ضجيج بلا طبول

بقلم القاصة السورية: صفاء الشلبي



ضجيج ٌ ضجيج، يملأ رأسي….. أصوات ٌ متشابكة ٌ تدق عظام جمجمتي كَرقّاص ِ ساعة مضبوطة على إيقاع ضجيج صاخب.
كنت إذا ما حضرت حفلة عرس، أسمع الأغاني من أصوات أجساد النساء، فأهم لمشاركتهن، أتمايل مع ميلاتهن، أكتسب خبرة في رقصي من تماوج حركاتهن.
وتخرز عيني َّ أفواههن المفتوحة يطل ُّ منها حلاقيم ٌ متدلية تهتز حسب إيقاع الزغرودة …….

أعود إلى بيتي، أحاول إفراغ رأسي من الأصوات !! لكن عبثاً...  تبقى روحي راقصة على مُشاهَدَتهن، تشهق لها مسامعي.
وعندما أجلس على مائدة الطعام أبدأ بتناول طعامي؛ أشعر باللقمات داخل فمي يمضغها، كائناً يخاطبني بلغة لا أفهمها.


أكبس زر التشغيل في مسجلتي بعد أن أضع فيها شريط الكاسيت، تنفتح آفاق ٌ وسيعة في رأسي، تتداخل أصوات الموسيقا إما تتالياً أو تقاطعاً، تعلو وتنخفض، تصخب وتهدأ، أذهب بروحي بعيداً كسمكة تسبح في عمق المحيط، تمُرُّ في طريقها على حيتان لطيفة تملأ المكان سكينة، أو على مجموعة من الأسماك الصغيرة كأطفال ٍ اشتاقت لحناني، وتمرُّ على أسماك قرش ٍ تهاجمني لتأكلني، لكني أهرب منها إلى المحارات واللآلئ المختبئة خلف الصخور البحرية، أسترخي هناك وأتمتّع بجمال ٍ خلاّق. تلك هي رحلتي التي أقوم بها مع بيتهوفين.


أضع رأسي على وسادتي عندما يشتد الظلام، فتهمس  طراوتها بصوت حبيبي الرخيم ينساب عبر صدغي إلى داخل رأسي قائلا:
( أحبك ِ ….. أحبك ِ جداً …. يهاجمني وجهُك ِ، صوتك ِ، ضحكتك ِ، كلماتك ِ، أكاد ُ ألمسك ِ أمامي جسدا ًو روحا ً، ولأني أكاد فإن جنونا ًوهلوسة ً تكاد تصيبني !! كالممسوس ِ أهرب ُ منك ِ إليك ِ عبر أنفاقٍ تجهل أين منك ِ وأين إليك ِ . . . . إني أحبك ِ ……… ) .
في صباح كل يوم توقظُني زقزقة العصافير حتى يكاد رأسي ينفجر من كثافتها وغزارتها، أهب ُّ لرؤيتها واقفة ً على أشجار حديقة منزلنا . . . يشرق في عيوني نهارٌ جديد، ويولدُ من رحم الشمس أمل ٌ جديد.
أُباشرُ في قراءة رواية أو مجموعة قصصية، أسافر بين الصفحات أتقمّص كلَّ الشخصيات، أشعر بهمومها، بغضبها، أصرخ عنها، أقول عنها، وكل ُّ كلمة تتفوّه بها تلامس بوقعها روحي، أواسيها لأحزانها وأفرح لأفراحها، وبعد انتهائي من قراءة الكتاب تبقى الشخصياتُ بشحمها ولحمها داخل رأسي تمارس حياتَها، وأصواتُها تبعث الضجيج في رأسي وروحي.
أجلس كي أتابع المسلسل اليومي على شاشة التلفاز، يرتعش جسمي، وتتوتر روحي من أحداثه الدرامية، صراعات ٌ ومشاجرات ٌ ومشاحنات ٌ تعلو فيها الأصوات لينتفخ رأسي بضجيجها، وكلما كانت انفعالاتهم أقوى وأعنف، كلما كانت الأصواتُ أعلى، أما حين تذبلُ عيون الممثلين لينساب الدمع منها حزنا ًوقهرا ً، فإن َّ قلبي ينفطر عليهم مشاركا ًإياهم مصيبتهم، وتصرخ ملامحهم الحزينة في عيوني لتجحظ َ ذاهلة ً من علوّ أصواتهم المقهورة.
وفي فصل الشتاء أشاهد البرق فأشعر بالرعد يزلزل دمائي يصرخ متجهماً في وجهي فتتكاثر الضوضاء في رأسي وينبض قلبي بسرعة أكبر!! أشعر برهبة وأسبح من يسبح الرعد بحمده،
لكن صوتَ الرعد يعلو غضبُه كلما أضاء البرق ُ السماء بنور أقوى .


هكذا تقتحمني الأصوات ُ . . . . من كل ِّ صوب، من كل لون، من كل كائن . . . . .
والضجيج لا يمل ُّ من استيطان رأسي.
ذات إشراقة ٍ للتفاؤل، ركع َ الضجيج ُ بين تلافيف دماغي، وخشعت الأصوات في رأسي، عندما شاهدت أمّي وهي تومئ ُ لي بإشارات الصُّم والبكم قائلة:
( الحمد لله يا بنيتي !! هاتفني الطبيب وقال لي أن الأمل َ كبيرٌ !!! فاستعدّي لعمليتك ِ بعد يومين، قد يعود إليك ِ سمعُك ِ ونطقُك ِ من جديد ).





No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget