قصة قصيرة


كنت في شاطئ ليدو (liido) في كسمايو مسترخياً عند
 زورقي المركون قرب الصخور الصماء على يمين أشجار النخيل الباسقات، وكنت مستمتعاً بزرقة الماء ومتأملاً بجمالية المكان
وشاعرية الموقف وبُعد الأفق الذي يتداخل بالتأني مع زرقة الماء عند منتهى البصر، كنت في مزاج عالي، وفي مشارف لحظة نادرة من الصفاء العميق إذ أطّلّت عليّ نجمة تدثرت بالجمال وتخمّرت بالبهجة! تحركتْ نحوي بإثارة مفتعلة وخطى ثابتة ترسم أصابعها الجميلة على رمال الشاطئ بلوحة بانورامية رائعة يجملها رزانة عجيبة ومشية لاريث فيها ولاعجل.

جلستْ بهدوء متكأة على كرسي خشبي مبلّل برذاذ الماء المتناثر على الهواء لحظة تحطم الأمواج على الصخور، وعلى صفح الجبال الممتدة على طول الساحل في أقصى زاوية من المكان الرومانسي المخصص للملكات بالأصالة، كشفتْ وجهها ورقبتها عن الخمار؛ فبدا وكأنه البدر في ليلة حالكة الظلام وحركات خصلات شعرها الفاحم زادت المكان جمالاً وبهاء وكأنه ضوء ماسي أخّاذ.

نظرتُ إليها برومانسية موغلة في البدائية وكأني أرعى أبلي في ريف طجحبور أو أعالي سهول نغال ولست سائحاً في منتجع
يرتاده العاشقون، وممن تجولوا العالم واستجمموا سواحل المتعة وشطآن الحب، وبعد معركة رهيبة في داخلي عزمت أن أوجّه إليها التحية كمناورة إستراتيجية وتلطيف للأجواء وكمقدمة لقصة قد تطول! لم تلتفتْ إليّ ولم تأبه لفضولي بل عزفتْ بوتر اللامبالاة المدويّة وتوغلت في نظرها للأفق وكأنها تقرأ تفاصيل الطبيعة أو مصابة بجفاف العاطفة وخمول الذاكرة، حاولتُ عبثاً أن أتقرب إليها وأتواصل معها عاطفياً لكنها واجهت بتوسلاتي الروحية وإيحآتي الرومانسية مزيداً من الغباء الذهني والبرودة المحيّرة ! ليت الأمر توقف عند ذلك بل فسرتْ هذه الجرأة المقصودة حباً للاستطلاع وفضولاً طفولياً ومناورة لصعلوك يتودد إلى قلوب الغواني، وربما قالت في نفسها هي مجرد حركات صبيانية ونزوة شبابية يريد أن تقوده إلى سندريلا الزمان ومن تغار عليها الظباء ويخفي القمر طلعته استحساناً لأغيدها.

وبعد إلحاح مثير من لغة الجسد استقبلتني بابتسامة باهتة بلا عنوان أظهرت ثغرتها وكأنها شمس تجلّت من غمام! جمعتُ قوتي ولملمتُ أطراف مشاعري وأرسلتُ إليها زفيراً ساخناً
وجملاً متقطعة ماكرة تلبي الحاجة وتفي المقصود، ولا تفضح الصب وتحمل التشبيب في طياتها ! ادارتْ وجهها الصبوحي بـ 90 درجة بسبب حياء أنثى تقليدي، وطغى في تعابيرها أناقة الرضى التي مهدت حواراً لم يدم طويلاً بل أجهضه الزمن كعادته.

غادرتُ شاطئ ليدو وأنا أجر جنين الحب وخيبة الفراق بعد أن فرق النوى بيننا، وفي سحيق الجوى تذكرت أبيات لأبي حزم، وتمتمت بها وأنا أودع لؤلؤة تنمقت يد الجمال عليها، ولا أدري هل يجمعنا الزمن مرة أخرى أم هكذا يطبع البين صورته على حياتنا ويفرق شمل المحبين؟ وهل تمر حياتي وتجمّل أناقتها على مسيرتي ولو كعابر سبيل؟!


كيف أذم النوى وأظلمها *** وكل أخلاق من أحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به *** فكيف إذا حل بي نوى وهوى



استغربت ضعف قلبي وسرعة عاطفتي ولكن أيقنت أن حصان المشاعر جامح دائماً، وأن بعض الحب يبدأ من أول نظرة، وأن لوعة الحب يصعب مقاومتها.


التبسّم والموافقة الوجدانية كانا أبرز إنجازي في ذلك المساء الصعب، وقد جمعنا اتصال عاطفي رهيب ورحلة وجدانية سريعة قصيرة وشيقة، اتبعها فراق البين ولا غرو فأيام الربيع أقصر فصول السنة وأروعها.

أرخى الليل سدوله وسلمت جفوني إلى الكرى؛ ولكن طاردني طيفها وهاجمتني إلف المحبة بلا حبيبة تشاركني لوعة الحب ووصال العشق، وبت ليلتي وأنا أعيش نية الوصل مع حبيبة غائبة 
في رحم الغيب لا أعلم هل أتلذذ بهمس حروفها ونشوة كلماتها وعبق أريجها الفواح؟ أم خلق لغيري ليعيش مسرات لا تنتهي وحبور لا ينقطع، توجهت إلى غرفتي الكئيبة تحت قبة ليل مظلم عاطفياً، كنت مجتهداً لتظيم تراكم الحب في رفوف الذاكرة؛ لأجعل حبي الجديد ملئياً بالشجن والجمال، ولكن الذكريات الصادحة من بعيد مع صرير الرياح ونباح الكلاب في حيّنا الهادئ، وفي غرفة حالكة الظلام أغرد فيها وحدي كفينيق عنيد يغرد فوق هضبة ذات أشجار كثيفة قرب عين بيدوا المدرار تجعلك لاتنام ليلاً بل تؤثر الأعصاب والمشاعر كفنجان قهوة ترتشفه على مهل في كافتيريا متواضعة على أعتاب خريفها في حيّ حمرويني العتيد، أو كمفارش القات في الفنادق الجميلة في هرر حيث يستقبلك الجميع بابتسامة روتيتية صفراء وأغاني شجية ذات الأوتار الخماسية التي تذكرك كيف يقفز الحب عوائق الطبيعية والحياة، وكيف يتلذذون بنهم واضح صوت العندليب وهو يعزف عوده الطري ويردد مناجاته الشجية مع الحبيبة ويعاتب الجغرافيا ويتذمر عن الطبيعية في جو رومانسي حالم،
كم أنا مولع بالمقاهي التي تقدم تلك الأغاني كطريقة خاصة للاستقبال والاعتذار معاً، وكم أحب الاعتذار الذكي في وسط المعاناة المشوبة بومضات زمن الجميل وفي الأجواء الخاصة عاطفياً.

وبعد إسبوعين من المعاناة وتعلق غريب لشخصية غير معروفة اعترفت أني لفي أصعب الحال من حبها والتعلق بمعدوم قد يؤدي إلى شرب المنون صفواً، وبما أنني لم أزل أتمسك بخيط الحب عن الذات والوقوع بحب غامض المعاني استحال الوصال مع المعشوقة عزمت أن أستمع لصوت العقل وانقطعت عن الغزل وأسبابه إلى الأبد وعدت إلى رشدي.


 حسن محمود قُرَني:


كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.


2 comments:

  1. تغرينا العطلات بحب أول غريبٍ نقابله، لله درَّ قلوبنا كم تنساق بطفولة لأي حدثٍ سعيد

    ReplyDelete

Twitter Bird Gadget