ما هذه الرائحة الأخرى؟ دعونا نستكشف الأمر.. غريب! قطعة
جبن مالحة .. رائحتها تكاد تطغى على رائحة الكُتُب .. مُزيّنة بِحُبيبات سوداء .. يبدو أنّه نوع من البهار.. هل وصل الكرم بالبشر إلى هذا الحد ؟ على مدار التاريخ كانت الوليمة المبالَغ فيها تبعث على الشكّ .. يعتقدون أنّ الفئران غبيّة إلى هذا الحد .. فيضعون السُّمّ هكذا بكل وضوح فوق الجبنة .. ويضعون جميع الاتفاقيّات وراء ظهورهم .. السُّمّ من أسلحة الدمار الشامل .. هذا هو الإقصاء وإلغاء الآخر.. بل محوه من الوجود .. لن أمسّ هذه القطعة مهما بدت مُغرية .
... أنا لا أستطيع مقاومة الكُتُب .. بينما المكتبة بالنسبة للقِطَط السِّمان هي مُجرَّد ديكور.. فلم أسمع في حياتي عن قطِّ واحد
ـ... هذه مجموعة قصصية .. غلافها برّاق .. مُزَيَّن بلوحة تشكيليّة .. لنأخذ منها قَضْمة .. تفو .. لا طعم لها .. عبارة عن قصقصة وتقييد أحوال .. اسمه ثلاثياً .. طويل .. أسمر.. نحيف .. أحول .. أعرج .. رقبته معوجّة .. يسكن في الدور الثالث .. هذه تقارير مُخبرين وليست قصصا ً.
... انتهينا من المقبّلات .. لندخل على الثقيل .. تلك الرواية الضخمة في الأسفل ستكفيني ربّما لعدة أسابيع أو شهور.. يا إلهي ألف صفحة ! من خبرتي في القَضْم أُدرك سلفاً أنّ الروايات
الضخمة لا تخلو أبداً من عشرات الصفحات الخالية من الطَّعْم .. من الصعب قول هذا .. لكن صدّقوني أو جرِّبوا بأنفسكم .. حتى الكُتّاب العمالقة العِظام يتورّطون في هذا .. كلّما قَضَمْتُ رواية ضخمة يتولَّد لدي سؤال :
ــ( ما يُمكن أن يُقال في مائة صفحة لماذا يُقال في خمسمائة ؟ )ــ
ـ هل انتهيت ؟
ـ مَنْ .. القِطّ ؟!
ـ في الواقع دخلتُ المكتبة قبلَك .. كنتُ مُستلقياً في الأعلى أستمع إلى خربشتك من أوّل الليل .. أنت في الواقع تحاور نفسك .. هذا ما يُسمّونه الحوار في غياب الآخر.
ـ الآخر! هذا الآخر الذي تتحدّث عنه لا يُمكن حواره إلاّ في غيابه .. الحوار يقتضي الأمان أولا ً .
ـ سمعتُ كل الهراء الذي تفوّهت به عن القِطط السِّمان .
ـ لَم يكن ذلك هُراءً.. هل تستطيع أن تقول لي كم كتاباً قضمتَ من هذه المكتبة ؟
ـ قضْم الكُتُب لا يعنيني .. مهمتي قَضْم الفئران .
ـ طبعا ً.. تعترف أنّك شرِّير.
ـ وهذا أيضاً هُراء .. أنا لستُ شرّيرا ً.. أنا أؤدّي دوري فقط.
ـ طبعاً .. من السهل قول ذلك .
ـ دعنا من هذه ( الطبعا ً ) .. أستطيع أن أقول لك إنّ الفأر هو الذي أوجد القِطّ .. أو لنقل خَلَقَه .. كما خَلَقَ الخروفُ الذئب .. وخَلَقَ الضفدعُ الثعبان .. الثعبان جائع .. والضفدع مسكين .. فما هو الحل في رأيك ؟ ستُحدّثني عن القسوة والوحشيّة وإلغاء الآخر وكل هذه الترهات التي تعلمتَها من قَضْم الكُتُب .
ـ هل يعني هذا انّــك ستلتهمني هذه الليلة ؟
ـ رُبّما الآن .. هل يُساورك الشكّ في ذلك ؟
ـ لديّ أُمنية أخيرة .
ـ كل أمانيك مُجابة .. هل ستتلو صلاتك ؟
ـ كنتُ أنوي أن أختم وجبتي الليلة بقطعة جبن .. كنوع من التحلية.
ـ لا بأس .. سأنتظر.. لا تعتقد أنني لا أملك قِيَما ً.
ـ لكنك مثل الجميع .. لا تتصرّف وفق قِيَمك .. أوووه .. طعم الجبن حرِّيف بعض الشيء .. انتقل الحرقان إلى رقبتي وإلى بطني .
ـ لماذا تستعجل ؟ تلذَّذ بأكلها كما يحلو لك .
ـ أوووه .. انتهيت .. انتهيت .. أنا مستعد الآن .. حتى دون أن أربط عينَيّ .. أسرع .. أسرع .
ـ في الواقع لستُ جائعاً !
ـ ماذا ؟! إن لَم تنْزل لالتهامي بسرعة فسأصعد إليك .
ـ غريب ! كنتَ منذ لحظة تتحدث عن الشِّرّ والقسوة .. هل تغيّرت قناعاتك بعد قطعة الجبن ؟
ـ أرجوك .. الرحمة .. انزل .. التهمْني !
ـ الفأر يتوسَّل القطَّ ليأكله .. يبدو أنّ مسار التاريخ يشهد في هذه اللحظة انعطافة حادّة.
ـ أتوسَّل إليك .. لَم أعد أحتمل.
ـ ألَم تقضم شيئاً من الواقعيّة في هذه المكتبة ؟ الواقعية السحرية ؟ أو حتى الواقعية القذرة ؟ لأنّك ترزح تحت شعور بالاضطهاد فأنت تُفكِّر وتتصرَّف بعقليّة انتقاميّة .. لستُ في حاجة لقَضْم الكُتُب لأعرف هذا .. قد أبدو مغفّلاً في نظرك .. لكن ليس إلى درجة أن آكل الفئران المسمومة !
أحمد يوسف عقيلة:
قاص ومدون ليبي وباحث في التراث الشعبي الليبي من مواليد
عام 1958 بأحد نجوع الجبل الأخضر بالقرب من مدينة البيضاء. تحصل على الشهادة الثانوية بالقسم الأدبي، يكتب القصة القصيرة والبحث في التراث، وهو عضو برابطة الأدباء والكتاب الليبيين. قرأ أحمد يوسف عقيلة لعددٍ كبيرٍ من الأدباء والمفكرين منهم الصادق النيهوم والكاتب الروسي تشيكوف. وبفضل قراءاته إضافةً إلى المخزون الموروث والتراثي المتراكم وجد نفسه يكتب الأدب. وربما كان اكتشافه لذلك متأخراً فكانت انطلاقته على المستوى المحلى المنشور خلال تسعينيات القرن الماضي.
No comments:
Post a Comment