مِن أجل غرين كارد





سان فرانسيسكو..واسعة.. كبيرة.. ضخمة يضيع فيها الغريب.

وجدها تجلس إلى طاولة في إحدى زوايا البار. كانت تبدو منهكة ثملة تنظر دون تحديد إلى حلبة الرقص وكؤوس البيرة الفارغة تصطف على الطاولة. تردد قبل الاقتراب منها، لأن رفض
الفتيات الرشيقات في البار دفعه إليها: “هل تودين الرقص معي؟”، فقامت مرتبكة دون أن تنظر إليه. 
ظل يقفز أمامها لا يقل عن نصف ساعة. لم تكن رقصته وقفزاته إلا شبيهة بقفزات معزاة أو خروف. وعزفت الموسيقى الهادئة فكان على من يريد أن يرقص رقصة (السلو) أن يعانق شريكته، فامتلأ هو حبوراً وعرقاً، وترك ذراعيه تطوقانها، فاكتشف أن يديه قاصرتان عن التلاقي لسماكة خصرها، فاكتفى بوضع إحدى يديه على كتفها والأخرى على خصرها. لاحظ بشكل سريع أن شعرها القصير يشبه في قصته أذيال الفئران. وعند انتهاء الموسيقى مشى وراءها إلى الطاولة كرجل خاض معركة عسيرة ثم شارف على الانتصار. ولم يلاحظ على مشيتها أية بوادر أنوثة كما أنه لاحظ أن قفاها يشبه باباً خالياً من التعاريج. وفي جلستها بدت مثل برميلٍ ملتف. دعته للجلوس، فتبسم وقعد بجانبها، فنظرت إليه من خلال بخار البيرة التي أثقلت دماغها وسألت ببرود السكارى:
- ما اسمك؟
- محمد. فاقتربت منه أكثر وسألت مرة أخرى: قلت ماذا؟ فجاور أذنها وهمس ببطء:
- قلت محمد. فرددت وهي تنظر إلى وجهه وكأنها تراه لأول مرة ثم لفظت اسمه بلكنة أمريكية متقطعة:
- موحاماد.
- نعم، موحاماد.. واسمكِ؟
- جينا .. من أين أنت؟
- من الشرق الأوسط. فقالت وكأنها اكتشفت مجهولاً:
- أنت إيراب. فنظر حوله واحتار ماذا يجيب، ثم استسلم ورد لكن مصححاً:
- نعم آراب .
- ماذا تعمل يا موحاماد في هذه البلد؟
- طالب في الجامعة.. أدرس كمبيوتر.. وأنت ماذا تعملين؟
- أعمل مديرة في مطعم مكدونلد.. هل أنت متزوج؟
- لا.. أنا عازب.. وأنت؟
- مازلت عازبة .. أسكن مع صديق.. هل أنت مرتبط؟
- لا .. لست مرتبطاً .. وأنتِ؟
- لست مرتبطة.. صديقي هو شريك في الشقة فقط.. قليلاً ما أراه.. يعمل في مشفى كممرض.
وخيم صمت بعد المحادثة، ظل هو ينظر إليها وهي تعب الشراب على دفعات وجرعات. وبدت نظراتها تائهة وحركاتها بطيئة. فقد تخدر جسمها من كميات البيرة الكبيرة التي شربتها.
ومن خلال ذلك الصمت خطفته ذكريات، فيها بشرُ وفيها أهل وفيها أقارب، وفيها أيضاً بنت جارتهم سعاد التي حاولت أمه أن تخطبها له قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة، لكنه رفض في ذلك الوقت.
وتنبه على قيامها وهي تقول:
- فرصة سعيدة .. هذا رقم هاتفي .. إذا أردت .. اتصل بي غداً، ربما نخرج للعشاء.
فقام هو أيضاً، وشاهدها تتمايل أمامه. تبعها فتعثرت بالكراسي وكادت تقع على الأرض. فأسندها من كتفيها. فاستدارت ونظرت إليه بشرود وقالت ببطء: شكراً لك.. أنا بخير يمكنك الذهاب. فتركها وهو يتابع خطواتها فتعثرت مرة أخرى برجل أحد الزبائن فتمايلت وهوت على الأرض، فانحنى عليها وأخذ ينهضها. ما إن تجلس حتى تعود إلى الأرض مرة أخرى. هو يصحح جلستها وهي تعود إلى الأرض. وسمعها وهي تقول: اتركني .. أريد النوم هنا. فاقترح عليها أن يوصلها إلى بيتها. فوافقت. ولم يصلا إلى السيارة إلا بعد شد ورفع وحمل وجر.
وفي الطريق ، قاد السيارة وهو يسأل: أين البيت ؟ من هنا .. من هناك .. يمين.. يسار .. طلعة .. نزلة.. البيت الفخاري .. البناء
