المصطلح العسكري، ستكون ضيقة، قال الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينية، يجب أن نكون قادرين على الدخول من خلال الباب، أنا مقتنع أنَ الأمر سيكون أكثر تعقيداً اذا دخلنا بعددنا هذا، وسنكون هدفاً سهلاً، وافقه رجل آخر، ويبدو أنهم كانوا مسرورين جداً في نهاية الأمر أنَ عددهم كان أقل.
جوزيه دي سوزا ساراماغو (بالبرتغالية José de Sousa Saramago) ( 1922 - 2010) روائي حائز على جائزة نوبل
للأدب ( 1998) وكاتب مسرحي وصحفي برتغالي.
رواية " العمى" التى حصل بسببها ساراماغو على جائزة نوبل تتلخص بالتالي:
رجل يصاب بعمى من نوع غريب، عمى أبيض، يرى كل شيء أبيض ومشعاً، مثل ضوء شمس قوي اضاء في عينيه فمنعه من رؤية كل شيء. ثم سرعان ما ينتشر هذا النوع من العمى في أوساط المجتمع كله فينتقل مثل جرثومة أو طاعون ليصيب المجتمع كله. فقط امرأة واحدة لأسباب غريبة لم تنتقل اليها العدوى، ظلت مبصرة، وحدها ترى بين هذا الكم الهائل من العميان.الرواية تصف بشكل رمزي المجتمع الذي نعيش فيه، مجتمعاً أعمى وليس القصد هو العمى الجسماني المادي وانما العمى الفكري: أي الجهل.
رواية " العمى" التى حصل بسببها ساراماغو على جائزة نوبل تتلخص بالتالي:
رجل يصاب بعمى من نوع غريب، عمى أبيض، يرى كل شيء أبيض ومشعاً، مثل ضوء شمس قوي اضاء في عينيه فمنعه من رؤية كل شيء. ثم سرعان ما ينتشر هذا النوع من العمى في أوساط المجتمع كله فينتقل مثل جرثومة أو طاعون ليصيب المجتمع كله. فقط امرأة واحدة لأسباب غريبة لم تنتقل اليها العدوى، ظلت مبصرة، وحدها ترى بين هذا الكم الهائل من العميان.الرواية تصف بشكل رمزي المجتمع الذي نعيش فيه، مجتمعاً أعمى وليس القصد هو العمى الجسماني المادي وانما العمى الفكري: أي الجهل.
ليس العمى أن لا ترى الأشياء أمامك. لكن العمى أن لا تعي ما يجري من حولك
ReplyDeleteالأول هو عتمٌ في العيون، وأما الثاني فهو العيش في ظلام الجهل
شكراً لمرورك العطر لينا أشتاقكم كثيراً , تقبلي خالص أمنياتي ووافر تحياتي . وكل عام وانتم بخير
Delete