لا أحد من الباريسيين لا يعرف "الاسكافي بلوندو" الذي يتخذ من دكانٍ في شارع "كرتيسى دوتيرير" مأوى للعمل والسكن .. يُصلح ما اهترأ من الأحذية ويهزأ ممّن لا يتمتع بالحياة .. يحسب دنياه
فسحةً للبهجة والنبيذ الفاخر حباً يعلو فوق عديد الرغبات , مستعداً لمشاركة من يبغي منادمته صارفاً نهاره مدندنا ًومغنياً ، داعياً
جيرانه للاستمتاع ..لهذا لم يكن يوما كمداً ولا حزيناً باستثناء مشكلتين مازال يتذكرهما : الأولى يوم عثر على قدر حديدي في جدار متهالك, فوجده مليئا بكمية وفيرة من مال لعملة قديمة , قديمة جداً ؛ ذهباً وفضة .. ولأنه وقف عاجزاً عن تقدير قيمتها الهائلة فقد سبّبت لديه قلقاً .. صار شغله الشاغل ذلك القدر المليء بالقطع البراقة , لذا طفق يفكر : " إن لم يكن المال رهن الاستعمال في هذا الوقت فمتى إذا يمكنني شراء الرغيف أو النبيذ .. ثم أنّي لو أخذته إلى الصاغة لبيعه فإنهم إمّا أن يتحايلون عليًَ ويخدعوني فيسرقوه عندها أخسر هذا الكنز أو أنهم سيطالبونني بنسبة كبيرة من الشراكة به مدّعين أنهم اكتشفوه أيضا . وعندها لن أحظى حتى بنصف قيمته . اعتراه ألم ممض وشعور انّ الأعين ستلاحقه أينما أخفاه فصار ما أن يخرج من مأواه لقضاء عمل ما حتى يقفل عائداً , مسرعاً كي ما يتفقده ويطمئن لوجوده . لقد تسربت إلى دواخله أذرع القلق والتوجس ووقف حائراً , مرتبكاً.. حتى جاء اليوم الذي شعر أنّه استعاد ثقته بنفسه فانبرى يحاورها : "لم أستفد من كل هذا , ولم تفدني هي . فقط ولّدَت لدي القلق والتفكير المرهق .وهذا سيجعل من يراني يساوره اليقين أنّ شيئاً ما يحدث لي .لم يجلب لي القدر سوى الحظ التعيس ."
تلك اللحظة إنبثقت في أعماقه بؤرة انشراح وقرار ارتياح استدار بتأثيرها إلى القِدر , حاملاً إيّاه , ومتوجهاً به إلى نهر " السين " ... هناك ؛ من منتصف الجسر رما به إلى الأعماق ، مختتماً كل بواعث الهواجس والارتباك .
أما المشكلة الثانية التي أفسدت عليه مزاجه وساعات إرتياحه فهي حضور ذلك النزيل الجنتلمان واتخاذهِ البيت المقابل للمأوى. كان الرجل يمتلك قرداً نزقاً ، عابثاً استطاع ارتكاب آلاف الحماقات والمخادعات المثيرة للإزعاج بينما وقف بلوندو غير قادرٍ على الشكوى للنزيل الوقور .
يقف القرد في شرفة البيت متطلعاً لما يفعله الإسكافي في مأواه وما يصنعه من قَطع السير الجلدية وإلصاقها ؛ ترميم الأحذية وترقيعها .. وحالما يبرح المسكين مكانه بغية تناول وجبة الغداء
أو العشاء أو قضاء بعض المتطلبات في الخارج حتّى يهب القرد هابطاً ، داخلاً المأوى ؛ ماسكاً السكين وقاطعاً بها ما يقع بيده من سيور وقِطع جلدية ،، تماماً كما كان يشاهد بلوندو يفعل .
إزاءَ ذلك لم يعد بلوندو الإسكافي ، المسكين يجرؤ على ترك محله لغرض إطعام نفسه أو الانصراف لتمشية بعض أعماله دون أن يخبئ جلوده ويخفيها ..
ولقد حدث لمرات عديدة أن نسي القطع الجلدية دون إخفائها في خزانته حتى إذا عاد وجد القرد قد عبث بها تقطيعاً وتمزيقاً ...
تنامى الغضب في قلبه وعظم .. وجد أنّه عاجزٌ عن إيذاء هذا المخلوق العابث خشية صاحبه . لكنه استمر محتدماً بالغيظ ، مصممّاً على إيجاد وسيلة كفيلة بالانتقام لنفسه ِ .
كان القرد يُقلِّد كل ما يؤديه الإسكافي .. إذا شحذ الإسكافي السكين شحذ القرد السكين بعده . وإذا أسند الحذاء بين ركبتيه جاء القرد بعده ، آخذاً الحذاء بين ركبتيه .. هذا ما شاهده بلوندو ؛ وهذا ما دفعه إلى دراسة الموضوع وتحقيق فعل الانتقام .
أخيراً وضع المخطط ؛ وقرر التنفيذ !
أمسك بالسكين فشحذها حتى غدا نصلها حادّاً كشفرة الحلاقة .. وما أن أبصر القرد يتطلِّع إليه من شرفة بيت صاحبه حتى أمسك السكين وراح يمررها قريباً من حنجرتهِ شمالاً ويميناً ليجلب انتباهه ... مارس ذلك لوقت ٍ كافٍ . وإذْ تأكدَ أنّ القردَ لاحظ الحركة بإمعان غادر مأواه لتناول غذائه .
وكالعادةِ هبط القرد مسرعاً ؛ مندفعاً برغبةٍ وشوق لممارسة اللعبة الجديدة التي أتقن النظر إليها ليتقن إداءها ... أمسك السكين .. وضعها بموازاة حنجرته ممررّاً إيّاها شمالاً ويميناً ؛ تماماً كما فعل بلوندو ..... ثم أنّه راح يقربها أكثر فأكثر إلى حنجرته ؛ بذات السرعة التي شاهد الإسكافي يؤدّيها ... ولم يَفَه إلاّ على السكّين تقطع حنجرته فتتّقهقر أنفاسه ؛ ويسقط مضرَّجاً بالدماء .
بونفنتور دي بيرير Bonaventure Des Périers:
(1500 – 1544) ولد من عائلة نبيلة . تسببّت كتاباته في خلق أعداء كثيرين له ممّا اضطره لترك باريس والاستقرار في مدينة ( ليون ) .. قضى منتحراً بسيفٍ غرزه في أحشائه .
تُرجم النص من كتاب _STORIES FROM MANY LANDS إصدار مؤسسة LONGMAN الطبعة الأولى 1984 .