الحجري .. هذه الدخلة أو تلك؟
أخيراً وصلا إلى البيت، فساعدها على النزول إلى حيث باب شقتها وودعها وغادر إلى بيته. وفي الطريق استعاد صورتها كاملة – جينا طويلة .. شقراء وسعاد قصيرة وشعرها أسود، جينا بدينة وسمينة وهذا لا بأس به حالياً، وسعاد نحيلة، جينا بيضاء .. وتلك سمراء، جينا صوتها فيه خشونة.. لا بأس الآن، وتلك صوتها ناعم عالي الطبقة، هذه لها فم صغير وتلك لها فم كبير.. والأهم من كل هذا أن زواج جينا سيحقق (غرين كارد) وإقامة دائمة في جنات أمريكا .. وزواج سعاد سيفرخ التعاسة والكآبة .
أصبح يفكر في الإقامة الدائمة، فمن خلال جينا وبطاقة الإقامة الخضراء ستزول حواجز موضوعة أمامه، وستتيسر طرق وميادين هي مغلقة الآن في وجهه. فعليه أن يعيد الكرة ويقابل جينا مرة أخرى وينمي العلاقة حتى يتسنى له الزواج.
في اليوم الثاني لبس أجمل ما عنده، وتعطر، وتوقف أمام المرآة يقيس طوله وغرة شعره الأمامية ثم مشى وهو مازال ينظر إلى المرآة يتفحص خطواته، يقيس وضع قدميه. ثم قاد السيارة إلى بيت جينا. كانت المسافة حوالي نصف ساعة في السيارة. مد رأسه من النافذة يتذكر، من هنا نزلت جينا والبناء كان حجرياً .. حديقة أمامية.. لا بأس .. هذا هو المكان. نزل من السيارة واتجه إلى مدخل البناية الضخم. ضغط زر الأنترفون وسمع صوتاً فيه خشونة يشبه صوت جينا: مَنْ هُنَاك ؟
- أنا محمد. الشاب الذي تعرف عليك بارحة.. و .. و .. وقطع صوته صوت قفل الباب يعلن عن انفتاحه: ” كليك”، فدفعه ودخل البناية الضخمة، وسار إلى الشقة المبتغاة في الطابق الرابع. هناك وقف على الباب ونقر بأصبعه عدة نقرات. ومضت فترة يسيرة حتى فُتح الباب على آخره وبرز شاب بدين أبيض البشرة أزرق العينين اقترب حتى ملأ فراغ الباب بجسمه الضخم وحجب كل النور الآتي من الشقة.
- هل جينا هنا؟ .. أنا محمد صديقها.
- نعم هنا .. تفضل يا موحاماد. لاحظ محمد أن لهجة الشاب الودية
تنمّ عن سابق معرفة. فسأل ليتأكد: هل جينا أختك؟ نظر الشاب إلى محمد طويلاً، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة غائمة: أنا جينا .. تفضل. تراجع محمد إلى الوراء ثم سأل ليتأكد من جدية أو مزاح الشاب: أنت تمزح .. أين جينا.. الصبية الشقراء؟ فتهدلت ذراعا الشاب ثم ارتفعتا تعبيراً عن صدقه: قلت لك أنا جينا.. تفضل.
تراجع وهو ينظر مندهشاً، ماذا جرى، لقد تحولت صبية البارحة إلى شاب. وعندئذ، ترك محمد الرجل واقفاً محتاراً وفر هارباً يبحث عن مخرج ليعود إلى بيته، ويسخر من نفسه وسذاجته.. ويترك مسألة (الغرين كارد) معلقةً إلى حين.
—————————————————–
نشرت في مجلة عشتروت اللبنانية-بيروت 2009-العدد 43-42





خليل الشيخة:
ولد الكاتب في سوريا، وهو كاتب قصصي ويكتب في النقد، تخرج بشهادة الماجستير في الهندسة من جامعة نورث كارولينا في الولايات المتحدة


الامريكية. يكتب في صحف ورقية والكترونية في القصة والأدب. 
أعماله بالتسلسل هي :

1. غابة الذئاب -قصص - دار الكرمل - عمان - 1996
2. الكلاب - قصص - دار الارشاد - حمص - 2004
3. انطباعات الزمن الفائت - مقالات ودراسات - حمص - اليمامة-2007
4. رسالة إلى السماء - قصص عالمية مترجمة- حمص - اليمامة-2009
5. ليلة سقوط القط الأبيض - قصص - حمص -اليمامة - 2011
6. ومضة ضمير -قصص عالمية مترجمة.






No comments:

Post a Comment

Twitter Bird Gadget