في المقبرة



سار الموكب مهيباً. الميت مسجى في تابوته داخل السيارة البيضاء، وهي تسير مثل سلحفاة هرمة، يتبعها من الخلف سيل لاينتهي من السيارات التي تشارك في التشييّع وقد تزينت جميعها
بأكليل الورد حتى لتحسب موكب الجنازة حديقة تسير، فالمتوفى ليس كعامة الناس، بل من الأعيان وأصحاب الأطيان وامواله لاتأكلها النيران.
صمت ثقيل ينتقل حيثما المسير يحل، إلا من صوت الرجل بجانب السائق في أول سيارة وهو يقرب مكبر الصوت من فمه ويناشد كل من يصله صوته بطلب الرحمة للمتوفى. حيث اكتسى صوته مسحة من الجلال والوقار لمكانة المتوفي المادية. امتلأت المقبرة بالمشيعين عندما وصلت السيارة

اليها. ترجّل راكبوا السيارة وسط صمت جليل. تهافت الرجال وانزلوا النعش من السيارة، وساروا الهوينى باتجاه الحفرة، وقد وقف بداخلها حافرها وظهرت على محياه علامات الاستياء لأنه في عجلة من اتمام الأمر.
أشباح سوداء وقفت بلا حراك وقد صبغت القبور البيضاء بلون قاتم السواد. همس احد الأشباح لآخر وهو يراقب انزال الميت مسكنه الجديد. لقد غيبته الحياة عن الموت فأصبح عبداً لها، فنهره الآخر بصوت كفحيح الأفعى:
- اخفض صوتك، فنحن مازلنا في المقبرة. ثم استطرد :
- انظر إلى ذويه إنهم يظهرون الحزن الشديد في الوقت الذي ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء المهرجان ليبدأ كلام التركة.


عاد الأول موجهاً الملاحظة نفسها للمتكلم:
- اخفض صوتك، أرجوك، فالصمت يذهب بالأصوات بعيداً . ألا تلاحظ أن حفار القبور يتعمد دوس الميت بقدميه، ويقصد الرأس تحديداً، لابد أن المغفور له قد أساء معاملته يوماً كعادته مع كل البشر.
لكزه الثاني هامساً:
- قلت لك اسكت، فما زلنا في المقبرة.


فارس سمور:
فنان تشكيلي فلسطيني من مواليد حمص عام 1958.
وتخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق.


رئيس رابطة حمص لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين
شارك بعدد كبير من المعارض ويعمل كخطاط.
اهتم في لوحاته بالتركيز على الهاجس الفلسطيني والتزم بقضية شعبه.
سيطر على لوحاته اللون الكامد ومثل فلسطين بأغلب رسوماته بامرأة صامته منكسرة، لكنها دائماً شامخة.

No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget